المجتمع والدولة في المجال العربي.. وسياقات التحول
تسود العالم المعاصر أسئلة ملحة حول الراهن بحقوله المختلفة والمستقبل بآفاقه العديدة. إذ نجد أن الأمم والشعوب، تسعى جاهدة بكل ما أوتيت من قوة وإمكانات لتأكد نفسها وإرادتها في هذا العالم المتشابك والمليء بالطموحات والتطلعات والإرادات المتباينة. فصورة العالم المعاصر باندفاعاته واكتشافاته وبأزماته وحروبه وتحالفاته وانقساماته، يدفع باتجاه ضرورة بلورة موقع متميز للفضاء العربي والإسلامي في هذا العالم المعاصر.
لهذا فإن فحص الراهن، ومعرفة اتجاهات حركته السياسية والثقافية والحضارية، ومكونات الفعل الحضاري، وممكنات الانطلاق والنهوض، كلها تساهم في اكتشاف الموقع المناسب والطموح الممكن الذي ينبغي أن نسعى إلى إنجازه وتنفيذه.
فالتطورات الهائلة التي تجري في أرجاء المعمورة، وعلى مختلف الصعد والمستويات، تدفعنا إلى ضرورة إحداث تحولات تاريخية ونوعية في واقعنا، حتى يتسنى لنا الاستفادة والاستجابة النوعية لتلك التطورات المذهلة.
فالوعي بالتطورات هو في جوهره، تنمية الذات وتأهيلها نفسيا وعقليا وفنيا، للاستفادة منها، وتوظيفها بما يخدم راهن الأمة ومستقبلها.
وهذا التحول النوعي، هو بداية تنظيم المجتمع الذي يخلق التقدم، ويندفع إلى أسبابه وموجباته ذاتيا. وهذا مما يحوّل الأفكار والقناعات العامة إلى إرادات إنسانية متواصلة ومتعاظمة، تضمن استمرار فاعلية التقدم والتطور في المحيط المجتمعي.
وفي مناخ العولمة والكوكبة التي تزداد فيه تحديات السيادة والاستقلال، نحن أحوج ما نكون إلى فحص طبيعة العلاقة بين الدولة والأمة في مجالنا العربي والإسلامي، حتى يتسنى لنا تطوير هذه العلاقة وإنضاج أطرها المشتركة، لنتمكن من مجابهة تحديات ومتطلبات مشروع العولمة والكوكبة.
ولا نجانب الصواب حين القول: أن جزءاً من الأزمة يرتبط بتصور جميع الأطراف للعلاقة بين الدولة والأمة، وهو تصور قائم على أن متطلبات الدولة متناقضة مع طموحات الأمة. وأن تطلعات هذه الأخيرة لا تنسجم وضرورات الدولة. وبهذا يكون التصور السائد، أن كل طرف لا يمكن أن يمارس دوره ووظيفته إلا على حساب الطرف الآخر.
ولا ريب أن هذا التصور الخاطئ، يفرض صيغة مقترحة للعلاقة، لا تتعدى نسق التبعية والضعف المتبادل. بمعنى أن ضعف الدولة ضرورة لبروز قوة الأمة، وإن اهتراء وتآكل هياكل الأمة الثقافية والاقتصادية والحضارية مقدمة لازمة لاستمرار الدولة في بناء مؤسساتها وهياكلها. وبالتأكيد فإن هذا التصور يغذي بشكل أو بآخر حالة التوتر والفجوة الموجودة بين الأمة والدولة في المجالين العربي والإسلامي.
وإن استمرار الفجوة والتوتر بين الدولة والأمة في المجالين العربي والإسلامي، يجعل الأمة تحارب نفسها، وتعوق مسيرة نهضتها، وتحول دون الانطلاق في رحاب البناء والتنمية. ولاشك أن تراكم هذا التوتر، هو الذي أدى إلى بروز الحروب الأهلية الصريحة، التي استخدم فيها كل أشكال العنف والقتل والتدمير، والمضمرة التي تتغذى من ثقافة الإقصاء والتكفير، التي تجعل الفضاء الاجتماعي أشبه ما يكون إلى كانتونات منفصلة عن بعضها، وكل طرف يحمل عن الآخر رؤية ضيقة ومشوهة وذات أفق صراعي محموم.
ووسط هذا الصراع المحموم، والذي يأخذ أشكالا مختلفة ومتباينة، يتضاءل مستوى الاهتمام بقضايا الأمة الحيوية والمصيرية، وتتغول مشكلات الداخل العربي والإسلامي، وتضيع البوصلة النظرية والمفاهيمية، التي تحدد أوليات الصراع وآليات المواجهة، وتحول دون تشتت الجهود والطاقات. فيصبح الجميع يعيش مرحلة اللاتوازن، وتتبخر آمال الأمة بالنهضة ، وتتهدد كل مكاسب الأمة الاجتماعية والسياسية، وتختلط الأمور بشكل فوضوي، مما يعزز هذه اللحظة التاريخية الصعبة استخدام كل الأطراف لآليات الحرب ووسائل المعارك العسكرية. وفي هذه اللحظة تنتقل مشروعات الدولة من مشروعات التنمية والتعمير إلى مشروعات القمع وزيادة جرعة الاستبداد واستخدام القوة الغاشمة. كما أن الأمة تنشغل عن أهدافها الحضارية، من أجل مشروع رد الحيف والظلم عن جسمها وكيانها ومقدساتها.
ولا مخرج من هذه اللحظة التاريخية إلا بإعادة تنظيم العلاقة بين فضائي الأمة والدولة، بحيث تتسق وتتناغم الإرادة الجمعية في اتجاه البناء والتنمية ومتطلباتهما السياسية والثقافية والاقتصادية والحضارية.
والوجودات الاجتماعية ليست واحدة أو آحادية، وإنما هي تحتضن كل أشكال التعدد والتنوع. ولا يمكننا أن نتصور مجتمعا آحاديا في فكره وميوله وانتمائه السياسي والفكري. وإنما دائما تتعدد الانتماءات السياسية والفكرية، وتتنوع الميولات والأهواء. والوجود الاجتماعي الحضاري، هو الذي يجترح أطرا أو صيغا ممكنة ومتاحة للتعايش والوحدة والتآلف بين جميع هذه الأطياف.
واحتدام النزاعات والحروب في المجتمع الواحد، أو بين الدولة والمجتمع، ليس من جراء وجود حالات التنوع والانتماءات المتعددة، وإنما هو من جراء التعاطي مع هذه الحالات بعقلية قسرية وقهرية وتهميشية. ولا شك أن العنف لا يؤدي إلا إلى مثله، وكذلك القسر والقهر. لذلك فإن استخدام القوة المادية يزيد من حالات الاحتدام بين المجتمع والدولة معا. فالدولة القهرية لا تصنع سلما اجتماعيا، وإنما هي تؤسس لنزاعات وحروب عديدة. فهي في حقيقة الأمر مشروع مفتوح للصراعات والنزاعات والاحتقانات الاجتماعية والسياسية وتفاقم العصبيات بكل أشكالها وألوانها.
فالوصول إلى مستوى متقدم من العلاقة الإيجابية بين الأمة والدولة، هي خلاصة استحقاقات ومناشط متعددة تتراكم على المستوى المجتمعي إلى درجة انبثاق حقائق جديدة على المستويات السياسية والنفسية والثقافية والاجتماعية تنسجم ومتطلبات خلق نمط جديد من العلاقة الإيجابية والتكاملية بين الأمة والدولة. وإن تواصل الجهود واستمراريتها، هو شرط تراكمها التاريخي وعدم تخبطها وتنظيمها وفق سياق معرفي يتجه نحو القضايا المركزية. لذلك نجد أن النصوص الإسلامية، تؤكد على أن التفكر والتدبر، الفهم والعلم والحكمة والذكر، هي من المفردات التي تتكامل من أجل خلق هذا السياق المعرفي المتواصل . وإنه من دون العقل كعنوان جامع لتلك المفردات لا يمكن لفرد أو أمة أن تفلح في حياتها الراهنة والمستقبلية.
