المتقاعدون والطاقات المهدرة
تشير الدراسات إلى أن عدد المتقاعدين خلال العقد الحالي والعقد القادم هو في تزايد مستمر، إذ أن العدد الأكبر من المهندسين وأصحاب الحرف التحق بسوق العمل في عقد الثمانينات من هذا القرن. ولا يخفى على ذي لب أن جل هؤلاء المتقاعدين هم من أصحاب الكفاءات العالية والخبرات الكبيرة. ولقد لاحظنا جليا في السنين القليلة الماضية تزايد عدد المتقاعدين في سن مبكرة جدا. هذا المقال ليس الغرض منه دراسة وتحليل هذه الظاهرة وسبر أغوارها بقدر مايتطرق إلى أثرها والإستفادة منها.
بغض النظر عن أسباب التقاعد التي من الممكن أن نحيلها للمرض مثلا أو الإغراءات المالية والفوائد الكبيرة التي تعرضها بعض الشركات على موظفيها ليتقاعدوا مبكرا أو للإجبار على التقاعد لبلوغ الموظف سن التقاعد الإلزامي أو لرغبة الموظف لخوض تجربة وظيفية أخرى مختلفة عما كان يقوم به من قبل أو لأسباب أخرى شخصية كانت أو غيرها، فإن كل هذه الأسباب تؤدي إلى نتيجة واحدة وهي الإستغناء عن كفاءات وطاقات عالية وربما ضياعها وعدم الإستفادة منها.
إذن كيف يمكن الإستفادة من هذه الكفاءات وهذه الطاقات؟ بعض الإحصائيات والدراسات التي عملت على المتقاعدين تشير إلى أن أغلبهم يرغبون في الإنخراط في أعمال تناسب قدراتهم وخبراتهم وتخصصاتهم. البعض يعزون ذلك لقلة الموارد المالية التي يحصلون عليها بعد التقاعد بالإضافة إلى تزايد أعباء الحياة الإقتصادية، والبعض الآخر يريد أن يجعل من نفسه فردا فاعلا ومنخرطا في سوق العمل إذ أنهم لم يعتادوا على التعامل مع هذا الفراغ الكبير في حياتهم. وحتى المتقاعدين الذين أحسوا بالراحة والتحرر من قيود العمل بعد التقاعد، لو سألتهم عن أحوالهم بعد سنة أو سنتين مثلا سيجيبوك بأنهم كانوا يتوقون بشوق لليوم الذي يتقاعدون فيه عن العمل، ولكنهم بعد أن استمتعوا ببعض الأعمال كالسفر وإعادة تصميم وتحسين المنزل وبناء أماكن سكن لأولادهم وبناتهم ليساعدوهم على تحمل نفقات العيش والإسمتاع بتزويجهم وكذلك التفرغ للعب والعناية بأحفادهم والتفرغ للقيام بكثير من المتع التي كانوا محرومين من ممارستها وقت العمل، بعد كل ذلك سيخبروك بأن الملل بدأ بالتسلل إلى نفوسهم وأنهم يرغبون للقيام بأعمال أخرى تناسب طاقاتهم وكفاءاتهم.
هذه الدراسات تشير أيضا إلى أن الكثير من الشركات تبحث عن موظفين ذوي خبرات عالية في تخصصات محددة ولكنها لاتجدهم بسهولة، مما يؤدي إلى التأثير بشكل سلبي على سير أعمال هذه الشركات لفقدانها هذه الأدوار التي كان يقوم بها المتقاعدون من موظفيها. وكذلك الحال بالنسبة لمؤسسات المجتمع المدني وجمعيات العمل الخيري، فإن هذه المؤسسات جميعها تعاني من فقر شديد في وجود المتخصصين من أفراد المجتمع الذين بإمكانهم تدعيم عمل هذه المؤسسات وتقديم خدمات كبيرة ومتخصصة تفيد مجتمعهم.
