السلطان بالتواضع ينتصر
الامام علي بن موسى الرضا السلطان ابو الحسن اسم يجتمع فيه معاني العبودية، فالرضا من المقامات العليا ومن صفات الاولياء الراضين بالقضاء والقدر.
فهذا جده الامام الحسين في كربلاء وهو يشاهد مصرع الابناء والاخوان والانصار يقول:
«رضا بقضاءك لا معبود سواك»
والعقيلة زينب بعد مصرع سيد الشهداء ولم يبقى لهم جيش بني اميه حمي ولا ولي تقول:
«أن كان هذا يرضيك فخد حتى ترضى».
هذا مقام من السمو والمكانة لا يصله الا الائمة ومن سار على خطاهم من الاولياء واصحاب المعارف، فالإمام الرضا اتصف بهذه الصفة ووصل الى ان يكون ضامن الجنه لمن زاره عارفا بحقه حيث ان ثواب زيارته لا يمكن إحصاءه، حفيد الرسول الأكرم صلى الله عليه واله، من بيت أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطيرا، هم الثقل الذي لا يفارق القران الكريم، لا يضل المتمسك بهما، وهم سفينة النجاة التي من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ولد في المدينة المنورة في 11من ذي القعدة سنة 148 هـ جري، عاش في كنف ابيه آلامام موسى بن جعفر ما يقارب 35 سنة، وتولى مسؤولية الإمامة بعد والده ما يقارب من ال 20 سنة، عاصر الامام الرضا عهد الخليفة العباسي هارون عشر سنوات، ثم ابنه الأمين ثم المأمون، ابتلى فيها الامام الرضا بمصائب كثيرة تجرعها بصبر وثبات، مر بحياته بمراحل حرجه، واتسمت تلك الفترة كسابقتها من الخلفاء الأمويين والعباسيين بالقسوة والظلم والتنكيل والتعذيب والقتل لأئمة اهل البيت وشيعتهم.
دعا الخليفة العباسي المأمون في عام 22 هجري، الامام علي بن موسى الرضا أن يقدم من المدينة المنورة إلى خراسان وبعد رفض من قبل الامام لمعرفته لمكر وغدر بني العباس وما فعلوه من إرهاق الدم العلوي، وصل الامام الرضا مجبرا ارض خراسان وعرض المأمون على الامام ان يتولى الخلافة، هذا المنصب التي كلف المأمون ان يقتل اخاه الأمين ويحضر رأسه من بغداد ويعلقه في قصره، بعد حرب دامية استمرت خمس سنين قتل فيها آلاف الجنود. وبعد ارهاب متواصل لكل من يعترض طريقه حتى الأقربين وحاشيته لم يسلمون من طغيانه.
عندما رفض الامام استلام مقاليد الخلافة وهو يعرف مكره ويخبر غدره، أجبر المأمون الامام ان يتولى ولاية العهد ورفض الامام الرضا ذلك، وهدده المأمون بالقتل أن رفض، استلم الامام ولاية العهد وهو يعرف غدر بني العباس وخبث سريرتهم، وان هناك مخطط يرسمه المأمون للوصول الى مأربه الخبيثة. فالإمام يعرف بغض بني العباس لأهل البيت واتباعهم وتاريخهم حافل بسيل من الدماء الطاهرة، فمن قتل أخيه من اجل كرسي ومكانة دنيوية لا غريب ان يسفك الدماء ابحر من اجل البقاء في التحكم والسيطرة التامة على مقاليد الحكم، فما فعله مع الامام مكشوف لك صاحب لب وعقل وما فعله الا اصطناعا ودوافع شخصية خادعة من اجل ديمومة حكمه، فقد كانت هناك ثورات علوية اراد كما يقول المثل ان يضرب عصفورين بحجر المكر، اراد ان تتوقف الثورات العلوية ضد فساد وظلم بني العباس في ظل وجود الامام الرضا في ولاية العهد، وكما اراد ان يوجد وضع من التوتر والإرباك في الصف الموالي لأهل البيت بأن أمامهم ركن للظلم العباسي وأصبح من المدافعين عن الفساد المستشري والظلم الفاحش، فالإمام يعرف ان كل ما يقوم به المأمون ماهو الا نفاق وكيد وفتنه اراد ان يشعلها ويجني ثمارها تسلطه وزيادة عدوانيته تحت شرعية وجود الامام ، حاول ان يأخد الفائدة ما استطاع وان يقتل الامام اجتماعيا ودينيا وان الامام متوافق مع سياسة المأمون وفرحا بالرئاسة وسعيد بالوجاهة.