قال تعالى «وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير» [1] . فالعقل كصانع للمعرفة وناظم لها، هو الذي يوفر التراكم المعرفي المطلوب، من خلال يقظته وإعماله في الوقائع.
وإن بوابة تسوية العلاقة بين الأمة والدولة في الفضاء العربي والإسلامي، تفعيل دور المجتمع الأهلي المدني، وتعظيم دور ووظائف مؤسسات الأمة وذلك لأن تنمية أنشطة المجتمع الأهلي _ المدني، سيملأ الكثير من الفراغات التي تملأها عادة إرادة الدولة، مما يوسع سلطتها ويخضع خيارات المجتمع إلى متطلباتها الاستبدادية والبعيدة عن الشرعية الدينية والقانونية. والوضعية التاريخية الراهنة، تدفعنا بكل معطياتها نحو تفعيل واقعنا المجتمعي، وتنشيط دور حركة المجتمع في مجالات البناء والعمران. فانخراط شرائح المجتمع في الحياة العامة من الشروط الأساسية للوصول إلى حالة التوازن والتكامل المطلوبة بين الأمة والدولة في المجالين العربي والإسلامي. وحركية المجتمع الأهلي، والجهد المتواصل لتأسيس وتطوير بنى المجتمع المدني، لا يتم بعيدا عن الدولة. ويخطأ من يتصور أن بناء المجتمع المدني، يعني الاستغناء عن الدولة ومؤسساتها. فالأمة بحاجة إلى الدولة ومؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية، وبهذا لابد من القول، أن الأمة بحاجة إلى كلا الأمرين: مجتمع مدني فاعل يمارس دوره ويقوم بوظائفه الحضارية، ودولة عادلة ترعى شؤون الأمة ، وتقوم بدورها في إطار عزة الأمة وشهودها الحضاري.
وفي هذا السياق ”استقر مفهوم المواطنية كأساس للعلاقة بين المجتمع والدولة. أي كأساس للعقد الاجتماعي القائم بين الطرفين، حيث تكون الدولة ناظما وضابطا لهذه العلاقة، ويكون المجتمع حقل ممارسته لحقوق المواطن الفرد وحقوق الجماعة الوطنية في ظل قوانين ومؤسسات الدولة وفي ظل نظام ديمقراطي يشكل آلية تنظيم هذه العلاقة والمرجعية الأخيرة للدولة والمجتمع معا. إذن، إنّ المواطنية هي القاعدة الأساس التي يقوم عليها مفهوم المجتمع المدني. وبهذا المعنى يتجسد مفهوم المجتمع المدني في المجال الذي ينتظم فيه المواطنون كأفراد في نقابات وأحزاب وجمعيات غير حكومية ويمارسون نشاطات مستقلة عن سياسات أهل الحكم، لكنهم يمارسون تأثيرا مباشرا وغير مباشر في هذه السياسات. وهذا المجال «المدني» غير ملتحق بالدولة وسياستها، ولكنه أيضا غير خارج عليها. وإنه مستقل بالمعنى الإيجابي المؤثر في الدولة. والدولة من جهتها حيادية، أي أنها لا تطغى عليه ولا تستتبعه، بل تحافظ عليه وتحميه في إطار النظام العام والمصلحة العامة“ [2] .
وإن هذا التفاعل والتكامل بين الطرفين، هو التوليفة التاريخية التي تمكنت من نقل المحيط العربي والإسلامي من واقع التخلف إلى رحاب التقدم والحضارة.
واختلال هذه التوازن، يبدأ حينما تتخلى الأمة عن دورها أو تضعف قدراتها النوعية. فمع تراجع الأمة بمؤسساتها، تتغوّل الدولة وتحتل مجالات وحقول بفعل اختلال التوازن.
”والمجتمع الأكثر ديمقراطية هو أيضا ذلك المجتمع الذي يصنع الحدود الأكثر صرامة أمام هيمنة السلطات السياسية على المجتمع وعلى الأفراد. وهذا يعني أن المجتمع الأكثر حداثة هو ذلك المجتمع الذي يعترف، بأكبر قدر من الوضوح، بالمساواة في الحقوق لكل من العقلنة والتذويت، وبضرورة تآزرهما المتبادل. الديمقراطية هي ليست انتصار الواحد، ولا تحول الشعب إلى حاكم. إنها، على العكس من ذلك جعل المؤسسات تابعة للحرية الشخصية والجماعية. فهي تحمي هذه الحرية من السلطة السياسية - الاقتصادية، من جهة، ومن القمع الذي يمارس من قبل القبيلة والتقاليد، من جهة ثانية. وهي تحمي نفسها من نفسها أيضا، أي من عزلتها داخل نظام سياسي مغلق بين لا مسؤولية الدولة وطلبات الأفراد، وداخل فراغ تملؤه بمصالحها الخاصة وبصراعاتها الداخلية وبخطابيتها. إن ضغط الدولة على المجتمع هو كبير بالضرورة في أيامنا، بفعل إلحاح مشكلات التحديث والتنافس الاقتصادي والعسكري. من هنا، فإن تعزيز الذات هو المهمة ذات الأولوية، ومجتمعاتنا، أيا كانت أوضاعها، تميل نحو الخضوع إما لقانون الحاكم وإما لقانون السوق، والديمقراطية تستلزم صمود روحية الحرية والاستقلال والمسؤولية في مبدأي الحكم هذين“ [3] . ومؤسسات التنشئة الاجتماعية والتعليم والثقافة والتربية، تقوم في هذا الإطار بغرس أسس الذاتية الحرة والثقافة المسؤولة في أبناء المجتمع. فإرادة الإنسان الحر وثقافة الحرية والمسؤولية، هما سبيل تكريس حقائق الديمقراطية في الواقع المجتمعي.
”واستقرار المجتمع المسلم ونجاح حركات الإصلاح فيه لن يترسخ إلا من خلال عقلية مجتمع الشورى ونظامه، والتزام المنهج السلمي المدني مبدءاً في السعي السياسي للإصلاح والتغيير. ولهذا فإن من المهم أن ندرك أن المنهج الشوري في جوهره أمر مبدئي مفاهيمي وتربوي يجب أن يترسخ في ضمير الأمة على مختلف مستويات التربية والتعليم والتنظيم والتعامل فيها وليس مجرد قضية هيكلية تنظيمية في تشكيل مؤسسات الحكم يأخذ الاستبداد فيها ألبسة ووجوها متغيرة“ [4] . فتعميق مفاهيم الحوار والسلم المجتمعي والمجادلة بالتي هي أحسن ونسبية الحقيقة والتسامح، كلها تساهم في إنهاء موجبات التوتر وعوامل الصدام العنيف في داخل المجتمعات العربية والإسلامية. فالتكامل بين الدولة والمجتمع في سياق وطني - حضاري متواصل بحاجة إلى توفر الشروط التاريخية المؤهلة لكلا الطرفين لممارسة أدوارهما المطلوبة دون التعدي على الطرف الآخر. ولا شك أن القيم الحضارية التي تكرس في الواقع المجتمعي حالة الاستقرار السليم، هي من العوامل الأساسية لخلق تلك الشروط التاريخية التي تطلق مبادرات تاريخية باتجاه إنجاز مشروع توافقي بين الدولة والمجتمع في الفضاء العربي والإسلامي.