نحن إذن بحاجة إلى إنشاء منصة تقوم بإحصاء المتقاعدين في كل مجتمع وتصنيفهم كل حسب تخصصه وكفاءاته. هذه المنصة ممكن أن تكون عبارة عن قاعدة بيانات تحوي معلومات متكاملة عن هؤلاء المتقاعدين الراغبين في خدمة مجتمعهم في مجالات تخصصهم وخبراتهم. كما أن قاعدة البيانات هذه يمكنها أن تستخدم لتمويل بعض الشركات الباحثة عن أفراد يتمتعون بخبرات كبيرة وتخصصات فريدة في مجالات معينة. إذ أن الكثير من الشركات بدأوا بتغيير توجهاتهم في توظيف العاملين في مجالات معينة على نحو دائم إلى التوظيف المؤقت، حيث أشارت بعض الدراسات إلى أن التوظيف الدائم في بعض الشركات لايتعدى الستين في المائة مقابل أربعين في المائة ممن تحتاجهم الشركات للقيام بأعمال متخصصة على نحو مؤقت. يمكن للمتقاعدين القيام بالعمل المهم والمعقد الذي يتطلب مهارات متخصصة، سواء كان ذلك من خلال تشغيل الآلات أو المنتجات أو أنظمة تكنولوجيا المعلومات القديمة المعقدة أو إكمال العمل الاستراتيجي المتراكم الذي يتطلب معرفة مؤسسية عميقة.
لو عاينت الكثير من المتقاعدين في مجتمعاتنا والذين لا يستغلون أوقاتهم بشكل مرضٍ لوجدت الكثير منهم ربما يعاني من أمراض نفسية وصحية كالإكتئاب وغيره من الأمراض. في حين أشارت بعض الدراسات في المجتمعات التي تستفيد من خبرات المتقاعدين كبيري السن إلى أنهم يتمتعون بصحة جيدة وأن حوالي 84٪ من المنخرطين في النشاطات الإجتماعية تحسنت صحتهم وزاد استقرارهم وأن 88٪ منهم يقولون بأنهم أصبحوا أقل عزلة وأكثر راحة نفسية.
هناك الكثير من النشاطات التي يمكن للمتقاعدين في مجتمعاتنا أن يسهموا فيها بشكل فعال ويوظفوا خبراتهم وطاقاتهم لخدمتها. يمكنهم الإنخراط في الأقسام المتخصصة في الجمعيات الخيرية وتزويدها بالإستشارات المفيدة لتستفيد من خبراتهم في مجالات متعددة أو يوظفون خبراتهم في دعم العمل المؤسسي الخيري في المجتمع. كما يمكنهم التواصل مع المدارس الحكومية مثلا لتقديم ورش ومحاضرات متخصصة مجانية لمساعدة الطلاب في موادهم الدراسية إو إطلاعهم على معارف وتقنيات أخرى. كذلك يمكن للمتقاعدين من القطاع الصحي أن يسهموا بنشر الوعي الصحي في المجتمع أو التطوع لخدمة المؤسسات الصحية بشتى أنواعها. كما يمكن لمجموعة من المتقاعدين أن يجتمعوا في تأسيس عمل ربحي يدر عليهم الأرباح ويساهم في توظيف العاطلين من أفراد مجتمعهم مما يكون له أكبر الأثر في تكوين أسر سوية ومجتمع خالٍ من الجرائم. وهناك الكثير من النشاطات التي يمكن للمتقاعدين المساهمة فيها كما أن هناك الكثير من المتقاعدين الذين يرغبون في خدمة مجتمعهم بلا شك.
نتمنى أن نرى في المستقبل القريب منصة تجمع كل هذه الطاقات والكفاءات العظيمة وتوجيهها في الإتجاه الصحيح والإستفادة منها بالشكل السليم لكي ننعم بمجتمع قوي وصحي ومتكاتف لايسمح بإهدار طاقاته وكفاءاته أبدا.