فخاخ الإنترنت
في ظل ما يشهده العالم اليوم من انفجار علمي هائل، وثورة كبرى في مجال التكنولوجيا، وتراكم ثقافي ومعرفي، أصبحت المعلومات الرقمية أكثر تأثيراً على المجتمعات، خصوصاً على الأطفال. فقد تطورت أساليب المعرفة التي كان يستقي منها الطفل ثقافته، ويكتسب منها عاداته. فما عادت الأسرة والحضانة والمدرسة هم المصدر المعلوماتي والمعرفي الوحيد الذي يستقي منه الطفل معارفه. ففي ظل الانفتاح التقني صار الصغير يتلقى معارفه وثقافته من مصادر مختلفة. والإنترنت هو اليوم أحد هذه المصادر الأساسية، بعد أن أمسى فضاءً عالمياً مفتوحاً للجميع، وليس حكراً على فئة عمرية محددة.
غير أن ما يهدد الأطفال وهم في سنيهم المبكرة هو إدمان استخدام التكنلوجيا من أجل الدخول على برامج التواصل الاجتماعي المتعددة، وبرامج المحادثات، بالإضافة إلى برامج الألعاب الإلكترونية المختلفة، والتي قد تسهم في تدمير أدمغتهم، وإعاقة تطورها، إلى جانب تشجيع الأطفال على العزلة وغرس عادة الانطواء لديهم، وإهدار أوقاتهم بالتواصل مع أناس مجهولي الهوية، ربما يكونوا من أصحاب النوايا السيئة، وإقامة علاقات صداقة افتراضية من دون تدقيق، وهو الأمر الذي قد ينطوي على عواقب وأخطار ليست ذات بعد أخلاقي فقط، كما أشرنا إلى ذلك في مقالات سابقة، من خلال كسب سلوكيات مخالفة للفطرة السوية، أو اكتساب صفات غير حميدة تخالف عادات وتقاليد مجتمعاتهم، وإنما أيضاً من خلال اختراق حساباتهم الشخصية، وتتبعهم، والاحتيال عليهم، والتحكم في أجهزتهم، وسرقة بياناتهم.
إن المستخدِم للإنترنت وبرامج الاتصال والتواصل، ليس في مأمن من اختراق حساباته، والاطلاع على خصوصياته، حيث يمكن لأي أحد لديه خبرة في الأجهزة، والحواسب، والبرامج، الاطلاع على معلومات الآخرين، سواء كانت أرقام، أو صور، أو فيديوهات، والكثير من الأمور الشخصية الخاصة، وهو الأمر الذي يشكل خطراً حقيقياً عندما يكون غرض المخترقين التجسس على حياة الآخرين وابتزازهم. فالجريمة الإلكترونية أصبحت تؤرق أمان المجتمعات، حيث يتسلل القراصنة إلى أخص خصوصيات الناس وتجعل منها مادة للابتزاز، أو النصب، أو السرقة، مستفيدة من جهل الكثيرين بألاعيب الاختراق، وسذاجة البعض في التعامل مع التقنيات الحديثة وشبكة الإنترنت.