فلا تكامل وتفاعل حضاري بين الدولة والمجتمع، إذا لم تدخل القيم الحضارية السالفة الذكر في نسيج كلا الطرفين، ويتم تمثلها في السلوك الخاص والعام، في دوائر الدولة ومؤسساتها، وهياكل المجتمع ومؤسساته الأهلية والمدنية. فلا بد أن تتحول هذه القيم إلى قوة مادية وحقائق قائمة في الواقع العام، نصنع من خلالها سياق التفاعل والعلاقة السليمة بين الدولة والمجتمع.
وفي هذا الإطار تتجسد إحدى مهمات السلطة والدولة: وهي أن ”تواكب حركة المجتمع وإنتاجيته وتلتقط اتجاهات النمو وتسعى لتصويبها وتسريعها، هي «السلطة» التي يمكن الحكم على أدائها السياسي بالنجاح والإخفاقات السياسية للدولة العالمثالثية تعود في جزء أساسي منها إلى فشلها في التقاط اتجاهات النشاط الاقتصادي والاجتماعي لمجتمعها أو تعود إلى اعتقادها أنه بفرض أنماط إنتاجية جديدة مغايرة ومعاندة لتلك الموجودة تستطيع أن تحقق التقدم المطلوب“ [5] .
فالدولة معنية في كل الظروف والأحوال بمصالح الأمة والمجتمع، ولذلك ينبغي أن تسعى إلى تأمين مصالح الأمة وحماية مكتسباتها وقيمها وإبداعاتها ومنجزاتها.
ومن هنا نصل إلى حقيقة أساسية وهي: أن مدخل الوفاق والتكامل بين الدولة والأمة، هو التزام الدولة بمصالح الأمة واتجاهات الرأي العام المتوفر فيها. فكلما اقتربت الدولة من مفهوم الالتزام، كلما تعمقت أسباب الوئام والتفاعل بين الدولة والمجتمع. والعكس بمعنى أن ابتعاد الدولة عن مصالح الأمة والمجتمع وعدم خضوعها لاتجاهات الرأي العام، يعني على المستوى الفعلي ابتعاد الدولة في خياراتها وسياساتها عن مصالح الأمة الحقيقية، مما يجعل العلاقة بين الطرفين متوترة وذات طابع صدامي. ”ومما تقدم، بات بالإمكان رسم معادلة للاستقرار السياسي أو للاضطراب في مختلف المجتمعات السياسية، فكلما تقاربت مشاريع الدولة وسياساتها ومناهجها التربوية مع مصالح المجتمع وقيمه، كلما ارتقت هذه الدولة وتقدم معها المجتمع وظهرا مؤتلفين متفاعلين. وكلما تباعدت المشاريع والتطلعات كلما ازدادت مشاعر الخوف والاعتراض والنقمة لدى مختلف شرائح المجتمع“ [6] .
والدين الإسلامي في هذا المجال أرسى جملة من القيم والمبادئ التي تحافظ على حيوية الناس وحرياتهم، وتدافع عن حقوقهم، وترذل استخدام القوة والظلم في العلاقات الإنسانية والاستبداد والاستفراد بالرأي والحكم، وتجعل من الشورى وتداول الرأي والأمر والتسامح والتضامن والتعاضد من القيم الضرورية التي ينبغي أن تتعمق في النسيج المجتمعي.
وحتى تمارس الأمة دورها الحضاري، بحاجة إلى سيادة الشورى في محيطها ومكوناتها الثقافية والاجتماعية والسياسية، وذلك لأنها «الشورى» القادرة على تعبئة كل الطاقات تجاه خيارات الأمة الحضارية، وبها يتم تجاوز العقبات التي تحول دون الاستفادة من خيرات الأمة وثرواتها.
ومما سبق، نستطيع أن نفهم أهمية التحول النوعي في طبيعة العلاقة وسياقها وآفاقها بين الدولة والأمة في المجالين العربي والإسلامي. بوصفه آلية نوعية ونقلة كيفية تهيئ هذا المجال للانخراط الجاد والحيوي في شؤون العالم. وكلما تأخر أو تباطأ هذا المجال في تنظيم هذه العلاقة وتأسيسها وفق نسق حضاري جديد، كلما ابتعد هذا المجال عن أسباب النهضة وعوامل التطور والتقدم. فحجر الزاوية في مشروع التقدم والنهضة، هو قدرة العالم العربي والإسلامي على بلورة نمط حضاري للعلاقة بين الدولة والأمة، بحيث تكون هذه العلاقة تفاعلية - تواصلية وبعيدة عن كل أسباب الكيد والتوتر والإقصاء. وبالتالي فإن قدرتنا على إنجاز هذا النمط من العلاقة، هو الكفيل بإنجاز مفاهيم التغيير والنهضة في الواقع المجتمعي.
فالاختيار الحضاري الذي يسمح بتعبئة كل الطاقات وتحشيد كل الجهود والاستفادة من كل الإمكانات، هو ذلك الاختيار الذي يستند في خططه وبرامجه على علاقة حضارية متوازنة بين الدولة والأمة، بحيث يقوم كل طرف بتأدية أدواره ووظائفه على أكمل وجه. وهو الاختيار النموذجي الذي يؤسس لحقل سياسي سليم في العالم العربي والإسلامي.
و”الاختيار السياسي بهذا، اختيار أساسي يلقى القبول من الجميع أي بالاتفاق العام، أو الإجماع، ثم اختيارات فرعية تختلف فيها وعليها التيارات السياسية الشرعية. وبدون الاتفاق العام، لا يتحقق الاختيار الفرعي. فعلى المجتمع أن يحدد أولا اتفاقاته العامة، التي تعبر عنه كوحدة كلية لها وجودها وتماسكها، ومن ثم يستطيع أن يسمح بتداول السلطة، داخل إطار هذا الاتفاق العام. وبدون الاتفاق العام، يمر المجتمع والدولة بحالة فوضى سياسية شاملة. لأن تداول السلطة هنا يعني «تداول السلطة» و«تداول النظام»، إن صح التعبير. فقبل الوصول إلى اتفاق عام حول البدائل الممكنة، تصبح كل البدائل متاحة وفاعلة، ولكن تداول السلطة بينهما غير جائز بالهدف المقصود منه. ولنتخيل مثلا، دولة تمر بحكم شيوعي، ثم رأسمالي، ثم اشتراكي، ثم نازي، خلال عقدين من الزمن. مثل هذه الدولة لن توجد أصلا كدولة، لأن التغير الجذري في النمط السياسي، سوف يحطم بناء الدولة وتماسك المجتمع“ [7] .
فالاختيار الحضاري والأطر المرجعية العليا، هما اللذان يحددان شكل الممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وذلك لأن هذا الاختيار يؤسس لحالة من الإجماع والاتفاق العام على أسس وخطوط تلك الممارسات.
وهذه الأسس والخطوط المستمدة من الاختيار الحضاري والمرجعية العليا، هي التي تؤسس قواعد البناء وأساليب العمران على مختلف الصعد والمستويات. من هنا فإن الاختلافات بين الأمم والشعوب مردها إلى اختلاف اختياراتها الحضارية وتباين أطرها المرجعية. ولا يمكن لأمة تنشد النهضة الحقيقية أن تستعير اختيارات غيرها الحضارية، وذلك لأن عملية الاختيار عملية معقدة ومركبة، تمر بها الأمم والشعوب من خلال حياتها وخبراتها وتجاربها وتاريخها وخصوصياتها. من خلال كل هذه العناصر التي تمر بها الأمم، يتم تحديد الاختيار الحضاري. فلا استعارة أو تقليد أو محاكاة على صعيد اختيارات الأمم الحضارية وأطرها المرجعية.
