آخر تحديث: 4 / 12 / 2024م - 9:38 م

الإنجاز بين الفرد والمجتمع «الجزء الخامس»

من المسؤول عن الإنجاز وصناعة الحضارة، هل هو الفرد او المجتمع؟

استعرضنا في الأجزاء السابقة النظرية الأولى وهي الرأسمالية والتي تنص على أصالة الفرد والنظرية الثانية وهي الماركسية والتي تنص على أصالة المجتمع. وسنتحدث هنا عن النظرية الثالثة والتي تقول بأصالة الفرد والمجتمع معا. وسنخصص هذا الجزء عن تصور هذه النظرية الثالثة لتفاعل الفرد والمجتمع.

الفرد والمجتمع:

المجتمع ليس تجميعا ميكانيكيا للأفراد فمصلحة الفرد تؤدي بالضرورة الى مصلحة المجتمع، كما تقول الرأسمالية. وليس المجتمع مركبا كيميائيا ذابت أفراده كليا في المركب الجديد فما يهم هو مصلحة المجتمع كما تشير اليه الماركسية. إذن فماهي علاقة الفرد بالمجتمع؟

المجتمع مركب حي يتكون من أعضاء حية تتفاعل مع نفسها ومع بعضها البعض. فكل عضو يحافظ على إستقلاليته النسبية ولكنه في نفس الوقت يؤدي دوره كجزء من مركب حي كبير أسمه المجتمع. وهذا المركب الكبير أي المجتمع يتحرك ويتطور نتيجة حركة وتطور أفراده ولكن ليس بصورة ميكانيكية. فكل فرد يتحرك ويتطور ذاتيا بنسب مختلفة تعتمد على طاقاته واستعداداته، والمحصلة النهائية لتفاعل وتطور الأفراد هو تطور المجتمع. وحين يتطور المجتمع ينعكس ذلك على جميع الأفراد بصور مختلفة تعتمد أيضا على طاقاتهم واستعداداتهم الفردية. فللمجتمع حياة وقيم وثقافة تنسب اليه كمركب حي كبير، كما أن لكل فرد حياة وقيم وثقافة تنسب له كفرد.

وجدير بنا أن نلاحظ أن لكل فرد مساحة واسعة وحرية في نطاقه الشخصي للتغير والتطور ذاتيا بغض النظر عن بقية أفراد المجتمع، وقد ينجح في التأثير على بعض أفراد المجتمع ويدفعهم للتطور تدريجيا في نفس الإتجاه، حتى يكون هذا التطور هو السمة الغالبة على أفراد المجتمع فيصبح هذا التطور إجتماعيا. وليس من الضرورة أن يكون هذا التطور نتيجة تطور قوى ووسائل الإنتاج كما ترى الماركسية. ثم ينعكس هذا التغير الإجتماعي على بقية أفراد المجتمع الذين لم يتطوروا بعد، حتى يصبحوا جزءا من التغير الجديد. نعم، تتفاوت درجة التأثير والتغير حسب خلفية الفرد وتفاعله مع بقية المجتمع.

ويعزز التاريخ هذه النظرية في التغيير، وهي بإختصار «إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». فهذا رسول الله محمد بن عبدالله بدأ دعوته الى الإسلام وكان ثباته وعزيمته وحكمته عونا له في نشر دعوته. وقد ورد في الدعاء بيانا لصفاته: «صل اللهم على الدليل إليك في الليل الأليل، والماسك من أسبابك بحبل الشرف الأطول، والناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل، والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول، وعلى آله الأخيار المصطفين الأبرار». فمسيرة التغيير التي عاشها وقادها النبي خير مثال لقدرة الفرد على الإنجاز والإنتاجية، فقد نقل مجتمعه من ظلمات الجاهلية ووأد البنات وعبادة الأصنام الى نور الهداية وعبادة الله الرحمن الرحيم. وحين أنتشر الدين الجديد وأسس مجتمعه في المدينة المنورة، جاء فتح مكة ليدخل في الدين الجديد من بقي فيها من غير المسلمين. وهكذا قاد النبي هذا التغيير الذي كسر حاجز المكان والزمان، وستبقى البشرية تستضيء بأخلاقه وسيرته وشريعته الى يوم القيامة.

