”والفضل ما شهدت به الأعداء“ كذب الشاعر العظيم!
جرت عادة الكثير ممن ينخرط في الحوارات والنقاشات الدينية أن يستدل بكلام أوكتب نده أو خصمه الذي يتحاور معه أو بكتب وحديث ممن يتفقون مع ذلك الخصم في الدين والعقيدة على اعتبار أن ”الفضل ما شهدت به الأعداء“ صحيح دائماً. وفي أحيان كثيرة يكون الاستدلال أو الاستشهاد بكتب الآخرين المختلفين ديناً وعقيدةً حتى لو لم يكونوا أطرافا أو خصوماً في الحوار، ولكنهم عادة من المشاهير والمعروفين الذين بلغ صيتهم وسمعتهم الآفاق. ولست أدري إن كان سبب ذلك هو ”أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده“ على حد تعبير ابن خلدون.
ومهما يكن من الأمر، فإن دواعي وأسباب ذلك ليس من هدف هذا المقال، وإنما الهدف هو تحليل وتقييم هذه الطريقة في الاستدلال الشائع. بعد إنعام النظر في هذا الأسلوب الاستدلالي، ربما يتبيَّن لك أنه ناقص ولا يصح اعتباره دليلاً تاماً بحال من الأحوال كما سنرى ذلك في السطور القادمة. ولكي تتضح الصورة، سأفترض بأن حواراً قائماً بين مسلم ومسيحي، حيث يستدل المسلم فيه - وهذا ما يكون عادةً - بكتب ذلك المسيحي أو بكتابات بعض المسيحيين الذين يتوافقون مع ذلك المسيحي المتحاور ديناً وعقيدةً والتي تمدح أو تعزز عقيدة المسلم بطرق غير مباشرة.
ولكي تتجلى الصورة أكثر وتكتمل بشكل أكبر أراني مضطراً لأن أختار موضوعاً محدداً كمثال حي لما أريد طرحه وتوضيحه. دعنا نتفق على سبيل المثال على أن الحوار هو في نبوة محمد ﷺ وأن المسلم يحاول جاهداً إثبات ذلك من خلال كتب بعض المسيحيين الذين تحدثوا عن النبي ومدحوه ومجدوه. ولنفترض جدلاً بأن المسلم حشد أقوالاً لبعض المسيحيين التي تمدح وتعظم النبي محمد ولكن لا على اعتبار أنه نبي مسدد من قبل الله، بل على اعتبار أنه بشر وإنسان عظيم فقط. فتلك الأقوال التي أتى به المسلم ظناً منه بأنها ستكون دليلاً قاطعاً وحجة دامغة في إثبات نبوة النبي محمد ﷺ، لن يكون تاماً، وربما لن يكون دليلاً مقبولاً أصلاً، وذلك لأن المنطلق الذي انطلق منه المسيحي في مدح وتبجيل النبي محمد مختلف تماماَ عن المنطلق الذي ينطلق منه المسلم. فالمسيحي الذي رفع شأن النبي محمد لم يعتبره نبياً مرسلاً من قِبل الله وإلا لتحوَّل ذلك المسيحي إلى مسلم كسائر المسلم وهو ما لم يحدث.
فبرغم أن المسيحي قد أبرز عظمة النبي محمد، إلا أنه لم يعتقد به نبياً على الاطلاق. فهو قد مدحه وبجله كما يبجل أي عظيم من المبدعين الكبار من الفنانين والشعراء والمفكرين وغيرهم. لذلك؛ فإن هذا الدليل لا يعتبر كاملاً وربما لا يعتبر دليلاً صحيحاً أصلاً، خاصة إذا ما وجدنا آراءً أخرى لمسيحيين ينتقدون وينتقصون ويقللون من عظمة محمد ﷺ. فإذا استدل المسلم ببعض كتب وأقوال المسيحيين التي تلتقي - كما يعتقد - مع عقيدته، جابهه المسيحي منتقداً إياه بقوله: ولم أغفلتَ الكتب والأقوال المسيحية الأخرى التي لا تتفق مع معتقدك والتي تنتقد محمداً وتعتبره بشراً يفتقد خصال وميزات العظماء. فهذا المسيحي يتهم خصمه المسلم بأنه ”كسر عنق النص“ وبتر النص من سياقه ليستل منه ما يريد فقط. فذلك المسلم لم يأخذ النص بتمامه وكماله ولم يبرز الصورة كاملة كما هو مفترض. وهذا خطأ منهجي، لأنك لا يستقيم أن تأخذ بجزئية معينة من معتقد أو دين معين لتستدل بها على صحة معتقد أو دين آخر بأكمله. فأنت، مثلاً، لا تستطيع أن تستدل بتحريم بعض المذاهب المسيحية أو الدين المسيحي كله، إن صح ذلك، للرِّبا دليلاً على صحة الدين الإسلامي لمجرد هذا الاتفاق بين الإسلام والمسيحية في هذه الجزئية. وهذا الأمر يشبه تماماً من ينتقي من دين معين ما يراه يصب في صالحه ويلاقي توجهاته ويطرح ما لا يلتقي مع مصالحة أو توجهاته جانباً. فمثل ذلك الإنسان كمثل الذي يأمن ببعض الكتاب ويكفر ببعضه.
وتكمن خطورة مثل هذه الطريقة في الاستدلال أيضاً في أنك ستجد أن بعض تلك الكتب أو الكتاَّب الذين يؤيدون ويزكون شخصاً بعينه، يؤيدون ويزكون - في الوقت نفسه - شخصاً آخراً هو على النقيض تماماً من الشخص الأول مع كون كلا المشخصيْن يحملان المعتقد أو الدين نفسه، وما ذلك إلا بسبب أن منطلق تلك الكتب أو الكتب تحتمل جمع ذينك الشخصيتين ووضعهما في سلة واحدة. ولعلنا لن نألو جهداً في أن نجد كتب المذاهب الإسلامية وقد طفحت بمثل تلك الأمثلة التي - وهذه الحال - لن تكون أدلة معتبرة ولا تامة أبداً.
ومن ذلك كله نخلص إلى أنه ليس من الدقة والصواب أن نستدل بشكل مطلق ودائم بكتب وكتابات الخصوم الداخلون معنا في الحوار والنقاش حينما تكون منطلقاتهم مختلفة عن منطلقاتنا حتى وإن تقاربنا في النتائج.