و”الأمة بحضارتها، شرط لأية ممارسة للحرية، وثوابتها دستور يلتزم به الجميع، لأن اتفاقها وإجماعها، هو القرار السياسي الأول. لهذا ننادي بحرية الأمة، من نخبتها المتغربة، وسيادة اختيار الأمة، على اختيار وكلاء الغرب. وليس لأحد أن يظن في ذلك تعارضا مع الحريات، لأنه لن تقوم لنا قائمة، ونحن نفتح ممارستنا لأي بديل ونتساءل حتى عن حضارتنا، ونختار بين حضارتنا وحضارة الآخرين وكأنها اختيارات ندية متاحة، ونساوي بين مقدساتنا ومقدسات الآخرين. بل أكثر من ذلك، فما ننادي به من حرية سياسية، حسب رؤى وكلاء الغرب، يفرض على الأمة اختيار غير حضارتها، ويهمش ثوابتها لصالح ثوابت الآخرين، وينزع من الأمة حريتها في اختيار نفسها، وهو اختيار تلقائي فطري، لصالح تمتع النخبة المتغربة بالحرية“ [8] . فالتكامل بين الدولة والأمة ينبغي أن يستند على اختيارات الأمة الحضارية ومرجعيتها العليا، حتى يتحول هذا التكامل إلى بداية حقيقية وفعلية لعملية النهوض والانعتاق من كل المعوقات التي تحول دون العمران الحضاري.
وبنية التحول النوعي والتكامل والتفاعل بين الأمة والدولة في المجالين العربي والإسلامي بنية متكاملة شاملة. بمعنى إننا بحاجة إلى تظافر كل الجهود والحقول الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية لبلورة هذه البنية وإنضاج آليات عملها وتأثيرها في المجالين العربي والإسلامي. فإذا استطاعت هذه البنية المجتمعية أن تفرض نفسها وتكون جزءاً أساسيا من النسيج الاجتماعي، حينذاك تكون عملية التحول النوعي باتجاه التكامل والتفاعل بين الأمة والدولة عملية ممكنة. فلا بد أن تسود في الفضاء الاجتماعي والسياسي قدر من الأفكار والقناعات والقيم الإنسانية والحضارية، الذي على ضوئها وهداها تتم عملية التحول المطلوب.
وفي تقديرنا أن هذه القيم والأفكار تتجسد في الآتي:
1 - الديمقراطية وسيادة الحرية بمقتضياتها ومتطلباتها النفسية والثقافية والاجتماعية والسياسية، حتى تتبلور الإرادة الاجتماعية والفعل العام، باتجاه تأكيد هذه القيمة «الحرية» في كل مجالات الفضاء الاجتماعي. ولا شك أن كينونة هذه القيمة في المحيط الاجتماعي، سيؤدي إلى إحداث تحولات نوعية وأساسية في المسيرة الاجتماعية، باتجاه خيارات سياسية وثقافية وحضارية، تحدث انعطافة حقيقية في مسار المجتمع.
فإشاعة الديمقراطية وثقافة الحرية في الوسط الاجتماعي، وتأسيس تقاليد التحولات السلمية السياسية والاجتماعية، كلها تعتبر من الأمور الأساسية المفضية إلى تفاعل وتكامل بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي.
وإن العلاقة بين الأمة والدولة، لا يمكن أن تأخذ شكلها الحضاري، إلا بتحول ديمقراطي - سلمي، يأخذ على عاتقه تصحيح العلاقة وإزالة كل أسباب الجفاء وموجبات التوتر بين الطرفين.
فالتحول الديمقراطي - السلمي هو وسيلة الواقع العربي والإسلامي للوصول إلى الصيغة الحضارية للعلاقة بين الدولة والأمة.
ومن الأهمية بمكان أن تجري هذه العملية في سياق النسق الحضاري الإسلامي، حتى لا تحدث الفوضى أو يتم التناقض بين مشروعات الحرية والتعددية والتداول السلمي للسلطة وقيم الناس الدينية.
ووفق هذا المنظور يتم إعادة الاعتبار إلى الأمة ودورها في البناء الحضاري، والدولة ووظائفها السياسية والدفاعية والإستراتيجية. وبهذا تتشكل الوقائع والحقائق المنسجمة وقيم سيادة الحرية والديمقراطية في الواقع المجتمعي. ولن يتم الخروج من المآزق السياسية والثقافية والاجتماعية، إلا بتبني مشروع التحول الديمقراطي - السلمي ، الذي يأخذ على عاتقه صيانة حقوق الإنسان وتأكيد قيم التعددية السياسية وحرية الفكر والتعبير والتنظيم والتداول السلمي للسلطة واحترام الرأي العام والدفاع عن مكتسبات الأمة التاريخية والحضارية.
2 - إن العديد من الإخفاقات التي تعاني منها الدول العربية والإسلامية، ترجع في تقديرنا إلى غياب مبدأ المشاركة السياسية وضمور مساهمة الجمهور في الشؤون العامة. وهذا بطبيعة الحال يؤدي إلى اهتراء حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي، وشيوع حالات الفساد الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ويضعف من مستوى الشعور بالمسؤولية الوطنية. وكل هذه العناصر من الأمور التي تؤدي بشكل أو بآخر إلى إخفاق مشروعات البناء والتنمية، وتنمية حالات الغربة النفسية والاجتماعية، وتصاعد مستوى الجريمة بكل أشكالها ومستوياتها.
فتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، بحاجة إلى تطوير مستوى المشاركة السياسية، لأنها هي التي توسع من القاعدة الاجتماعية التي ترى من واجبها تعزيز واحترام حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي.
فتوسيع مستوى المشاركة السياسية وتطوير آليات مساهمة القواعد الاجتماعية المتنوعة في صناعة القرار وتنفيذه، من القضايا الجوهرية التي تؤدي إلى الاستقرار، وهو شرط التنمية والأمن الشامل ووسيلة النهوض بالواقع العام. و”إن الاهتمام بالشأن العام مباح لجميع أفراد المجتمع السياسي، بل هو واجب عليهم. إذ إن الشأن العام جزء من الوجود الاجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع السياسي، ولا يستطيع الفرد السياسي العمل على تدبير شأنه الخاص إلا في وضعية تفاعل أفراد المجتمع بالشأن العام“ [9] .
فلا استقرار من دون مشاركة سياسية نوعية ولا تطور ومواجهة فعالة لتحديات الخارج من دون فسح المجال لقوى المجتمع المختلفة لممارسة أدوارها ووظائفها التاريخية والحضارية.
فالحلقات مترابطة بين المشاركة والاستقرار والتطور. فالاستقرار هو حصيلة الديمقراطية وتطور مستوى المشاركة السياسية، فالمجتمع الذي لا يشارك في صناعة مصيره، ولا يتحكم في قضاياه الكبرى وأموره الهامة، يصاب بالإحباط والجمود. كما أن الدولة التي تقمع مجتمعها، وتتعالى على خياراته، وتمارس إقصاءاً مستمرا لقواه، فإن هذه الدولة تصبح بدون جذور حقيقية وصلبة في المجتمع.
لذلك فإن الدولة بحاجة إلى مجتمع دينامي ومشارك في تحمل المسؤوليات العامة، كما أن المجتمع بحاجة إلى دولة عادلة، عزيزة تمارس وظائفها في إطار التفاعل والتكامل والدفاع المتبادل. والاستقرار ضرورة للمجتمع والدولة معا، وسبيله توسيع دائرة المشاركة السياسية وتوطيد أركان العملية السياسية الديمقراطية. ”وإن دولة لا تمتلك الوسائل لتغيّر ما، هي دولة لا تملك الوسائل للمحافظة على ذاتها“ [10] .
