الشيرازي على خطى ال البيت
قال رسول الله صلى الله عليه واله:
«العلماء مصابيح الأرض وخلفاء الأنبياء وورثتي وورثة الأنبياء».
الكتابة في سيرة العظماء من مراجعنا العظام والفقهاء الاجلاء، من الصعب ان تستوفهيم حقهم وتصل الى المستوى الرفيع للتعريف بمكانتهم، في حقهم قليل وشرف لنا الكتابة لهم وهو من باب الوفاء لمقامهم العظيم والاعتزاز بما قدموها لنا وللإنسانية من أعمال جليلة وتحملوا مسؤولية المرجعية، فالقامة الدينية والفكرية للمرجع ليس من اليسير الكتابة عنها خصوصا اذا كانت هذه الشخصية المجاهدة اثرت بما قدمت وكتبت ونظرت بإنتاجها الوفير ما شهد له البعيد قبل القريب في جميع مجالات ومستلزمات حياة المسلم بأسلوب راقي وفكرا نير، في ظل ظروف ومعوقات وضغوط ومنعطفات خطره وأوضاع قاسية من جور السلطان وأعوانه وجور اصحاب الزمان.
فالمرجع المجاهد والفقهيه العامل على خطى ال البيت يعتبر حصنا منيعا يمثل خط الدفاع الاول والمدافع الصلب عن كيان آلامه، رغم ما يتعرض له من قمع يصل الى الإعدام او التشريد، وزد على ذلك أعداء التجديد والكلمة الصادقة وحربهم المستميتة.
فمن يعتلي زمان المرجعية يصبح وريث الأنبياء صلوات الله عليهم، وامتداد لمسيرة الأئمة ، مسؤوليتهم العظيمة بالدعوة للحق، والهداية إلى السراط المستقيم، ونشر الصلاح في المجتمع، مهما كلفهم من عناء ومشقة، فهم حماة الدين واعلام للهدى، يحفظون مباديء الشريعة وأحكامها. فلا غرابة أن يصلوا الى هذه المكانة المرموقة.
قال الامام الصادق ؛
«الفقهيه حق الفقيه الزاهد في الذنيا الراغب في الآخرة المتمسك بسنة النبي».
فالمنزل الرفيعة التي وصل اليها المرجع لم ينالها الا بعد مجاهدت النفس وتحمل الأعباء والصبر والمصابرة والزهد في الذنيا الفانية، فاللمرجع بهذا المستوى شرفا عظيم وفضلا كبير وتقدير يليق بما قدموه. فهده وصية الأئمة في حق فقهاء آلامه، وبينوا ضرورة تبجيلهم واتباعهم واحترامهم وتوقير الفقيه العامل قولا وعملا يصل الى درجة النظر في وجه العالم عباده، لسمو قدره وجليل مقامه، فليس قليل على من أفنى حياته عملا وصبرا وتحملا، دفاعا عن القيم فهم رسل الله بعد انقطاع النبوة والإمامة.
احد مراجعنا العظام السيد الامام المجدد أية الله محمد مهدي الشيرازي قدس سره، لا يمكن مجرد مقال ان يوفيه حقه او كتاب يبين فضله، فكل خصلة من صفاته تحتاج كتاب فكلما انهيت مقالي ارجع أضيف من جديد مع علمي ان مهما كتبت سيبقى قليلا في حقه قدس سره، مرت على المرجعية عظماء وفقهاء اجلاء، يشار لهم بالبنان، والسيد الجليل رحمه الله ليس كأي مرجع من حيث ما قدم للامة من عطاء قل نظيره، فهو رضوان الله عليه سليل عائلة كريمة لها تاريخ حافل بالجهاد وقيادة زمام المرجعية وزعماء الطائفة، تخرج منها خدمة للدين والدفاع عن سنة الرسول صلى الله عليه واله عظماء كان لهم دور في المجاميع العلمية، وساحات الجهاد وإن مآثرهم العظيمة ستبقى مدى الدهر ناصعة تنير دروب المسلمين بل العالم اجمع، فهذه الاسرة المباركة خدمة الدين على امتداد وجودها لما يصل إلى مائة وخمسين عام كانت ولا زالت مفعمة بطلب العلم ونشره تقدم نمودج مشرقا من الورع والزهد والتواضع ومكارم الخلق.
خرج من بين هذه الاسرة العظيمة السيد المجاهد محمد حسن الشيرازي قدس سره قائد ثورة التبغ في ايران ضد البريطانيين، وكذلك محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين في العراق.