المجتمع كجسم الإنسان:

بنية المجتمع:

ذكر تفسير الميزان الجزء الرابع صفحة 95 - 96 أن أعضاء الإنسان المتفرقة كالسمع والبصر والأيدي وغيرهم تؤدي أدوارا مهمة ولكنها حين تتحد في جسم الإنسان الواحد تتولد منها الكثير من الفوائد التي لايمكن حدوثها بدون هذه الوحدة الجسمية. ومنها خاصية الإنجاب والتكاثر والسمو الروحي مثلا. وهكذا يكون تجمع الأفراد في البنية المجتمعية الواحدة، فتجمع الأفراد الغاية الواحدة، وتتحقق بها أهداف وطاقات تتعدى حدود الفرد وطاقاته المحدودة.

ولتقريب الفكرة، دعنا نتصور المجتمع كجسم كبير، تتكون أعضاؤه من عدة مجاميع من الأفراد، فهناك مجموعة أفراد تمثل يدا وآخرى تمثل رجلا وآخرى تمثل رأسا وآخرى تمثل عقلا وآخرى تمثل قلبا وهكذا. ويتفاعل أفراد كل مجموعة بداخلها ومع بقية أفراد المجموعات الآخرى في هذا «المجتمع» الجسم الكبير. ويجمع هذه المجموعات وحدة نوعية وغاية مشتركة في هذا الجسم المركب الكبير فحين يكون المجتمع سليما يتحرك أفراد هذه المجموعات التي تمثل أعضاء الجسم لخدمة الجسم الكبير أي المجتمع وتتعاون فيما بينها لتحقيق الغاية المشتركة. وهكذا تتضح علاقة الفرد المتفاعلة مع بقية أفراد المجتمع، ووجوده معهم متحدين ضمن الجسم الإجتماعي الكبير.

أنظمة المجتمع:

نعرف أن لجسم الإنسان دورة دموية ودورة هضمية ودورة تنفسية يكمل بعضها بعضا وهي في حالة توازن كامل إن كان الجسم سليما. كذلك فللمجتمع أيضا أنظمة تتكامل وتتوازن فيما بينها مثل: النظام التعليمي والإقتصادي والثقافي وكل الأنظمة التي تعمل في حياة المجتمع. وكل نظام كما هي الدورات البيولوجية في جسم الانسان لها مدخلات ومخرجات وتجري فيها عمليات ولها نظام تحكم يضمن كفاءة المنتج. فكما في التنفس يدخل الأكسجين ويخرج ثاني أكسيد الكربون، ويتم ذلك في الجسم من خلال الدورتين التنفسية والدموية، فكذلك تتكامل الأنظمة الأجتماعية والتعليمية والأقتصادية. خذ مثلا نظام التعليم فمدخلاته هم الطلبة والأساتذة والمناهج، والمخرجات هم خريجو وخريجات المدارس والجامعات، والعمليات هي التدريس والتدريب، ونظام التحكم هو مراقبة الأداء وتصحيح المناهج. فحين يكون هذا النظام التعليمي قويا تتخرج الكفاءات لتلتحق بالقوى العاملة في المؤسسات والشركات ويثمر النشاط الإقتصادي. ولكن حين يكون النظام التعليمي ضعيفا يكون مستوى الخريجين او الخريجات ضعيفا، فحين تلتحق كقوى عاملة بالمؤسسات والشركات ينتقل هذا الضعف ليؤثر سلبا على النشاط الإقتصادي.