فديمومة السلطات مرهون باستقرارها، والاستقرار هو حصيلة مدى مساهمة ومشاركة المجتمع وقواه في إدارة الأمور وصناعة القرارات السياسية والمصيرية.
لذلك فإن سبيل استمرار الحكومات، هو ديمقراطيتها وفسح المجال للمجتمع بشكل قانوني ومؤسسي لممارسة دوره والقيام بواجباته الكبرى.
فالديمقراطية تجلب الأمن والاستقرار، والمشاركة السياسية تغرس مضامين جديدة وحيوية لمفهوم الاستقرار السياسي. ولا ينحصر دور المشاركة السياسية في توفير الاستقرار وموجباته المجتمعية، وإنما توفر أيضا الظروف الموضوعية للتقدم الاجتماعي العام. فالتقدم كتطلع إنساني نبيل لا يمكن أن تنجز مفرداته في الواقع الخارجي، بدون مشاركة قوى المجتمع ومؤسسة الدولة في إنجازه وتكريس مساره. وذلك لأن المشاركة السياسية ستفرض قيما اجتماعية جديدة، تزيد من حيوية كل القوى وفاعليتها وتوجهها صوب التقدم والعمران الحضاري.
ومن الثابت تاريخيا أن الدولة الديمقراطية أكثر استقرارا من الدولة الاستبدادية ، وأن المجتمعات ذات المؤسسات والتكوينات المدنية والديمقراطية أكثر أمنا واستقرارا من المجتمعات التي لا تمتلك مثل هذه المؤسسات. لذلك كله فإننا نرى، أن أحد المداخل الضرورية لإنهاء الأزمة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، هو تطوير مستوى المشاركة السياسية، وتوطيد أركان الممارسة الديمقراطية، وذلك لأن هذا هو طريق الأمن والاستقرار على المستوى السياسي والحضاري.
والمشاركة السياسية تأخذ أشكال وآليات عديدة منها: تنمية وتطوير مؤسسات المجتمع الأهلي - المدني، والسماح بإنشاء الأحزاب السياسية والتشكيلات الثقافية والاقتصادية والنقابية، وإطلاق حرية الصحافة وتطوير أداءها ودورها في المجتمع، والانتخابات الحرة والنزيهة لمختلف المناصب والسلطات.
كل هذه آليات لتطوير مستوى المشاركة السياسية، التي هي السبيل الحضاري للاستقرار والأمن. فالاستقرار الحقيقي لا يتأتى بالقمع والقهر والعسف، وإنما بالرضا والتراضي والتعاطي مع شؤون المجتمع المختلفة بالرفق والحكمة. وإن الاستجابة الحرة والحضارية للانتماءات الموضوعية المتوفرة في الواقع المجتمعي، لا يعد ضعفا أو تهاونا أو تنازلا، وإنما يعد وفق المقاييس السياسية السليمة حكمة وقدرة سياسية فائقة للاستفادة من كل إمكانات المجتمع وقدراته في مشروع البناء والتنمية. فإرادة العيش المشترك، هي التي توفر أسباب ووجوه الوحدة الاجتماعية المطلوبة، القائمة على فعل التواصل والتعاون والوحدة الفعلية، التي لا تلغي التنوعات والانتماءات الموضوعية، وإنما تبلور لها مسؤولية ودورا في مشروع الإجماع الوطني المشترك.
3 - إن الإرث الدامي للعلاقة بين الدولة والأمة في المجالين العربي والإسلامي، يتطلب من أجل تجاوزه واستيعاب عبره ودروسه من التحليق في المستقبل، والعمل على أن يكون الغد أفضل من الأمس. وهذا بطبيعة الحال بحاجة من كل القوى إلى توفير الاستعداد النفسي والقدرة على تجاوز الإحن والأحقاد ومضاعفات العلاقة السيئة خلال العقود الماضية. وذلك لأن الانحباس في ماضي العلاقة وتأثيراتها الشاملة، يؤدي إلى شحن النفوس وتضييع الفرص وتنمية الأحقاد والتوترات.
إن العالم العربي والإسلامي، بحاجة إلى تحول نوعي، بحيث تتجه جميع القوى صوب صناعة المستقبل بعيداً عن سلبيات الحاضر وتداعيات العلاقة المتوترة بين المجتمع والدولة. لذلك ينبغي التركيز على الغد والمستقبل والخروج من شرنقة ما مضى، وهذا لا ريب بحاجة إلى قدرة نفسية فذة، وتطلع نحو الغد عميق. وإننا في هذا الإطار، بحاجة إلى ثقافة تبلور إرادة الجميع نحو مستقبل تسوده قيم الإنسان والحضارة. وإن هذه بحاجة إلى توفر شروط ثقافية واجتماعية تدفع باتجاه تجاوز إيجابي للإرث الدامي في علاقة الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي. وهذه الشروط لا تكون جاهزة في الفضاء الاجتماعي، وإنما هي تتبلور من خلال تراكم عمليات النظر والتفكير والمبادرات الاجتماعية التي تنشد بلورة الإطار الثقافي والاجتماعي لتجاوز محن الماضي وأرث العلاقة السيئة نحو غد أفضل ومستقبل خال من تداعيات المواجهة الدامية.
وإن التحول التاريخي المطلوب، يبدأ من إعادة بناء العلاقة بين الأمة والدولة، بين السلطة والمجتمع وفق أسس حضارية ومعايير تقترب من مفاهيم العدالة والحرية والتكامل والتفاعل. ولا يمكن أن يتم التحول التاريخي في المجالين العربي والإسلامي بدون إعادة تنظيم هذه العلاقة بين الطرفين.
فالاستقرار السياسي لا ينجز إلا بتوافق حضاري بين الأمة والدولة وأي تنمية لا تلحظ هذه المسألة فإن مآلها الفشل والإخفاق. فإقصاء الأمة وتهميش المجتمع، لا يصنع تنمية وتقدما، لأنه لا تنمية بدون مشاركة المجتمع، ولا تقدم بدون قيام الأمة بمسؤولياتها التاريخية والحضارية.
فالإخفاق هو نصيب أي مشروع يقصي الأمة ويهمش دورها في الحياة. كما أن النجاح تتبلور أسبابه وتتجمع عناصر إرادته من خلال التوافق الحضاري بين الأمة والدولة. والتوافق هنا يعني المشاركة والتفاعل والمراقبة والشهود والتكامل.
على خلفية المتغيرات العالمية، ومسارات التطور السريع الذي يجري في المعمورة على مختلف الصعد والمستويات. في هذه المرحلة التاريخية المليئة بالتحولات والاستحقاقات التي تختلف أشكالها ومضامينها على مجمل ما واجهته دول العالم العربي والإسلامي خلال المراحل السابقة. وحتى لا تزداد أزمات الواقع العربي والإسلامي سوءا واستفحالا، نحن بحاجة إلى جهد متواصل لاستيعاب المتغيرات وإدراك المتطلبات الجديدة. وإن هذا الاستيعاب هو نتيجة استحقاق وسعي متواصل، وهو ثمرة تحرر وفعل نوعي في مختلف مجالات الحياة. فالاستيعاب العميق لمتطلبات اللحظة التاريخية، هو الخطوة الأولى في مشروع وقف الانحدار وصناعة المنجز الحضاري.
وإننا نتطلع إلى اليوم الذي يتمكن فيه العرب المعاصرون من اقتحام فضاء العمل السياسي المدني والسلمي، والذي يأخذ على عاتقه تعميق متطلبات التحول الديمقراطي في الوطن العربي والإسلامي.
