المعجم وعلم الدلالة.. نظرة عامة
”مُعجَم“ اسم مفعول من أَعجم، أي أزال الإبهام والغموض: أعجمَ يُعجم، إعجامًا، فهو مُعجِم «اسم الفاعل»، ومُعجَم «اسم المفعول»، والأصل عَجَم/ عُجمة وهو الغموض. قال تعالى: ”وَلَقَد نَعْلَمُ أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ“ النحل: 103، ومن ضمن دلالة صيغة ”أفعل/ إفعال“ هو سلب المادة الأساسية؛ فتكون أعجم بمعنى سلب العُجمة، وهو الذي يناسب تسمية هذه المصنفات بالمعجم/ المعاجم، فتكون أعجم بمعنى أبان، ومنه اُشتق كلمة ”مُعجم“؛ لأنه يُبين المفردات ويُوضِّح معانيها ويُزيل غموضها.
وقد بدأ التأليف في المعاجم منذ وقت مبكر، وأول معجم هو ”العين“ للخليل بن أحمد الفراهيدي «ت176 هـ » على خلاف في صحة نسبته إليه، وإنما سمي بالعين لأنه ترتيبه جاء صوتيًا بدءًا من الحروف الحَنجرية وهو صوت العين كما يراه مؤلفه، والصحيح أن أول صوت حَنجري هو الهمزة ثم الخاء، وبما أن تلك المرحلة كانت تشهد إرهاصات التفكير الصوتي، فظُن أن العين هو أول صوت، ولكن لاحقًا أدرك العلماء أن صوت الهمزة هو الأول.
أما أقدم استعمال لكلمة معجم في عنوان كتاب كان في القرن الثالث الهجري وهو ”كتاب الأغاني على حروف المعجم“ لمؤلفه حبيش كتبه للخليفة العباسي المتوكل، وقد وضع برزخ بن محمد العروضي ”كتاب معاني العروض على حروف المعجم“، وهكذا توالت المؤلفات التي تحمل هذا العنوان.
والمعجم هو ذلك المُصنَّف الذي يُعني بمعاني المفردات مرتبةً ترتيبًا هجائيًا على أساس الحرف الأول من جذر الكلمة «غالبًا» مع ذكر الشواهد عليها من فصيح الكلام، وعلى رأسها القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكلام العرب شعرًا ونثرًا، بالإضافة إلى ضبطها، كما أنه يُعنى بالاشتقاق، والرجوع إلى أصل الكلمة، أو ما يسمى عندهم اصطلاحًا بالمادة، وما يتفرع منها من اسم الفاعل والمفعول وصيغ المبالغة وأسماء الآلة واسمي الزمان والمكان، وما إلى ذلك من أقسام الاشتقاق.
وحين نقول إنهم يذكرون دلالة الكلمة فإن ذلك يعني عندهم التوسع في هذه الدلالة، خصوصًا في المعاجم المطولة نحو لسان العرب لابن منظور، وتاج العروس للزبيدي، وغيرهما. هذا التوسع يشمل التعريف بالمختصر وبالمرادف وبالضد وبالمثال، فليس بالضرورة أن يكون التعريف بالجنس القريب والفصل القريب، حسب اصطلاح أهل المنطق، بل يشمل كل ما ذكروه في هذا الباب.
ولنأخذ شاهدًا على ذلك، مما بحثه ابن منظور في ”لسان العرب“ في مادة ”ز ي ط“:
" زاطَ يَزِيطُ زَيْطًا وزِياطًا: نازَعَ، وهي المُنَازَعةُ واخْتِلافُ الأَصوات؛ قال الهذلي:
كأَنَّ وَغَى الخَمُوشِ بِجانِبَيْها
وَغَى رَكْبٍ، أُمَيْمَ، ذَوي زِياطِ
هكذا أَنشده ثعلب وقال: الزِّياطُ الصِّياحُ.
ورجل زَيّاطٌ: صَيّاحٌ، وروي: ذَوِي هِياطِ.
والزِّياطُ: الجُلْجُلُ، وأَنشد بيت الهذلي أَيضًا". لسان العرب، ابن منظور، مادة ز ي ط.
نلاحظ في هذا النص:
1 - ضبط الكلمة: زاطَ يَزِيطُ زَيْطًا وزِياطًا.
2 - ذكر اشتقاق الكلمة: الماضي والمصدر بصيغتيه: فَعْل وفِعال: زَيطًا وزِيَاطًا، وهذا مبحث صرفي.