صفات المجتمع:

تبين فيما مضى أن المجتمع يشبه مركبا كبيرا متفاعلا من مجاميع إنسانية يحمل صفات الحياة والتطور والإنتاجية، فله ثقافة وقيم ويشار إليه بإستقلالية عن الفرد الذي يعيش فيه. فقد يكون المجتمع منتجا بينما يكون هذا الفرد او ذاك غير منتج والعكس صحيح. وذلك لأن الصفة والروح الجمعية في هذا المركب الإجتماعي الكبير تعكس الصورة الغالبة عليه. وهذه الصورة الغالبة على المجتمع الكبير او الروح الجمعية قد تكون نتيجة:

أكثرية المجتمع تتسم بهذه الصفة الغالبة،

الأقلية تتسم بهذه الصفة ولكنها تؤثر وتتحكم في مسيرة المجتمع،

وجود شخصيات معدودة ولكنها مؤثرة ومحورية تمثل الواجهة لهذا المجتمع.

علاقة المجتمع بالمجتمعات الآخرى:

قد يكون المجتمع متكاملا ومتزنا فيعمل جميع أفراده وأنظمته في حالة تناغم وتكامل فيما بينها وكأنها جسم الإنسان حين تعمل عيناه وأذناه ويداه ورجلاه وبقية أعضائه كوحدة واحدة لخدمة الجسم الواحد. ولكن هذا لايعني أنه سيتعامل كمجتمع مع المجتمعات الآخرى بنفس الدرجة من الإتزان والتكامل. تماما، كما قد تعتدي يد إنسان فتقتل او تسرق إنسانا آخر. وخير مثال على ذلك هو بعض المجتمعات الغربية التي تتسم بأعلى درجات التكامل في داخلها ومع أفرادها فتهتم بمصالحهم وتسهر على راحتهم ولكنها في نفس الوقت قد تعتدي على مجتمعات آخرى في الدول الفقيرة دون أي وازع من رحمة. فحين ينظر الإنسان الى هذه المجتمعات يجب عليه أن ينظر الى تعاملها ليس فقط مع أفرادها بل أيضا مع المجتمعات الآخرى. وهذه إحدى سلبيات الرأسمالية في سعيها الحثيث للسيطرة على بلدان العالم الفقيرة لتحصل منها على المواد الخام الرخيصة ولتغرق أسواقها بمنتجاتها الصناعية والزراعية.

مصلحة الفرد او مصلحة المجتمع؟

قد تتفق مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع وقد تختلفان، المهم أن يكون هناك توازن وتكامل بين المصلحتين. خذ مثلا جسم الإنسان فلو أن يد الإنسان تستفيد من أدوية معينة لتعطيها القوة والنشاط ولكن هذه الأدوية قد تكون قاتلة للإنسان فتسبب جلطة قلبية او دماغية فهل سينصح الطبيب بها؟ أو أن هذه المنشطات تنمي يدي الإنسان حجما وقوة على حساب أعضائه الآخرى فيصبح جسمه شاذا، فهل من المفيد إستخدام هذه المنشطات مثلا؟ من هنا يتبين أن النظرة الرأسمالية الى مصلحة الفرد كمعيار للإنجاز والإنتاجية بغض النظر عن مصلحة المجتمع ليس صحيحا. فمصلحة اليدين مثلا كما سبق قد تكون قاتلة للجسم او مشوهة له.

وبالمثل، فليس كل مايبدو أنه مصلحة إجتماعية يعتبر معيارا للإنجاز والإنتاجية. خذ مثلا، قد تكون هناك منشطات تبعث النشاط والحيوية في جسم الإنسان من خلال تسريع الدورة الدموية، ولكنها تتسبب لاحقا في إصابة عضلة القلب بالتضخم، أي أن مايبدو أنه مصلحة للجسم قد يكون في الواقع على حساب القلب، فهل ينصح الطبيب بمثل هذا؟. ولذلك فإن نظرة الماركسية بأن مصلحة المجتمع هي معيار الإنجاز والإنتاجية دون مراعاة مصالح الأفراد ليست صحيحة.

يوجد توازن دقيق وحساس بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع، وهذا التوازن يمثل المعيار الحقيقي للإنجاز والإنتاجية. أما كيف نستطيع الوصول الى هذا التوازن الدقيق والحساس فذلك ما سنناقشه مستقبلا إن شاء الله.

رئيس جمعية مهندسي البترول العالمية 2007
والرئيس التنفيذي لشركة دراغون اويل سابقا.