آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:55 م

بين مسلسلات الأمس واليوم

زينب البحراني *

أحيانًا يجرفنا الحنين لمشاهدة بعض الأعمال الدرامية التي قدمها التلفاز العربي للجمهور من منتصف سبعينات القرن العشرين حتى بدايات تسعيناته، ولأن ”يوتيوب“ وهبنا فرصة إعادة مُشاهدة تلك الكنوز التي يحتفظ بها في صندوقه المُقدس؛ نعود بأبصارنا ومسامعنا للسباحة في بحر روائع مثل ”هو وهي“ من بطولة سُعاد حسني وأحمد زكي، ”هي وغيرها“ بطولة صابرين ومحمد ثروت، ”نار ودخان“ بطولة شيريهان ومصطفى فهمي، ”عازف الليل“ من بطولة هند أبي اللمع وعبدالمجيد مجذوب، فيأسرنا مستوى الأناقة في الحوار، حجم الشغف والموهبة عند كل فردٍ من أفراد فريق العمل الفني، والهدوء ذو المزاج الرفيع في تفاصيل الأحداث، والرومانسية الرقيقة في التعامل بين البطل والبطلة بعيدًا عن العناد والعنف المُبالغ فيه مهما كان الخِلاف بينهما.

حياةٌ لذيذة تجعل المُشاهد يتمنى القفز إلى داخل الشاشة ليعيش الحكاية بكل ما فيها من مشاعر وأفكار سامية وأحداث مُمتعة تُعزز من شعوره بإنسانيته وحُبه لحياته، وتوجه زوايا رؤاه نحو آفاقٍ جديدة راقية تتجاوز حدود خياله، وهذا ما يستحق أن يوصف عن جدارة بكلمة ”إبداع“.

لماذا اختفى هذا المستوى الرفيع من الإبداع عن شاشة اليوم إلى درجةٍ صار فيها المُسلسل بلا تأثيرٍ قادرٍ على الرسوخ في وجدان المُشاهِد؟ لماذا فقدت الأعمال الجديدة ذاك المذاق الشهي الذي بسببه يتوق الجمهور لإعادة مُشاهدة العمل الفني مرة واثنتين وثلاث دون ملل؟ لقد تغلبت المنظومة التجارية على مكانة الشغف والموهبة، ووضعت قوانين نمطية جديدة تُحدد شروطًا تجارية يمكن قياسها بالمسطرة لكنها تجاهلت ذاك التوهج الذي ينبثق من الروح الإبداعية الحقيقية، والذي يأسر من يراه ويسمعه ويخلب لبه من أول همسةٍ ونظرةٍ مهما كانت الإمكانيات المادية بسيطة أو متواضعة.

الوجه المصبوغ بأغلى مساحيق التجميل وفق أحدث التقنيات التلوينية لا يُمكن أن يُنافس الروح الأنثوية الشقية المولودة بعشق الفن، والعضلات المصقولة مع الشعر المصفف وفق آخر صيحة لا يستطيع أن يُنافس نظرةً واحدةً مفعمة بالرجولة والعنفوان من عين ممثلٍ يذوب غرامًا في هذا المجال، الدراسة الأكاديمية وحدها لا تصنعُ مُخرجًا ما دامت مُخيلته أضيق من ابتكار صورةٍ جديدة تخلب اللب وتعيش في الذاكرة، ورص الكلمات بجوار الكلمات والسطور فوق السطور لا يصنع كاتبًا مُبدعًا للقصة والسيناريو والحوار ما لم يملك الكاتب في أعماقه شُعلة الإبداع المُتجدد والارتباط الوثيق بمنابع الثقافة والأدب.

ما يحدث اليوم يُشبه إعداد شطيرةٍ مُبهرجةٍ سريعةٍ مُكتنزة بالطبقات لكنها دون طعمٍ مميز، سيأكلها المُشاهد لأن وقته بحاجةٍ إلى إشباع، لكنه لن يُفتتن بها كي يفكر بإعادة أكل مثلها مرةً أخرى، على عكس تلك المسلسلات التي شاهدناها، ومازلنا نُعيد مُشاهدتها، وسنعود مرةً أخرى لتغذية ذوقنا بمشاهدتها من جديد لأن طاقتها الساحرة من النوع الذي لا يُمل ولا يُكتفى منه. بل إن بعض أعمال اليوم تُقدم في قالبٍ أدنى من مُخيلة المُشاهد، وأقل من ثقافته، فلا يرى فيها جديدًا ولا يشعر بتأثير، قد تُناقش قضايا حديثة، لكنها ثافهةٌ سطحية فقيرة إلى القيمة والعُمق والقدرة على الإشباع الداخلي لاحتياجاته النفسية والفكرية.

لا أظن أن عالمنا العربي اليوم يفتقر إلى الموهوبين الحقيقيين والعشاق الصادقين للفن، لكن انتشار السخف أضعف أصواتهم واحتل أماكنهم مُعتمِدًا على الإبهار الرخيص، رغم أن بإمكان الإبهار أن يكون راقيًا ورفيع المُستوى ليُساهم في ارتقاء مستوى مُتلقيه كما كان ذات يوم.

كاتبة وقاصة سعودية - الدمام