3 - الدلالة ”المعنى“: المنازعة، واختلاف الأصوات، ما يعني أن هذه المفردة لها معنيان.
4 - الاستشهاد على المعنى ببيت الهذلي الآنف الذكر.
5 - ذكر آراء لغويين، وهو ثعلب، في تأييد الاستشهاد ببيت الهذلي «وبصحة روايته بذات الألفاظ»، وإضافته معاني أُخَر، حين قال: الزيَّاط هو الصياح.
فتحصل أن معنى المفردة ”زيط“:
أ - المنازعة.
ب - اختلاف الأصوات.
ج - الصياح.
ويمكن الرد المعنى الثالث إلى الثاني.
وما نريد قوله هنا: إن المعجم ليس مجرد كتاب لذكر معاني المفردات وكفى، بل يتعدى ذلك إلى قضايا صرفية ونحوية وأدبية؛ ومن هنا عُدَّ التأليف في هذا الجانب هو من الكتابات الموسوعية.
وهنا ينبغي الالتفات إلى أمور:
1 - انحسار مراجعة المعجم لدى المتعلمين خاصة، ولدى الناس عامة، فها هو الطالب يقطع مسيرة دراسية طويلة من الابتدائية إلى المتوسطة مرورًا بالثانوية وانتهاءً بالجامعة، وهو لا يعرف من المعجم حتى اسمه إلا مَن قلَّ وندر، وقد كانت هناك محاولات خجولة في مقررات اللغة العربية في التعليم العام، تمثلت في وضع معجم قصير منتقى لبعض المفردات التي تأتي في نصوص القراءة، سرعان ما حُذفت في طبعات لاحقة!، وكأنه فضول ينبغي أن يستغنى عنه، وقد أدَّى ذلك إلى ضعف شديد في مهارة الرجوع إلى المعاجم.
وقد دأبتُ على تدريب طلابي على كتاب ”مختار الصحاح“، لمحمد بن أبي بكر الرازي، وجعلتُه أساسًا في حصص اللغة العربية، وقد نتج عن ذلك إتقانهم لاستخدام المعجم، لكنهم سرعان ما يهملوه إذا انتقلوا إلى مستوى أعلى؛ لذلك جدير بالقائمين على التعليم أن يولوا هذه المادة عناية، ولتقرر من ضمن المناهج الدراسية في مراحل التعليم العام والجامعي.
2 - يتفرع من ذلك ضحالة شديدة فيما يمكن أن نطلق عليه بالمعجم الشخصي لدى الناس عامتهم وخاصتهم على حد سواء إلا قليلًا منهم، ونقصد بالمعجم الشخصي هو تلك المفردات التي تشكل مخزونًا لدى الإنسان يتداولها في تواصله مع الآخرين، بل في كتاباته إِنْ كان من أرباب القلم، وفي خطاباته ومحاضراته إِنْ كان من أصحاب البيان، وليرجعْ كل واحد منا إلى معجمه في باب التحية والسلام «مثلًا»، وهو أمر يتكرر عشرات بل مئات المرات يوميًا، يلاحظ أنه يكرر ذات الكلمات كل يوم مع أشخاص متعددين ومختلفين عُمرًا وجنسًا ومكانة، ومن هذا المنبر أوجه دعوة لإخواني وأخواتي بزيادة عدد المفردات التي نتداولها يوميًا في حياتنا الاجتماعية عامة، والعلمية/ الثقافية خاصة. إننا نرى أن الدارسين لغاتٍ أخرى يحرصون أشد الحرص على أن يتزودوا كل يوم بمفردات جديدة، في حين أنهم لا يبذلون جهدًا يُذكر في لغتهم الأم.
3 - حين نؤكد على العناية بالمعجم، ليس لحفظ مفردات صماء تُردَّدٌ عشوائيًا، بل لأن اللغة وعاء الفكر وحضن الثقافة، وظيفتها تتعدى مجرد التواصل بين الناس. إن الكتُّاب والشعراء والمتحدثون، سيكون خطابهم أرقى ورسالتهم أبلغ وتصويرهم أجمل حين يكون لديهم كنز من المفردات، وأقصر طريق للحصول على هذا الأمر هو مراجعة معاجم المعاني «سيأتي لاحقًا، إن شاء الله، التعريف بها، والفرق بينها وبين معاجم المعاني»، نحو ”فقه اللغة وسر العربية“ لأبي منصور الثعالبي «ت 429 هـ »، والكتاب متوفر بطباعة فاخرة وبسعر زهيد.