غيبوبة التحرش الإلكتروني
مع تصاعُد مُعدلات ”التحرش“ عبر وسائل التواصُل الإلكتروني إلى درجة صار يبدو معها أن بعضهم يعتبرون أمرًا كهذا ”مُعتادًا“؛ لا بد وأن ينبثق في الذهن تساؤل عن الطريقة التي كان يعيش بها أولئك المُتحرشون ويُمارسون فجورهم قبل انتشار الإنترنت!
فقبل بداية الألفية الثالثة لم يكُن الإنترنت فردًا من أفراد كل أسرة كما هو الآن، وقبل ثورة الهواتف الذكية التي تعمل شاشاتها باللمس ولا يحتاج التعامل معها إلى قدرات عقلية مُتميزة أو حتى قُدرة على القراءة والكِتابة لم يكُن باستطاعة كل من هب ودب من المُتحرشين ضخ أطنان من الكلمات الفاحشة عبر الأثير أو التقاط صور أعضائهم التناسلية وإرسالها لكل مخلوقات العالم الأنثوية «وأحيانًا غير الأنثوية» بنقرة إصبع على الشاشة. الله أعلم ما نوع تلك المشاعر الغريبة التي تجعلهم يُدخلون هاتفهم المحمول تحت سراويلهم كي يلتقطوا هذا النوع من الصور، لكن من المؤكد أن هذا الخيار لم يكُن مُتاحًا قبل أن تُصبح تلك الهواتف بعدسات تصويرها مُتاحة لمن هب ودب، فهل كان انتشارها هو سبب وِلادة تلك الظاهرة؛ أم أن جذور الفكرة كانت دائمًا موجودة - بطريقة ما - في نفوسهم، لكنها طفت على السطح وارتدت ثوبها المادي متحولة من فكرة إلى سلوك مع سهولة الوصول إلى الجنس الآخر «على افتراض أن المتحرش سوي من هذه الناحية على الأقل، ولا يستهدف الأطفال أو ابناء جنسه»؟ وهل كان المانع الوحيد عن تلك السلوكيات التي تعتبرها مُعظم المُجتمعات سلوكيات ”غير أخلاقية“ وترى فيها ”انتهاكًا لمشاعر الآخر“ هو الحدود والقيود التي كسرها الإنترنت؟ أم كان هناك رادع أخلاقي حقيقي يجعل النفس تأبى مثل هذا السلوك وتترفع عنه من تلقاء ذاتها دون قيود خارجية؟
شخصيًا يبدو لي مثل هذا السلوك ”غاية في البلاهة“ عدا عن كونه غير أخلاقي وأبعد ما يكون عن التحضُّر الإنساني، إذ لا يُمكن اعتبار إرسال اشياء من هذا النوع إلى أشخاص مجهولين أمرًا ينم عن قدرات عقلية طبيعية، ومهما كان مُنتشرًا لا يُمكن اعتباره سلوكًا سويًا مثل تصرفات كثيرة منتشرة في النور أو تحت الظلام لكنها في حقيقتها انحرافات تقود البشرية نحو هاوية مؤلمة.
المُفارقة المثيرة للاهتمام أن بعض أولئك المتحرشين الإلكترونيين يُرسلون ما يُرسلونه دون وعي أو تفكير؛ وعندما يتم فضحهم، التشهير بهم، السعي للانتقام منهم، أو تقديم شكاوى ضدهم، يبدو وكأنهم استيقظوا فجأة من غيبوبة! يبدأ الهلع، التوسلات، الاعتذارات، الاستعداد لدفع أي مبلغ أو فعل أي شيء مُقابل التستر على تلك الفضيحة ومحو آثارها بعد لسعة التبِعات المُجتمعية والعائلية والمِهنية المُخزِية، والتبِعات القانونية التي لا تعرف المُزاح، ما يجعل أي انسان عاقل يتساءل بدهشة: أين كان وعيهم وشعورهم بالمسؤولية خلال ارتكابهم هذا الفعل الطائش رغم كونهم بلغوا سن الرشد؟! هل كانوا يرون العالم كله فاسقًا مثلهم ولن يسعى لردعهم أم كانوا مُستهترين يتصورون أن الأمر محض تسلية؟!
مهما بدت بعض التصرفات سهلة؛ يجب أن يكون الوازع الأخلاقي هو الحد الفاصل بين فعلها أو عدم فعلها، وما يؤدي إلى فضيحة حين يتم الإعلان عنه يجب تجنب ارتكابه في الخفاء لأن كل سر معيب هو ”مشروع فضيحة“ قد تدمر مستقبل الإنسان لأنه لم يحسب لها حسابًا أو يُقيم لها وزنًا.