أبي الحبيب إلى رحمة الله
لايستوعب العقل كيف يرحل وترحل معه الكلمات الأولى التي ينطق بها الطفل ”بابا“، ”يبه“..
أبي المهيب الذي أصارع به تيارات الحياة.. قد لا اخبره بتجاربي أو بعض احتياجاتي لكن قلبه كان وعاء يشع دفئا وطقسا أبويا يحمي ويرد عنا كل الشرور...
هكذا هو الأب في وعيي.. الحكيم المعلم الدافيء صاحب البهجة والنكتة الحلوة،،
لا أستطيع أن أقول أنه كان يصر على بعض مرئياته، لا يفرضها لأنه كان يحترم وجهة النظر الأخرى..
أبي البئر العميق الذي يعمل بصمت، وبدون شكوى
إذ كيف يصدر الأب شكواه التي تقلق منام الأبناء،
لا هذا ليس أبي..
أبي الذي لا يتكلم إذا لم يكن للكلام من داع، ويكتفي بالتعقيب ليظهر أنه كان حاضرا منذ بداية الحديث، ويسهب حين يجد أذنا واعية ومصغية.
لن أتحدث عن أبي الحكيم القاريء المحب للشعر العمودي القديم وأغاني أم كلثوم والنهم تجاه كتب تفاسير القرآن ومختلف أنواع الكتب، ثم إقباله على الأجهزة الحديثة ودخوله في بعض القروبات في وسائل التواصل مع ضعف بصره في الفترة الأخيرة.
سأعود بالذاكرة إلى الوراء..
حين يعود محمّلا بأكياس المؤونة فأتبعه وأغني وراءه ”جا بابا جا بابا، جاب الخبز والروبة“، فيحملني على كتفه بعد أن يضع الأكياس ويغني بدوره ”مين بيرقد ويايه“ فأقول ”أنا“ وكلي سعادة وشوق إلى فراشه الدافيء العامر بالنكت والقصص والألعاب اللطيفة التي يسليني بها وطلبه أن أنشد له بعض الأناشيد التي أحسنها فيضحك لإعجابه بطريقتي أو لأني لا أنطقها بشكل صحيح فيغني بدوره معي..
لم تكن قصص عادية لم تكن بصوت عادي كان يحمل مخيلة رااائعة، فأبحر معه وأصعد الجبال وأنزل السهول وأرحل معه الى هدهد سليمان وبقرة موسى وبئر يوسف، إضافة إلى مختلف القصص التربوية والتي تعتمد المرح والنكتة وكان ذلك مميزا وواضحا في أسلوبه وتلاوين صوته، فإذا انتهت القصه وطلبت أخرى يسألني أتريدينها طويلة أم قصيرة فأقع في حيرة لعلمي أنه إذا كانت قصيرة فستكون في قمة الروعة وإذا كانت طويلة فسيتعمّد أن تكون مملة وبتمطيط في الحروف، فأختار القصيرة ثم أعقبها بشهقة إذ كيف تنتهي الروعة بهذه السرعة،، فأتذكر أنه كان اختياري فانهض عندها بائسة ويغط هو في نوم عميق..
هذه الكنوز لايهديها أبي إلا لعالم الطفولة بحيث أنني حين أكبر لايمكنني الإستماع لها من جديد، لايستطيع والدي رحمة الله عليه أن يكون بحالته الطبيعية ويسرد أمام الآذان حين تكون كبيرة، وكأنه لايريد المديح، او لأنه فعلا حين يسرد لنا ذلك الخيال يعود بذاكرته إلى طفولته فيتحول طفلا أو ربما يعود ذلك إلى طبيعته الخجولة التي تمنعه من تقمص الدور الذي يجعله ينتقل إلى عالم أليس التي قد تكون في مقام الأقزام أو العمالقة قبالة بعض الشخصيات والعوالم..
أبي والدي الحبيب.. حين يشتاق لنا ويسأل عنا يفيض صوته بالرقة والرحمة والمداعبة الجاذبة، ينظر لنا بنصف عين ويسمح لنا أن نجدف كل بقاربه بدون تدخل منه، فإذا شعر أن القارب يقترب من الدوامة يمد يده بكل لطف ويصوّب وجهته ويبعده عن الخطر، ويقوم بتعديل نظارته ليكمل قراءة كتابه وكأن شيئا لم يكن..
حين نزور بيت الأهل يقوم من فوره بغسل الفاكهة ويقدمها لنا مع المكسرات ويلح علينا بتذوقها وإن امتنعنا للشبع، ثم يسألنا ماذا نريد للعشاء طبخ منزلي أو شيءمن الخارج، فإذا أردناه من الخارج يقوم بجلبه بنفسه ماشيا على قدميه..
حين توفي جدي رحمه الله عاشت جدتي معززة مكرمة في بيت والدي فصار منزلنا محط البركات، وكذلك قدّم عرضه لعمتي ”الحجية“ بعد وفاة زوجها ولا ولد لها ”بيتنا مفتوح لك في أي وقت تشائين“ شكرته بامتنان شديد لكنها اختارت السكن في منزل أخيها لتربي يتيمته.
كان كل شيء لديه بمقدار، له ساعات معروفة للنوم، ولتناول الطعام، لايضع الطعام على الطعام مهما بلغ حبه له ولو من باب التذوق، يعشق منزله، ويحب بساطته، ولم يلهث نحو ترف الحياة.
أبي راضي لطالما وجدت الرضا في تصرفاته وحكمته وقناعته وشكره، وحتى في قسمات وجهه حين رحل إلى رب كريم..
رحمك الله ياأبي واسكنك فسيح جنانه وأوسع لك في تلك الدار كما أوسعت لنا بروحك الطيبة وعلمتنا كيف يساعد الكبير الصغير على بره ومحبته ويرسم معه خارطة الحياة بكل لطف ورقة.