ما عندهم سنع
سنع لفظة دارجة في قاموسنا الشعبي الموروث، وتعني الأدب والتربية. ولي مع هذه اللفظة وقفة في هذا المقال.
قبل أيام قليلة كان لدي موعد متابعة روتينية في مستشفى بابطين لأمراض القلب، وأثناء جلوسي في صالة الانتظار جلس بجواري رجل كبير السن، وبجوارنا أب وابن لا يتجاوز سنه السادسة، كانا في حوار دائم وعلاقة تتسم بالصداقة والألفة الحميمية، والطفل يتحدث حديث الكبار بلغة واضحة وفصيحة ومفهومة تلفت الأنظار، دون تلعثم أو تردد، أو وجل أو خوف، وبنبرة تكشف عن شعوره بالثقة والاطمئنان، فلا تعوزه المفردات في التعبير عن أفكاره. فحوارهما ينساب كانسياب الماء في الجداول، ولم يقطع حوارهما إلا صوت الممرضة حين نادتهما بأن دورهما قد حان للدخول إلى العيادة.
وبمجرد تحركهما إلى العيادة همس في أذني الرجل الكبير في السن، حيث قال: أولاد هالزمن ما عندهم سنع.
إشارة إلى انزعاجه وعدم ارتياحه من هذا المشهد الحواري الدائر بين الأب وابنه الصغير، إذ يعتبره تجاوزاً لحدود الأدب وتقليلاً من هيبة الأب وابتعاداً عن صورة الأب النمطية. فابتسمت ولم أنبس ببنت شفة ولم أعلق على ما قاله، بل التزمت الصمت، وأخذت أستذكر الحمولة التاريخية لمفردة «سنع»، حيث كانت لها دلالة لأبناء جيلنا والأجيال الذين سبقونا، إذ كانت بينها وبين العصا والضرب المبرح علاقة تلازم، فلا يتصور «السنع» إلا ويتصور معها العصا والضرب والعقاب البدني. ثم قفزت بعد هذا الاستذكار إلى التساؤل التالي:
كيف نساهم في تهيئة الظروف المناسبة لتشكيل شخصية أبنائنا على غرار ذلك النموذج «الطفل» الواثق من نفسه، المنطلق في التعبير عن أفكاره دون تلعثم أو تردد؟
بعض الآباء يحرصون كل الحرص على تلبية جميع متطلبات أبنائهم المادية، وربما تبالغ في ذلك، ولكن في الوقت نفسه تغفل البناء الكياني المشكل للهوية الشخصية لأبنائهم، نتيجة تصورهم الخاطئ بأن تمام مسؤوليتهم هي توفير الحاجات المادية للأبناء أو حبهم المفرط لهم. وهنا تكمن الكارثة التربوية والخلل البنائي لشخصية الطفل.
ولذا علينا كآباء أو مهتمين بالشأن التربوي أن نبذل جهداً مضنياً لتوفير ظروف التنشئة الصحيحة لأبنائنا والاتسام بالصبر وامتلاك مهارة الإصغاء لتساؤلاتهم وإثاراتهم التي لا تنتهي، والسماح لهم بالتعبير عن مكنوناتهم وأفكارهم دون خوف أو وجل، وزرع الثقة في نفوسهم من خلال التشجيع والإطراء المحفز، والابتعاد عن كبحهم وكبتهم وتوبيخهم وإبعاد كل عامل يسهم في اهتزاز شخصيتهم.
فالطفل متى ما توفرت له الظروف المناسبة التي تسهم في تبلور شخصية تتشح برداء الثقة بالنفس، انطلق نحو الإنجاز والإبداع، لأن ثمة علاقة وطيدة بين الشعور بالثقة وتولد الأفكار الإيجابية، التي تعمل على خلق روح المبادرة والإحساس بضرورة تحقيق الكفاءة والإتقان في العمل. فشتان بين طفل وطفل، طفل يمتلك شعور الثقة بالنفس، وطفل يفتقر إليها، الأول مبادر منطلق والآخر منكفئ على ذاته لا يمتلك روح المبادرة، حيث نجد طفلاً بكفاءته وقدراته وإتقانه يبرز نفسه بأنه رقم صعب وعنصر أساسي في المشهد لا يمكن تجاهله، وآخر يتوارى وراء الستار لخوفه من النقد والتوبيخ والسخرية والتهكم والظهور بمظهر الأضحوكة.
وثمة أمر ينبغي الفات النظر إليه في مسألة بناء شخصية الطفل، وهو: استخدام الطفل لمفردة «لا» في وجه والديه، فهل ينبغي على الوالدين كبحه عن استخدامها؟
نحن أمام خيارين: إما السماح للطفل باستخدامها ولكن بشرط استخدامها في الموضع المناسب، وإما كبحه. إلا أن كبحه عن استخدامها سيجعل منه شخصية مكبوتة، ومتى ما حصلت له الفرصة مستقبلاً في استخدامها سيستخدمها، ولكن استخداماً خاطئاً، استخداماً يتصف بالتمرد.
وأخيراً من أعماق قلبي أقول: لنصنع من أبنائنا من يقول لنا «لا» في مكانها الصحيح وموضعها المناسب، ونبتهل إلى الله بأن يبعد أبناءنا عن قول «لا» المتمردة في وجوهنا.