انها والله الشهادة
هو مات ولكنه لم يكن موتا طبيعيا.. ليس كباقي الناس.... انه شهيد.. ربما لا تجد في قواميس اللغة مفردة اكثر حمولة بالمعاني من كلمة شهيد. فجميع الشعوب وبكل اللغات تتغنى بها.. فهي تحمل معاني السمو والقداسة والعدالة وحب الوطن والعزة والكرامة والعنفوان والدفاع عن المبادئ والخلود واكثر
كلمة شهيد لم تكن معروفة في القاموس العربي الجاهلي بهذا المعني وإن كان الجذر والمفردة موجودتين ومستعملتين... لكن الاسلام أضفاها على استعمال جديد ومعنى مستحدث.. يشير الى الحضور والرقابة.. فالله على كل شيء شهيد والشهيد اقتبس من صفة الله ليكون شاهدا على أمته وزمانه
وتوسع اللفظ بعد ذلك في دائرة الاسلام ليشمل من قتل دون ماله او وعرضه وربما كان ذلك من باب المشابهة بالقتل دون المبادئ ثم توسع الاستعمال لاحقا فسمي من يقاتل دون وطنه مسلما كان ام لم يكن شهيدا وسمي من اغتيل بغير وجه حق شهيدا تجوزا وتوسعا في استعمال اللفظ.
وفي الديانة المسيحية تطلق الكلمة في الأغلب على من قتل رافضا التنازل عن دينه ومعتقده «فهم يعتقدون ان المسيح مضى شهيدا وكل من فتن في دينه فقتل» اما الاستعمال بمعنى الشهيد المقاتل في المعركة فليس من الثقافة المسيحية ربما للتغاير الواضح بين تطور المسيحية والإسلام كدينين سماويين
واما في الثقافة الغربية الحديثة ومع امتداد الفلسفات النفعية والبراغماتية على مساحة الحياة في الغرب فقد تهاوت القداسات الدينية والوطنية وضمرت فكرة الشهادة او ماتت الى حد استغراب البعض اليوم من الغربيين من وجود بشر على وجه الارض مستعدين للدفاع عن مبادئهم والتضحية بنفوسهم لمجرد الدفاع عن فكرة او مبدأ مما يعد ضربا من الجنون وليس هذا بغريب في ثقافة تغولت فيها المادية الى ابعد حدود
وان كانت الفكرة موجودة لدى الشعوب والديانات التي سبقت الاسلام فما من شك ان الاسلام اعلى من شأن الشهيد والشهادة بما لا يقارن بغيره من الأديان فهم ”احياء عند ربهم يرزقون“ ”وفوق كل ذي بر بر حتى يقتل الرجل في سبيل الله“ وهم في المقدمة يوم القيامة يشفعون فيشفعون وهم يومئذ الأقرب مجلسا الى أنبياء الله ورسله " مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وهو الذي تفوح من مضجعه روائح المسك والعنبر ويزف كما يزف العريس الى عروسه.. وقد وهبت هذه المنزلة الكبيرة التي أعطاها الاسلام للشهادة قدرة قتالية عالية للمسلمين وخاصة في الصدر الاول استطاعوا بها ان يقهروا جيوش الفرس والروم
واذا كان الاسلام هو القمة في اعلاء قيمة الشهادة من بين الامم والأديان فان الحسين بن علي هو المصداق الاول لهذه القيمة في تاريخ الاسلام بدون منازع تعضده في تبوء هذه القمة العالية خصائص عديدة فهو سبط الرسول الشخصية الاولى في عالم الاسلام وهو ابن شخصيتين عظيميتين فاطمة بنت محمد وعلي بن ابي طالب علمين من اعلام الاسلام من القرابة القريبة للنبي محمد ص. وهو فوق ذلك حظي برعاية خاصة من لدن جده رسول الله فهو وأخوه ”سيدا شباب أهل الجنة“ وهو امام ان قام او قعد و”حسين مني وأنا من حسين احب الله من احب حسينا“ كل ذلك جعل له منزلة في نفوس المسلمين لا تداني
واذا أضفت الى ما ميز شخصه ما ميز الحادثة والظروف التي احاطت بشهادته في كربلاء تدرك اي قمة في عالم الشهادة ارتقى الحسين
فقد قام طالبا الإصلاح طالبا للعدالة ونهض في قلة قليلة من أهله وصحبه في وجه جيش جرار بعدما تعرض للخيانة والغدر ودخل في معركة غير متكافئة انتهت بقتله وجميع من معه بطريقة وحشية مأساوية لا تليق بقاطع طريق.. قتل وحيدا ظامئا بعيدا عن وطنه واستلب رحله وسبي حرمه.. في شهر الله الحرام.. لوحة مأساوية لا يمكن ان ترى مثيلا لها..
اذا استجمعت ذلك تدرك السبب الذي جعل الحسين أغنية للأحرار على مر التاريخ مسلمين وغير مسلمين رأوا فيه مشعلا يضيء طريقهم ويرفع معنوياتهم ويشحذ هممهم ورأى فيه الكثير من المظلومين والمسحوقين والمستضعفين عزاء وسلوة. هذه العاطفة التي فجرها مقتل الحسين خلقت الآلاف من الشعراء الذين هاموا في مشاهد الفاجعة فرسموا لوحات فنية لرجال ونساء وفتيان كربلاء تغنت بها الأجيال ورددتها الحناجر... خلق نوعا من الأدب في الثقافة العربية والإسلامية سمي بالأدب الحسيني.. انها عين ثرة من عاطفة لا تنضب
واليوم ومع تمدد المفاهيم الغربية في المجتمعات الاسلامية ومع تشويه بعض المسلمين صورة الشهيد والشهادة بسلوكهم وخصوماتهم وتوظيفاتهم السياسية الا ان الكلمة لا زالت تحمل قداسة خاصة وعبقاً مميزا يزيدها الشهداء العظام كالحسبن واصحابه وهجا وخلودا كلما تجدد الزمان وتقادم العهد
السلام على الحسين
وعلى اولاد الحسين
وعلى اصحاب الحسين