لقد ”كثر في الآونة الأخيرة الحديث عن جرائم الإنترنت، وبالذات فيما يتعلق بالأطفال والمراهقين. فمن المعروف أنهم الهدف السهل الذي من خلالهم يستطيع المتربصون اختراق الأسرة برمتها، عن طريق الحصول على صور خاصة لأسرهم، ومن ثم ابتزازهم، أو تشويه سمعتهم، أو باستغلال الحساب البنكي للوالدين، هذا فضلاً على استدراج الأطفال لأعمال قذرة قد تؤدي إلى تشويه سمعة الطفل والأسرة بكاملها، خاصة أننا مجتمع محافظ تهمه سمعته، وتحتل قضايا الشرف مكان الصدارة لدينا، أو إحداث خلل، أو اضطراب نفسي في شخصية الطفل بالكبر، نتيجة لترويج صوره عبر الشبكة العنكبوتية.“ «1»
إلا أن ما يجب علينا ادراكه كما تقول ”نورة السويدي“ هو ”أن العالم من خلال شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، أصبح أصغر من قرية واحدة، بل أصبح كأن العالم في غرفة واحدة، وجهاز كمبيوتر واحد. فباستطاعة شاب متصيد يجلس في بلدة نائية في أقصى العالم، أن يطلع على سجلاتك وأرقامك وصورك الخاصة، وحساباتك البنكية، إذا أسأت تخزينها، أو تركتها عرضة للناهبين، وهم يتجولون في أنحاء الأرض يتلمسون الثغرات والهفوات لتكون مفاتيح اختراقات لا تحمد عقباها، إلا إنه بجرعة كافية من الوعي التقني، ولو كانت قليلة، وبإجراءات ربما يراها البعض بسيطة، يمكننا تلافي الكثير من المصائد الإلكترونية التي ينصبها ضعاف النفوس، ومن خلالها يحصدون ثمار خبثهم“. «2»
إن حماية الأبناء من مخاطر الإنترنت، وضمان عدم تأثير التقنية السلبي عليهم، تبدأ من داخل المنزل. فالمسئولية الأولى تقع على عاتق الوالدين والعائلة، بإجراءات تكفل حماية الأبناء، وتقيهم شرور الجرائم الإلكترونية، من خلال عمل إجراءات الحماية التقنية التي تمنع أو تحد من عمليات الاختراق، وعدم السماح لهم بالدخول على المواقع المشبوهة، أو المخلة بالآداب، والتي لا تتناسب مع القيم الدينية، والأخلاق الفاضلة، والقيم الصالحة.
وبعبارة أخرى، إن الدخول على المواقع المشبوهة، والمخلة بالآداب، ليس مفسدة للأخلاق فقط، وإنما قد يكون وسيلة يستخدمها القراصنة لاختراق حسابات المستخدم، أو تشفير بياناته الشخصية. لذلك يجب تعويد الأبناء وتعليمهم على الخصوصية، فلا يجب تقديم أي معلومات شخصية سرية للغرباء، خاصة غرباء الشبكة العنكبوتية الذين قد يكونوا ممن يتربصون بهم لاستغلالهم مالياً أو جنسياً، وربما يحاولون استدراجهم للحصول على أسرار أهاليهم.
ومع ذلك، ومهما بلغت متابعة الوالدين لأبنائهم ورقابتهم، فإنهما لن يستطيعا السيطرة على هذا الطوفان المعلوماتي المتدفق، أو يقوما بتقنينه وتنقيته، خصوصاً مع هذا التقدم المطرد للتقنية. فليس واقعياً منع الطفل من امتلاك وسائل التقنية والأجهزة الذكية، ولن يكون حظر الإنترنت هو الحل الذي يحميه من قراصنة الشبكة العنكبوتية. فهذا السيل العارم مما هب ودب يستحيل السيطرة عليه بالرقابة الوالدية، أو من خلال أجهزة الرقابة التقليدية، مهما بلغ مستوى إحكامها وسيطرتها وتطورها.
بيد أن المهم هو قرب الوالدين والأسرة من الأبناء، ومجاورتهم في كل مراحل أعمارهم، وإرشادهم، وتوجيههم، وتحذيرهم من التعامل مع وسائل الاتصال الحديث بشكل سلبي، وتعليمهم الصواب من الخطأ، والنافع والضار، وزرع القيم الدينية والأخلاقية الفاضلة في قلوبهم ونفوسهم، والتحاور معهم كأصدقاء، وتشجيعهم على التحدث عن مكنونات أنفسهم، وما يجول في عقولهم، ومناقشتهم وإقناعهم بطريقة منهجية، بحيث يمكنهم معها معرفة الضار والنافع، ويقيهم الوقوع في فخاخ الإنترنت، ويجنبهم مضاره.