فلا غرابة ان تمتد مسيرة العطاء المياركة وأن يمن الله تعالى علينا أن بولادة السيد الشيرازي في النجف الأشرف فازدان بشرفها شرفا وسموا، وفي عمر التاسعة هاجر الى مع والده الى كربلاء المقدسة ليكون بجوار وحفظ الامام الحسين فلا عجب ان يبرز علما عظيما وفقيها جليلا امتداد لهذه الاسرة، فالمرجع المجددالسيد محمد الشيرازي قدس سره اخد من والده العالم العرفاني علومه الاولى واستمر في هذا الخط المبارك ساعيا بدون كلل من اجل التعلم والاجتهاد. ولذلك بلغ مراتب علمية ومكانه مرموقه وهو في سن الشباب بلغالاجتهاد دون ان يبلغ العشرين، وبدأ بتأليف موسوعة الفقه وهو في الخامسة والعشرين وكان يحضر درسه اكثر من خمسمائة من الطلبة، يملك حسن الحوار ويحسن فلسفة الكلام ببلاغته المعهودة، وحسه الأدبي وشفافيته في التعبير والأسلوب الراقي، مع بسمة لا تفارق محياه، دائما حديثه من القلب للقلب، فملك القلوب وعشقته الأنفس، كان رحمه الله رجل العلم والعمل والاجتهاد والجهاد، مشروعا اسلاميا متكاملا للدفاع بقوة وبسالة عن الاسلام والمسلمين والقيم السماوية، بفكره النير وقلبه الصادق وبطيب لسانه وشرف قلمه ونبل تواضعه وكريم اخلاقه ووافر زهده كاشفا حقائق الاسلام حاملا فكرا واضح وثقافة رسالية متميزة منطلقا من فهم كبير لمتطلبات الحياة الكريمة للامه، لهذا وصل الى ان يكون فقيها بارزا محققا متبحرا، مدرسة متكاملة، بطاقته الجبارة وعمله الدؤوب تخرج على يديه المباركة الكثير من العلماء والفضلاء، وخلف ثروة فكريه هائلة في شتى العلوم وأثرى المكتبة الإسلامية بفكر متجدد وعلما رفيع وتخصصات تحتاجها الجوزات العلمية والمجتمع ككل، قدم عمل علمي وموسوعي عالي المستوى ورؤية تجديدية، استوعب كل مجالات الحياة ارتقى بالامه الى الفكر الصحيح تعدى فيها المرجع الفقيه بالرغم من عظمة ذلك الدور وأهميته وجليل قدره، الى آفاق اكبر وأشمل يتعدى دور الافتاء الى التكامل والتجديد ليصبح ظاهرة فريدة ونبراس منير في البحث والتأليف والنشر، لم يصلها غيره ولم يصبح في هذا المنزلة اعتباطا، بل جاءت احساس بالمسؤولية امام الله جل وعلا وإتماماً لمسيرة الرسول صلى الله عليه واله وامتداد على خطى أئمته ، فعمل جاهدا ليصل الى ما وصل له بإلتصاق ومعاصرة لطائفة من العلماء الربانيين منذ شبابه قدس سره، وبهذا التوجه الصادق والحثيث برز علما من إعلام المسلمين يحمل بين جنبيه العلم المتجدد ليس في علم الفقه والأصول بل موسوعة عامرة في العلوم والثقافات السياسة والتربية والقانون والتعليم وعلم النفس والمنظمات الدولية وحقوق الانسان وغيرها من العلوم التى انارت الطريق لغدا افضل. نستطيع القول وبدون مبالغة أن السيد المجدد قدس سره وجد في زمن غير زمانه سبق عصره بطرحه وفكره، في عصرا لم يعرف قدر ومكانة هذا العظيم، عرفه القليل وجهل فضله الكثير، وهذا ديدن العظماء والمجددين، فقد تعرض سماحته الموقرة، لابشع انواع الضغوط والتقسيط والتشويه بشكل لا يوصف وبشتى الأنواع حسدا وهمجية، كان قدس سره اكبر من ذلك يتعالى على الصغائر بنبل خلقه، لا وقت عنده للاتفاق للخلف عاليا كالسحاب لا يضره مبغض ولا يؤثر على مسيرته حاقد ولا مريض حاسد، فكلما ازدادت الممارسات الغير اخلاقية ضده كلما ازداد اصرارا وصلابة متمثلا بالأئمة قدوته ، لم تأخذه في الحق لومة لائم، يزداد اشتعالا بفكر وعزيمة صادقة تتكسر من حولها مجاديف الحاقدين، الجبل لا يهزه الريح. لم يلن عودا، ولم تخمد عزيمته ولم يستسلم لليأس كان كالطود الشامخ والنجم المنير والشجرة المثمرة كلما حذفت بحجر أعطت اجود الثمر الطيب، كان فكره مثل قطرات المطر تروي صحراء عطشى.