ومن الأهمية في هذا الإطار، الاعتقاد أن فض الاشتباك بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية والإسلامية المعاصرة، هو من ضرورات التحول الديمقراطي السلمي. وذلك لأن استمرار المماحكات، وتعاظم عوامل التوتر بين الطرفين، يؤدي فيما يؤدي إليه إلى اشتعال الحروب الداخلية، واستفحال نزعات العنف والقتل والكراهية والتعصب، وتعاظم خيارات التطرف والاستئصال. ولا ريب أن هذه المظاهر والصور، كلها مناقضة لمتطلبات التحول الديمقراطي - السلمي. وليس من شك أن بقاء الوضع العربي والإسلامي على حاله، يعني فشل المشروع التاريخي للدولة الوطنية الحديثة، وإخفاق لكل النخب السائدة سياسيا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا.
فالإخفاق شامل، وأسبابه وموجباته متوفرة في كل الدوائر والمؤسسات والحقول. وأمام هذا الإخفاق، نحن بحاجة إلى عملية إصلاح المجتمعات العربية والإسلامية من الداخل، لأنها المدخل الفعال لتفعيل هذه المجتمعات وإعادة حيويتها وتخليصها من توتراتها الداخلية.
وفي سبيل الوصول إلى مصالحة حقيقية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي نؤكد على الأمور التالية:
1 - ضرورة الحوار بين النخب في العالم العربي والإسلامي، وتوطيد أسباب التواصل الثقافي والسياسي بينها. ولا شك أن تدشين مرحلة الحوار الجاد بين نخب الأمة، سيؤدي إلى إرساء قواعد وتقاليد للتواصل الثقافي والسياسي. ومن الطبيعي أن تكريس خيار التواصل يفضي إلى نضج ثقافة سياسية واجتماعية، ذات طابع ديمقراطي وسلمي. وهذا يساهم مساهمة كبيرة في إرساء قواعد وثقافة مؤاتية للمصالحة بين الدولة والمجتمع.
فحالات التوتر مهما كان شكلها أو عنوانها بين الدولة والمجتمع لا تصنع استقرارا وأمنا شاملا، وإنما تزيد من فرص الاضطراب والانفجار السياسي والاجتماعي. لذلك فإن من المهمات الكبرى لكل قوى الأمة، هو إرساء تقاليد الحوار والتواصل الثقافي والسياسي، حتى يتسنى للجميع بلورة أطر وبرامج للخروج من الأزمة المتفاقمة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي. فالقوة لا تحل الخلافات وإنما تؤكدها وتعمقها. والقهر لا ينهي تباين وجهات النظر وتعدد الأطر المرجعية والفكرية، وإنما يزيد من حراكها وفعاليتها. فينبغي أن نعطي لبعضنا البعض الفرصة للحوار بالوسائل الحضارية والسلمية، حتى تتراكم خبرتنا الإنسانية، وتتكثف في واقعنا حقائق العقل والحضارة. والاعتراف بالآخر وجودا وفكرا ومدرسة، هو بوابة الحوار الجاد بين نخب الأمة.
والحوار والتواصل المطلوب بين نخب الأمة وقواها المتعددة، لا يأخذ شكلا أو صيغة واحدة، وإنما ستتعدد الأشكال والصيغ وذلك بفعل اختلاف الظروف وطبيعة التحديات ومستوى النضج الثقافي والسياسي الذي سيتوفر من جراء عملية التواصل والحوار.
ولا ريب أن هذه العملية بحاجة إلى أطر مؤسسية ثابتة ترعى مثل هذا التوجه وتخطط له، وتوفر أسباب النجاح له. كما تحتاج إلى كل المبادرات الناضجة والمسؤولة والتي تأخذ على عاتقها تعميق حالة التعارف والتنسيق والتعاون بين قوى الأمة ونخبها المتعددة.
وبهذا نطرد من واقعنا الخطاب الآحادي والعقلية الدوغمائية والمنطق الشمولي والمطلق الذي لا يرى إلا ذاته ويلغي ما عداه. ويفتقر هذا المنطق إلى كل دلالات المرونة واستعدادات الحوار والتساؤل والنقد. فالتواصل الحواري والتعاوني بين نخب الأمة، ينبغي أن يحمل في ثناياه ومضمونه القبول بالتساؤل والاختلاف والنقد.
وذلك لأن التواصل الحواري، لا يستهدف تهديم الآخر وإفشاله، وإنما يستهدف تعرية واكتشاف كل الثغرات والنواقص التي أدت إلى إخفاق النخب في إنجاز نهضة الأمة وتقدمها. فالحوار من أجل فحص المسيرة ومحاكمتها موضوعيا، لا بعقلية المنتصر والمنهزم وإنما بعقلية مسؤولية الجميع عن الحالة الراهنة، وقدرة الجميع إذا توفرت الإرادة الصادقة والثقافة السليمة لتنظيم الاختلافات لاجتراح فرادتنا ونهجنا في البناء والتقدم.
فالتواصل الحواري ليس وسيلة جديدة لتأبيد القوالب الفكرية والمنهجيات السياسية السائدة، وإنما آلية لمنع اجتراح الأفكار وإعادة إنتاج المنهجيات والعقليات الدوغمائية، وتطمح إلى إنتاج المعرفة الجديدة والمعطيات السياسية المنسجمة وروح العصر وتثري حالات التعدد والتنوع المتوفرة في جسم الأمة.
لهذا كله ينبغي أن تهتم نخب الأمة من مختلف المواقع والساحات، ببلورة المبادرات وصياغة الأطر الكفيلة بتحريك حالة التواصل الحواري بين نخب الأمة ومؤسساتها الأهلية والمدنية، حتى تتضح وتتبلور رؤى الخروج من مآزق الراهن. وذلك لأن ”حوار النخب يخفف بدرجة كبيرة من أخطار التعصب والغلواء التي تستوطن نخبة ما في ظرف ما. وغياب الحوار بين النخب هو الذي أفضى إلى سوء الأحوال في البلاد العربية إلى درجة تعلن فيها الأحكام العرفية في بلد، ونظام الطوارئ في آخر، والاقتتال الداخلي في ثالث ناهيك عن غياب المؤسسات التي تكفل حرية المواطن وحياته في كثير من البلاد“ [11] .
ولا ريب أن الفشل في تأسيس واقع حواري بين نخب الأمة، يؤدي إلى استفحال الأزمات وتفاقم المشكلات وتشتت الجهود، ويضمر أثر هذه النخب في الواقع العام.
2 - دائما النمط الاجتماعي المغلق، والذي لا يمد جسور التعارف والانفتاح مع الآخرين، يتحول إلى نمط اجتماعي يحتوي أو يتضمن الكثير من عوامل الخطر والتقسيم الاجتماعي. لأن هذا النمط المغلق يغذي نفسه بعقلية التميز والعداء والصراع مع الآخرين كمبرر دائم لاستمرار عقلية الكانتونات الاجتماعية.
ونظرة واحدة إلى خريطة الدول العربية الاجتماعية لنرى كيف أن عقلية الكانتون والقطيعة الاجتماعية مع الآخرين هي القاعدة الصلبة التي كرست مفهوم التقسيم والتفتيت الاجتماعي.
لهذا فإن السلم المجتمعي، لا يتحقق على قاعدة هذه العقلية التي تصنف وتفرق ولا تؤسس وتجمع. وإنما السلم المجتمعي يتحقق على قاعدة عقلية نبوية، تجمع ولا تفرق وتبحث عن القواسم المشتركة قبل أن تبحث في نقاط التمايز والافتراق.
