دعوة
لم تكن الدعوات التي كنا نتلاقاها حتى وقت قريب، سواء للزواج أو تلك التعزية الخاصة بالعزاء مثقله بهذا الكم الهائل من الألقاب بقصد الوجاهة، وما كان في ذلك الوقت للنعوت هذا النوع من الأهمية القصوى حيث إنها لم تكن سمة سائدة في المجتمع ولا حتى عرفا يقتفيه العامة منهم فضلا عن الخاصة.
فحين تصلك دعوة للزواج مثلا تقف حائرا ومدهوشا أمام الكم الهائل من المسميات التي أثقلت تلك الدعوه الخاصة بالعريس، وقد يقول قائل أن الدعوة للفرح يليق بها هذا النوع من الإفتخار، وقد تغض الطرف متجاهلا على مضض بعض المبالغات فيها، وإن كان لأهل الفرح ما يبرر لهم هذا، وقد يجدون من يلتمس لهم العذر لذلك، ولكن أن يكون إعلان الوفاة والعزاء ساحة للتباهي بالألقاب الدنيوية. وبتجاهل واضح وملفت لحجم الموقف الذي يكون فيه المرء أكثر مايكون بحاجة إلى التواضع والخضوع والتذلل أمام هول وعظمة وهيبة الموت، فذلك أمر آخر يستحق الوقوف عنده بشيئ من التركيز والإنتباه!
وتأمل معي في قوله تعالى:
«وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا». الإسراء «37». صدق الله العلي العظيم.
في الماضي كانت دعوات العزاء تتسم بالحزن الممزوج بالتواضع، وقد كنا حين نقرأ إعلان التعزية لم نكن لنجد فيه حصرا لميراث الورثة من الدنيا أو حتى طابورا من الإستعراض، لقد كان الإعلان يخيل إليك من خضوعه بأنه يتشح بالسواد حزنا وألمآ وقد غُلف بالدعاء للمتوفى بالمغفرة والرحمة ولأهله بالصبر والسلوان.
ماضينا الجميل لم يكن فيه سباقا على المسميات والأوصاف لكل نسيب وقريب. ولكن كان يحمل صفاءا ونقاءا روحيا بعيدا عن كل تشوه أو مرض من أمراض العصر التي يكاد لا يخلو منها بيت إلا من رحم ربي وستر.
الله سبحانه وتعالى جعل الفرق بين البشر في تقواهم وأراد لهم بذلك العيش في حالة من التساوي والتآخي، وما كان لبس الإحرام الأبيض للحج إلا تجسيدا لحالة من المساواة بين البشر، فقيرهم وغنيهم، كبيرهم وصغيرهم.
وايضا في ختام حياة الإنسان ووفاته، جعل الكفن الأبيض ساترآ لجسده ورمزا للسلام والرحمة كي يتساوى في ذلك الجميع. فلا أحد يتميز حتى في كفنه، فلا كفن من حرير ولا كفن من ديباج ولا من إستبرق ولا مطرز بالذهب، فهذا المتوفى لن يحمل معه مسمى الدكتور والمهندس في قبره كما حمله في الدنيا، إنه يتجرد من كل شيء في دنياه ولا يحمل معه إلا عمله وكفن يستره وقد أفضى كما يقال إلى ما عمل.
مهرجان التعالي والطبقية الذي بات يغلب على مجتمعاتنا اليوم هو صنف من صنوف الغرور والكبرياء المنهي عنه والذي تأنف منه النفس وتنبذه، وهو من أمراض القلوب التي حذر الله سبحانه وتعالى منها وجعلها سبب في الحرمان من النعيم الأبدي.
قال تعالى:يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ «88» إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «89». [الشعراء].