مع كل ذلك الظلم ملك قلوب من عرفه حق المعرفة هام في حبه من ملك قلبا طاهر شأنه شأن كل عظيم فالفئة القليلة المخلصة كانت مع النبي صلى الله عليه واله والأئمة ، وهذا حفيدهم المجدد عانى ما عانوه فكما قدم اجداده مع القمع والاطهاد ما أنار الدرب فهذا هو سماحته قدس سره من المعاناة تولد الحياة الكريمة، لا يرون في ما يقدمون جزاء ولا شكورا.
«وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»
لم يقابل من نصب له الظلم العداء فقد وكل أمره وأمرهم لله تعالى، شيمته العفو والصفح الجميل، فليس قليل ما عاناه لم يعبأ بذلك سوى رضا الله وفي سبيل الله.
قال المتنبي:
إن يحسدوك على علاك فإنما متسافل الدرجات يحسد من علا
من بين كيد الكائدين وظلم الظالمين وحسد الحاسدين قدم السيد قدس سره للإنسانية نمودج حريا ان يدرس ويتبع فقد كان همه الاسلام ومبلغ مبتغاه تكامل الانسان كفرد يملك طاقات يمكن تفعيلها لخدمة الاسلام والإنسانية وبناء مجتمع فاضل ترتقي الى مصاف تعاليم رسالة الرسول الأكرم وتطبيق الشريعة الحقة، والتعريف بفكر ال البيت علما وعملا، عمل سماحته من اجل ذلك نرى اليوم خيرات هذا الفكر بمن تربى على يديه من العلماء في شتى الثقافات والعلوم والمبلغين الاجلاء، وأنتج قدس سره منجزات علمية من أكثر من ألف كتاب، جعله سلطانا للمؤلفين وسيدا للفقهاء ومن أساطير الفكر وجهابذة العلم. أعطى كل ذلك بعدا إنسانيا ببروز مرجعية فريدة بما قامت به هذه المرجعية بكل تلك الأدوار والعطاء المنقطع النظير، وسبق عصره في طرح أبواب مستحدثة في المجال الفقهي وإصدار أكبر موسوعة فقهيه إسلامية في «170» مجلد، بل تكامل مشروعه باهتمامه بالعمل المؤسساتي والاجتماعي لدى اهتم قدس سره بعمل تكاملي بمدارس القران الكريم والمدارس الدينية وافتتاح الحسينيات وفروع للحوزات العلمية في جميع بقاع العالم، وانشاء القنوات الفضائية لمعرفته لما للكلمة المسموعة والمرئية شأنها شأن المؤسسات الاخرى في إيصال مباديء الاسلام ورسالة الرسول الأكرم، وفكر ال البيت، من خلال تلك المؤسسات عمل لنشر الوعي الديني والثقافي ونقل الحقيقة وحماية آلامه من كافة انواع الانحرافات ومواجهة الهجمات الفكرية التي تتعرض لها آلامه طعنا في معتقداتها وأصولها العقائدية، كما أهتمت مرجعيته المباركة بالشعائر الحسينية ونشهاد بركات هذا العمل العظيم على مدار الساعة، فهنيئا ما قدم بشكل عام وهنيئا له بشكل خاص خدمته لشعائر الحسين المظلوم .
