الحَجُّ في أدب الرحلات
«لَنْ تَعْرِفَ الحَجَّ حتّى تَحُجّ»؛ هو ممّا سمعتُه وربّما عايشته عن الحجّ كفريضة خامسة أو ركن خامس في الإسلام، وهي مقولةٌ مشحونةٌ بالدّلالةِ ومكتنزةٌ للمعنى الوفيرِ الذي تحمله، مع ما يحتمل من تعدّد معانيها وتجليات مقاربتها بحسب المتلقّي لها.
ويبقى في مصّنفات أدب الرحلات الدينية نماذج بارعة في تدوين واستقصاء منسك الحج كشعيرة تعبديّة ذات ارتباط بالأبعاد أو المواقيت الزمانية والمكانية، هذه النماذج يمكن أن تغني الجانب المعرفي وتحفز الجوانب المعنوية لدى قاصد الحجّ بدرجة أو أخرى.
وكيف يمكن وصف الحالة القلبية الماتعة التي يمرّ بها كلّ من يشاهد البيت الحرام لأوّل مرة؟ إنّ ذلك الفيض الإلهي هو ساعة قلبية خالصة، قد لا تتكرر بنفس المشاعر إلاّ عبر اشتراطات أغلبها تشير إلى كبح نزعات الأنا أمام هذا المشهد العظيم؛ فبالقدر الذي يتمكن أحد منّا الوصول إلى واحد أو أكثر من روافد الاغتراف المعنوي، تتهيأ فرص استشعار المشهد بدرجة قد تفوق ما سبق بأجمعه.
مثل هذا التفاعل يمكن استخلاص نتائجه عبر نتاج قائمة واسعة من الأدباء والعلماء والمثقفين والكتاب الكبار الذين لم تكن رحلة الحج أمرًا عابرًا في حياتهم، ومنهم علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر بتتبّعه النّشِط في كتابه «أشهر رحلات الحج»، وما جمعه الأديب المؤرخ محمد الشريف في مصنّفه «المختار من الرّحلات الحجازية»، مع جهود كبيرة للمؤرخ عبدالله الحقيل في كتاب «رحلات الحج في عيون الرحالة وكتابات الأدباء والمؤرخين».
ومن نتاج الأدب المرتبط بالحجّ يأخذ صاحب العبقريات عباس العقاد موقعًا مهمًا، في مجموعة مقالات توثيقية لرحلته حاجًا في 1946، كما تتفرد الأرجوزة الشعرية الطويلة للشيخ فرج العمران في توثيق دقيق لمسار رحلة قافلة الحجاج من محافظة القطيف السعودية في 1939م على ظهور الجمال.
وللأدباء حضور لافت في هذه التدوينات التي أخذت منهم جهدًا ليس بالهيّن، وكان كتاب «أرض المعجزات» للدكتورة بنت الشاطئ، مساوقا لهذه الحالة الملهمة للمبدعين أمثال السيدة بنت الهدى في مجموعتها القصصية «ذكريات على تِلال مكّة»، والأديب الكبير إبراهيم المازني في خواطره الأدبية «رحلة الحجاز».
أمّا عصر التوثيق المرئي فصار التدوين أكثر سهولة، وبنفس النسبة التي تفاوتت فيها طرق النقل والمواصلات عن الثلاثينيات، صار التدوين أمرًا يسيرًا، لكنّ الإبداع في كتابة أدب الرحلة يحتاج إلى تنشيط باستثمار وعي الماضين وإمكانيات وأدوات المعاصرين.
إنّ الجهود العظيمة التي تبذلها بلادنا في خدمة الحج وتيسير شؤون الحجاج من جميع بلدان المعمورة، تستمر وتتصاعد، ومن ذلك مواكبة لغة الاتصال وتقنيات التواصل عبر استحداث تطبيقات مثل «تطبيق خدمات ضيوف الرحمن بالواقع المعزز»، واستثمار واسع للمختصين في صناعة برمجيات الحج عبر مسابقة هاكاثون الحجّ، إلى تدشين خدمة الجيل الخامس في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة ضمن المرحلة الثانية من مبادرة «#حج_ذكي»، وكلّ عام وأنت بخير.