ان مخططات المأمون غير النزيهة باءت بالفشل الذريع، فعمل الامام مع ما يخالف تطلعات المأمون، بالعمل بالعدل والإحسان ونشر تعاليم الاسلام الحقة وتثبيت مبادئ الدين في وجه كل من اراد سوء بالإسلام، فقد جلب المأمون علماء من الديانات المسيحية واليهودية من اجل مناظرة الامام الرضا والانتصار عليه، فكان يحاور المسيحين واليهود بكتبهم ويتكلم معهم بلغتهم، ازداد فيها الامام فضلا ومكانة، ليس في علمه فقط بل بتواضعه حيث وصل الامر ان تبرز أصوات ان الامام خير من يستلم مقاليد الحكم، بما شاهده بأم عينهم كيف يعامل من حوله من الخدم والفقراء والعاملين في ديوان الخلافة بكل تواضع ويأكل معهم ولا يتميز عن أحد منهم، يعود مريضهم ويتبع جنازتهم ويجيب دعوتهم يسلم على الكبير والصغير لا يتعالى على احد جميل المعشر، بقى على سيرته المتواضعة الزاهدة العابدة يعيش حياة أضعفهم يعظ ويدرس يسكن كما يسكنون يحضر أفراحهم ويقف معهم في مصابهم، اصبح الناس يتقربون من الامام بفضل تعامله معهم وطيب سجاياه وقربه من الله سبحانه تعالى وبعده عن متاع الدنيا وحياته المتواضعة.
قال تعالى:
«وعباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما».
قال رسول الله صلى الله عليه واله:
«لا حسب كالتواضع».
هذا التواضع ميراث من النبي صلى الله عليه واله سار على نهجه جميع الائمة نور يضئ سماء الدنيا اشراقا يكسب قلوب متعطشة لهذه القيم السامية فهم القران الناطق والبيان الواضح.
قال الامام زين العابدين في دعاءه:
«اللهم ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنه عند نفسي بقدرها».
وروي: «أن سليمان بن داود إذا اصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجئ إلى المساكين فيقعد معهم ويقول مسكين مع مساكين».
فهذه العلاقة الربانية والأخلاق المحمدية انتصر فيها الامام علي بن موسى الرضا على المكر والخبث العباسي، مما جعل العيون المسلطة عليه والجواسيس من حوله، وغضب وكره الوزراء وأركان الحكم عليه مما خلق من جو نظيف وواقع نزيه جعلهم يبثون الشائعات ونقلها الى المأمون من اجل القضاء على الحالة الصحية ورجوع الوضع الفاسد وانتشار المصالح الشخصية.
اصبح المأمون يستشعر خطر تطور الأوضاع من حوله وازدياد اتباع الامام وعلو مكانته الاجتماعية والثقافية والدينية، وجيل من الاتباع كبرت مكانتهم وبان تأثيرهم يحملون مشعل الهداية، كل ذلك جعل المأمون يشاهد الخطر على وجوده واستمرار ملكه ولم يحقق من مخططه ما يريد بل انقلب الوضع رأس على عقب، وبدأ يظهر على حقيقته الغادرة ويخطط لقتل الامام الرضا ، حيث دس المأمون في عنب ورمان مشبع بالسم، تناوله الامام واعتل ثلاثة ايام واستشهد من اثر ذلك السم.
رثاه دعبل:
قبر بطوس به أقام امام حتم إليه زيارة ولمام
قبر امام به السلام وإذ غدا تهدي إليه تحية وسلام
قبر سنا أنواره تجلو العمى وبتربه قد يدفع الأسقام
قبر إذا حل الوفود بربعه وحلوا وحطت عنهم الآثام
وتزودوا أمن العقاب وآمنوا من أن يحل عليهم الإعدام
قبر علي بن موسى حلّة بثراه يزهو الحل والاحرام
من زاره في الله عارف حقه فالمس منه على الجحيم حرام
وقال دعبل:
الا ما لعين بالدموع استهلت ولو نفدت ماء الشّؤون لقلت
على من بكته الأرض واسترجعت له رؤوس الجبال الشامخات وذلّت
وقد أعولت تبكي السماء لفقده وأنجمها ناحت عليه وكلت
فنحن عليه اليوم أجدر بالبكاء لمرزئه عزت علينا وجلّت
رزايانا رضي الله سبط نبينا فأخلفت الدنيا له وتولّت
تجلت مصيبات الزمان ولا أرى مصيبتنا بالمصطفين تجلّت
في ظل مكارم أخلاق الرضا ويوم شهادته الحزين نتعلم من فضائل هذه الشخصية العظيمة فقد وصل الى ما وصل له من مقام الإمامة والسلطان والوجاهة وكل زمام الامور تحت يده فلم تغير من تواضعه، بل كانت تنعكس حبا لمن حوله ورغبة في رضا خالقه سبحانه وتعالى.
قال الامام علي :
«ما تواضع أحد إلا زاده الله تعالى جلاله».