قال عنه الخطيب الشهير سماحة الشيخ الحيدري الكاشاني، الذي ألقى خطبة بالنيابة عن القيادة الإيرانية، في تأبين السيد الشيرازي قد سره، فقد أشاد بتاريخ المرجع الشيرازي الجهادي الطويل في الدفاع عن الاسلام ومصالح المسلمين، منتصرا لقضاياهم المصيرية وخصوصا في مايرتبط بالعراق وبقضية فلسطين والقدس الشريف، تحدث عن مساهمات السيد المجدد في قيام وانتصار جمهورية ايران الإسلامية، وجهاده الطويل ضد شاه ايران وجهاد عائلته تاريخيا ضد أسرة بهلوي، ودفاعه الشخصي عن الامام الخميني قدس سره وفضل السيد الشيرازي في انقاد حياة الامام شخصيا عندما أراد الشاه إنزال حكم الإعدام بحق الامام، حينما سارع وأبرق مخاطبا علماء وقادة الدول الإسلامية ودول العالم قاطبه بالتدخل في الأمر، مما شكل ضغطا هائلا على الشاه الذي اضطر للتراجع عن قرار حكم الإعدام واستبدله بقرار إبعاد السيد الخميني الى تركيا، وقال إن السيد الشيرازي قد سره وضع كافة إمكاناته تحت اختيار الامام الخميني قدس سره، لدى هجرته إلى العراق مبعدا من ايران. وقال عند انتقال الامام المرجع الشيرازي الى ايران قام الامام الخميني بزيارته في مقره.
قال الدكتور الشيخ محمد حسن الصغير وهو من مستشاري السيد الخوئي رحمه الله قال أسجل للتاريخ تقرير سيدنا الامام الخوئي قدس سره بالحرف الواحد آنذاك «لو كان عندنا ثلاثة مثل السيد الشيرازي لغزونا العالم».
الامام الشيرازي قدس سره لم يكتفي بتأليف الكتاب ونشره، وإنما يحث ويشجع الآخرين على الكتابة والتأليف أيضا، ليس على نطاق الحوزات فقط بل من خارج الحوزه وكل حسب تخصصه.
وهذه قصة لقاء الدكتور أنطوان بارا وهي قصة من كثير من القصص في روحه الإيجابية الداعية للعطاء المستمر وارتسمت فيها شخصيته وعرف بها. حيث يقول الدكتور وهو مسيحي من مواليد سوريا يقول تعرفت على شخصية الامام الحسين بعد ان التقيت بآية الله السيد الشيرازي، يقول سألني الامام هل تعرف شيئا عن ملحمة كربلاء، بعدها أهداه السيد بعض كتب عن ثورة الامام الحسين ، وكل ما زرته يسألني عنها، وقال لي لماذا لا تكتب عن كربلا، وشجعني على ذلك وقال متى بدأت ستجد كل شيء يسير بإذن الله تعالى وببركة سيدنا الحسين ، وكانت هذه البداية لتأليف الدكتور لأكثر ما يعتز به من مؤلفاته وهو كتابه الحسين في الفكر المسيحي، حيث كما يقول ان السيد المجدد رحمه الله حثه على الكتابة عن الحسين ، وكتب السيد قدس سره مقدمة هذا الكتاب بناء على طلب الدكتور أنطوان بارا. يقول الدكتور بعد سنتين من التأليف أعطيت السيد الامام الشيرازي مخطوطة الكتاب فظلت عنده شهرين كاملين ظننت أنه لم يقرأها لكثرة مشاغله وارتباطاته الكثيرة مع الطلبة والحوزات والمؤسسات والوفود، ولكن تبين أنه كان يقرأها بتمعن شديد ويضع عليها الملاحظات الكثيرة.
يتذكر الدكتور أنطوان بارا الامام الشيرازي رضوان الله عليه يقول فيها أولاني السيد المجدد عناية خاصة تلمس منها عظيم تواضعه ودماثة اخلاقه وعلمه الغزير حيث لم يكن متبحرا في الدين الإسلامي فحسب، بل وفي الديانات الاخرى أيضا وتبحره العميق فيها.
بعد مشوار حافل بالجهاد والدود عن حرم الاسلام فاضت نفسه الزكية في الثاني من شوال، بعد ما خدم الإنسانية بوجود عطاياه وقدم مدرسة متكاملة كانت البشرية محتاجه لهذا الفيض. رحم الله الامام الرباني سليل العثرة المباركة، فليبكي على فقده الباكون، ومثله ينذب له النادبون، ولمثله فلتدرف الدموع.
قال الامام الصادق :
«إذا مات العالم ثلم في الاسلام ثلمة لا يسدها شيء إلى يوم القيامة».
هذا قليل في حق عظيم مكانه عند الله اكبر وأعظم، أفنى حياته خدمة من اجل الدين، اللهم وفقنا واهدنا لإتباع من أوجبت علينا إتباعهم بعد غيبة وليك وهم الافضلون عندك وهم العلماء أعزهم الله.