ومقتضيات الحوار عديدة من أهمها: التعارف وفتح الأجواء الاجتماعية المختلفة، بحيث تنعدم نفسيا واجتماعيا مسألة الكانتونات والمجتمعات المغلقة. لأنه لا يعقل أن يتم حوار اجتماعي بدون تعارف وأجواء اجتماعية مفتوحة. فشرط الحوار ومقدمته الضرورية التعارف الاجتماعي بكل ما تحمله كلمة التعارف من معنى ومدلولات اجتماعية وثقافية. والانفتاح ونبذ الانطواء على النفس مهما كانت مسوغات هذا الانطواء التاريخية والاجتماعية. إن الإنسان «الفرد» المنطوي على نفسه لا يمكنه أن ينظم ويوسع علاقاته الاجتماعية. كذلك الإنسان «المجتمع» لا يمكنه أن يوسع من علاقاته، ويعرّف الآخرين بأفكاره ومعتقداته ورموزه التاريخية ومغزاها الثقافي والحضاري وهو منطو على نفسه.
فالانفتاح وإلغاء الحدود المصطنعة والوهمية في بعض الأحيان، هو الذي يؤسس لمنظور حواري اجتماعي متقدم، يزيد في إثراء الساحة الاجتماعية، ويعمق كل مقولات الوحدة الوطنية في الواقع الخارجي.
وينبغي أن لا نفهم الانفتاح في هذه العملية الاجتماعية الشاملة باعتباره مقايضة تاريخية - ثقافية لكل الخصائص الذاتية والتاريخية. وإنما هو في حقيقة الأمر دفع وإعادة فهم لتلك الخصوصيات من أجل إيصالها إلى مستوى الحقائق الموضوعية التي يستفيد منها أي إنسان.
ولعل مقتل الكثير من المجتمعات المغلقة يبدأ حينما تصر هذه المجتمعات على إبقاء تلك الخصوصيات ذاتية. بينما المجتمعات الإنسانية المتقدمة هي التي استخدمت إمكاناتها المختلفة من أجل إعطاء الخصائص الذاتية البعد الموضوعي الذي يجعلها قابلة للتطبيق في مجالات اجتماعية أخرى. إن الانفتاح الذي نقصده ونراه ضرورة للحوار الاجتماعي، هو الذي ينطلق من هذه العقلية التي تدفع باتجاه أن تعطي لمضامين مفاهيمها الذاتية بعدا موضوعيا جامعا. بحيث تغذي هذه المفاهيم العالية مجموع الوحدات الاجتماعية. ووفق هذا المنظور نتمكن من الوصول إلى مفهوم الحوار الاجتماعي الحيوي والهادف إلى تفعيل القواسم المشتركة بين مجموع الوحدات الاجتماعية.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا، أن الكثير من الحروب الأهلية التي تجري في العديد من البلدان ترجع بالدرجة الأولى إلى إصرار كل طرف على جعل مفاهيمه الذاتية، هي المفاهيم الحاكمة والسائدة ودون أن يطور في مضمون هذه المفاهيم ويعطيها أبعادا موضوعية.
وهذا الإصرار هو الذي يزاوج بشكل قسري ومتعسف بين المفهوم الذاتي والشخص أو الفئة السياسية أو الاجتماعية التي تحمل لواء ذلك المفهوم الذاتي. وهذا ما يفسر لنا ظاهرة أن الكثير من الأحزاب السياسية في العالم الثالث وبالذات في الدول التي تخوض حوربا أهلية هي غطاء حديث لمضامين اجتماعية تقليدية سواء قبلية أو جهوية أو ما أشبه.
وجماع القول: أن السلم المجتمعي لا يتحقق إلا بحوار اجتماعي مستديم لا يبحث في لاهوتيات كل طرف ومواقفه التاريخية، وإنما يبحث ويؤسس لحياة اجتماعية ووطنية سليمة.
وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن استمرار الخطاب الاجتماعي والسياسي في التغذية المعكوسة لتلك التمايزات التاريخية والاجتماعية، يؤدي إلى أن يمارس هذا الخطاب دورا تقسيميا في الوطن والمجتمع. بينما من الضروري أن يتطور هذا الخطاب ويتجه نحو صيانة منظومة قيمية ومفاهيمية جديدة، تحترم التمايزات التاريخية دون الانغلاق فيها، وتؤسس لواقع اجتماعي جديد يستمد من القيم الإسلامية والإنسانية العليا منهجه وبرامجه المرحلية.
3 - إن العالم العربي أحوج ما يكون اليوم إلى الإجماع الوطني الجديد، الذي يستوعب جميع القوى والتيارات في أطر منسجمة مع بعضها البعض لمواجهة التحديات والعمل معا من أجل تنفيذ التطلعات الممكنة. ولا شك أن طريق الإجماع الوطني، لا يمر عبر الاستفراد بالحكم والقوة واستخدام أساليب القهر والإقصاء. إنها تزيد من التشظي، وتساهم في تنمية العصبيات والعقليات الدوغمائية. لذلك نرى أن بوابة الإجماع الوطني المطلوب، واصطفاف جميع القوى والنخب في إطار مشروع جامع، هو إصلاح الوضع السياسي في المجالين العربي والإسلامي. والإصلاح هنا لا يعني إيجاد بعض الشكليات القانونية والدستورية ، أو الإعلان الدائم عن ضرورة الإصلاح والتطوير، وإنما يعني بالدرجة الأولى تغيير وتطوير شروط الممارسة السياسية، وتوسيع دائرة النخبة السياسية، وتأسيس العملية السياسية على قواعد أكثر عدالة والتزاما بقيم الأمة وخصوصياتها الحضارية والتاريخية.
ودون ذلك ستزداد حالات الاغتراب عن الدولة في المجالين العربي والإسلامي، وستتآكل الشرعية وستستشري عوامل الانفجار في المحيط المجتمعي كله.
ومن خلال هذا المنظور، نرى أن الكثير من أشكال الممارسة السياسية في المجالين العربي والإسلامي تحتاج إلى تغيير وتطوير، وذلك لأنها أشكال تعمق من أزمة الواقع وتزيده غشاوة وضبابا وارتباكا. فالسياسة ليست نضالا ضد الأخلاق والقيم الإنسانية الكبرى، وإنما هي في جوهرها نضال من أجل الحرية والعدالة. لذلك ينبغي أن تكون الممارسات السياسية منسجمة وهذه القيم. فإعادة الاعتبار إلى السياسة، يبدأ من اعتبارها حقلا عاما بإمكان كل مواطن المشاركة فيه بصرف النظر عن منبته المذهبي أو الاجتماعي. وأن المعيار الناظم لهذه المشاركة هو كفاءة الإنسان وقدرته على تقديم برامج وحلول لأزمات الواقع ومشكلاته. وحتى تتوفر الظروف الموضوعية للانخراط من قبل جميع قوى الأمة في حقل السياسة، بحاجة إلى التأكيد على أن هذا الحقل من الحقول المدنية الهامة، التي يتم فيها التعاون والاختلاف والتنافس والصراع بأدوات مدنية وديمقراطية. ويتم الابتعاد كليا عن كل أشكال عسكرة السياسة وعنف القول وعنف الفعل.
فعن طريق فتح المجال لكل القوى للمساهمة في حقل السياسة ضمن الضوابط الدستورية، ومدنية هذا الحقل، وديمقراطية أساليب العمل المتبعة فيه والتزامها التام بالقوانين المشروعة. عن طريق هذه العناصر يتم إعادة الاعتبار إلى السياسة، ودورها في إنهاض الأمة وبلورة مقاصدها العليا.
فبوابة خلق الإجماع الوطني الجديد هو تجديد الحياة السياسية، وتوسيع مستوى المشاركة فيها، وتنظيم قواعد التنافس والصراع فيها أيضا.
