البناء الذاتي والحوار سلاح المرحلة
مؤشرات كثيرة تبدو على أرض الواقع باتجاه تأكيد مسار الحوار بين القوى الإقليمية في المنطقة لتخفيف التوترات والصراعات القائمة، بعد أن استنزفت الكثير من الإمكانيات والثروات - وأهمها الخسائر البشرية - وتدمير البنى التحتية والتماسك الاجتماعي في العديد من دول المنطقة، لنكتشف في الأخير أنه لا أحد منتصر في النهاية في كل هذه التوترات والحروب.
واكتشفنا أيضًا أن القوى الكبرى تلعب على إحياء وإبراز مختلف التناقضات في مجتمعاتنا وتأجيج الصراعات البينية وإثارة النعرات والعصبيات، من أجل أن تبقي هيمنتها وسيطرتها وتوسع من نفوذها وتسرق ثرواتنا في صفقات التسلح والحاجة المستمرة للحماية والدفاع والأمن.
أمام هذه التجارب المريرة التي عاشتها مجتمعاتنا في المنطقة العربية، ودفعت تكاليفها باهظة، فإننا في أمسِّ الحاجة إلى مراجعة متأنية وتقييم شامل، ينتج عنهما وضع استراتيجيات واضحة تأخذ بعين الاعتبار أولوية البناء الذاتي والتوافق الإقليمي.
إن الاعتماد على النفس وبناء القوة الذاتية وتأهيل جميع أبناء الوطن بلا استثناء في مختلف المجالات، هو أهم سلاح نمتلكه، فهو ما يجعل بلداننا أكثر قوة وصلابة وتماسكًا وإنتاجية، فأي جهة خارجية ستظل تبحث عن مصلحتها أولًا وأخيرًا وليس عن مصلحتنا نحن إلا بمقدار ما تخدم أهدافها ومصالحها.
منهج البناء الداخلي يتطلب حشد الهمم ووضع الكل أمام مسؤولياتهم الوطنية والتاريخية، وإطلاق المبادرات المدنية، وتعزيز الحوسبة والشفافية والنزاهة، والدفع بجميع فئات المواطنين للمشاركة الفاعلة وتأكيد العدالة والمساواة بين الجميع، واحترام اختلاف الرأي والتعبير عنه.
وعلى الصعيد الخارجي، فإن المسار الأفضل هو في تهيئة بيئة مناسبة للحوار مع مختلف الأطراف الإقليمية، ومحاولة تصفير النزاعات والوصول إلى مستويات معقولة من ضوابط فك الاشتباكات والنزاعات في المنطقة، ومع أن هذا المسار تشوبه العديد من المحاذير والمصاعب والتحديات، إلا أنه أصبح أمرًا لا مفر منه في سبيل تخفيف الأعباء المالية الناتجة من الحروب والعداوات والتخفيف من خسائرها وأضرارها الآنية والمستقبلية.
الدول الإقليمية التي تبحث عن نفوذ لها في المنطقة العربية وبالخصوص إيران وتركيا وإسرائيل، تحاول أن تبقي التوتر قائمًا كي تستنزف ما بقي من ثروة ومكانة وتماسك في دولنا، حتى تكون أكثر قدرة على الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ، وكي لا تحقق هذه الأطراف أهدافها، فلا بد من معالجة الخلافات البينية وتعزيز التلاحم الإقليمي أمنيًا وسياسيًا واقتصاديًا، ورأب التصدعات القائمة.
الحوار يتطلب - بشكل طبيعي - بذل المزيد من الجهد المتواصل، والنفس الطويل وعدم استعجال النتائج، وطرح الأهداف والمصالح واضحة، ودعم الأطراف المعتدلة لدى الأطراف الأخرى.