فالمطلوب إحداث تحولات نوعية على مستوى التصورات التي نحملها عن السياسة وطبيعة عملها وآليات فعلها، بحيث تكون التصورات الجديدة متناغمة والإطار الحضاري لمجتمعاتنا. وإننا بحاجة أن نبحث في مفهوم السياسة، ونعيد تأسيسه على قاعدة حضارية، نتجاوز من خلالها كل الرواسب السيئة لمفهوم السياسة المتداول اليوم في الساحة الدولية. لهذا فإننا بحاجة إلى مؤسسات وأطر للتنشئة والتنمية السياسية، حتى يتحول هذا الحقل إلى حقل فعال ومنتج في سبيل البناء الحضاري. وأي ممارسة تعسفية لإقصاء السياسة من المجتمع فإنها تؤدي في المحصلة الأخيرة إلى ضعف مؤسسة الدولة ومؤسسات المجتمع، وذلك لأنها أقصت من مسيرتها رافدا أساسيا من روافد التطور والتقدم. لهذا نجد أن الأنظمة التي تقصي السياسة من مجتمعها وتحارب بمختلف الوسائل نمو الأطر السياسية المؤسسية، تتراجع قيم الحرية في واقعها، وتتضاءل إمكانية التضامن، وتتراجع القيم الضابطة للعمل العام، ويصاب العقد الوطني والاجتماعي بالخلل والانفراط.
”ويفترض هذا المنظور أن سبب فساد السياسة العربية لا يكمن في طبيعة السياسة القائمة كأهداف وأساليب وغايات ووسائل عمل، وإنما في تقصير بنية الدولة عن تلبية هذه الأهداف، أي في الطابع غير الفعال وغير المتسق للدولة من حيث هي آلة تنفيذية. ومن هنا، فإن إصلاح السياسة يقتضي، بالدرجة الأولى إصلاح مفهوم الدولة، أي تحديد النموذج الصالح منها. ويلتقي هذا التفكير مع التفكير الكلاسيكي في مفهوم المؤسسة وخصوصيتها وما يرتبط بها من تقنين وتجريد وتعميم، بالمقارنة مع فكر السلطة الشخصية والزبونية والخاصة أو الإقطاعية التي كانت تميز، حسب اعتقاد محللي المجتمعات الإسلامية الكلاسيكيين، الدولة التقليدية السلطانية“ [12] .
وهكذا يصبح صوغ مفهوم جديد للسياسة ، هو أحد الشروط الأساسية لعملية الإصلاح في الواقعين العربي والإسلامي، وذلك لأن التنشئة السياسية السليمة وسيلة أساسية من وسائل توسيع قدرة المجتمعات العربية والإسلامية على تدعيم خيارات العقل والحرية في الممارسة السياسية سواء في مؤسسة الدولة أو مؤسسات المجتمع السياسي.
ولعلنا لا نعدو الصواب حين القول: إن أحد الأسباب الرئيسة لإستشراء الفساد «بالمعنى العام» في الواقع السياسي العربي والإسلامي، هو انفصال مؤسسة الدولة عن المجتمع، وضعف تحرر المجتمع من هيمنة الدولة وغطرستها. لهذا فإن كل خطوة في طريق إنجاز الانسجام الواعي بين الدولة والمجتمع تعد خطوة في طريق إصلاح السياسة في المجالين العربي والإسلامي. كما أن كل جهد يبذل لتحرر المجتمع من ضغوطات الدولة الاستبدادية يعد جهدا أساسيا في بناء السياسة على أسس مجتمعية جديدة. فالسياسة كسلطة ينبغي أن تكون موضوعية وعقلانية وبعيدة عن كل رواسب الانحطاط في الواقعين العربي والإسلامي. وبوابة إنجاز ذلك هو المزيد من الجهد والكسب والعمل لإنجاز مصالحة تاريخية بين الدولة والمجتمع والكفاح الدائم من أجل انعتاق المجتمع من هيمنة الدولة الاستبدادية عن طريق بناء مؤسساته وتعظيم نقاط قوته وتسيير شؤونه بإرادته وإمكاناته. فتحرر المجتمع من الهيمنة الشمولية للدولة الاستبدادية هو شرط بناء مجتمع أهلي مدني قادر على اجتراح تجربته وبناء نموذجه. وبالتالي فإن ”إدراك سبب إخفاق السياسة وفسادها، ومن ورائها تفاقم قيم القهر والعنف، وانسداد آفاق التحول والتقدم السياسي، في اتجاه بناء الفرد كمواطن من جهة وبناء الجماعة كأمة متضامنة ومتحدة وموحدة من جهة ثانية، يستدعي، إذن، دراسة التجربة التاريخية التي حكمت تجديد نموذج السياسة ومفهومها وشرطت عملية تكوين الدولة العربية في العصر الحديث، من حيث هي تجسيد لقيم وغايات اجتماعية وأخلاقية، ومن حيث هي وكالة تنفيذية تقوم بترجمة هذه القيم والغايات في الواقع العملي وتضمن نجاعتها. ويفترض هذا المنهج، إذن إبراز دور العوامل المختلفة، التراثية والمعاصرة، الثقافية والمادية، المحلية والعالمية التي أدى تفاعلها إلى توليد الظاهرة الجديدة بدل التركيز على أحد هذه العوامل من أجل محو العوامل الأخرى أو التقليل من أهميتها. والمقصود أن الأمر المهم في فهم الظاهرة ليس العوامل الثابتة نفسها، المادية أو المعنوية، الذاتية أو الموضوعية، بل العلاقات التي تنشأ بين هذه العوامل، والقوانين التي تحكم تبدل هذه العلاقات. ولا يمكن لفهم نظرية الدولة وحدها ولا للكشف عن أثر الذات وحده أيضا، إصلاح نظرتنا للدولة وبناء الدولة. إن جوهر الإصلاح كامن في مراجعة تجربتنا السياسية التي ارتبطت ببناء الدولة الحديثة والكشف عن مثالبها ونقائصها“ [13] .
فالمصالحة الحقيقية بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، متوقفة إلى حد كبير على ضرورة جعل حقل السياسة بكل مستوياته وأشكاله مفتوح على جميع الطاقات والتعبيرات. فلا إقصاء لأحد من ممارسة هذا الحق في هذا الحقل، ولا تهميش لأي طرف وطني. ففي الحقل السياسي تتنافس التعبيرات والبرامج، ويبقى الخيار الأخير بيد الأمة والشعب. فهو الذي يقرر البرامج السياسية، وهو الذي ينتخب الرجال لتأدية الوظائف وتنفيذ البرامج. فلا مصالحة بدون حياة سياسية جادة، ولا حياة سياسية جادة بدون ديمقراطية تسمح للجميع من ممارسة دوره في البناء والتنمية. وهذا المطلب بحاجة إلى تظافر الجهود والقوى والفعاليات من أجل صوغ إجماع وطني جديد، وعلى أسس قانونية وديمقراطية، ترعى جميع الخصوصيات، وتلحظ طبيعة التحديات واللحظة التاريخية التي نعيشها.
وإن المصالحة بين الدولة والمجتمع ليس مقولة نظرية فحسب، بل هي حركة سياسية فاعلة تتجه صوب القواسم المشتركة لتفعيلها، ونحو السلبيات لتحديدها وبيان سبيل إنهائها، وعملية ثقافية - اجتماعية تأسس لعقد سياسي جديد يربط قوى المجتمع مع مؤسسة الدولة.
وآليات وأساليب إحداث المصالحة والتوازن والتكامل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني الأهلي متعددة ومتنوعة ومفتوحة على كل المبادرات والفعاليات الإنسانية. وحجر الزاوية في هذه المسألة هو وعي الإنسان الذي يتجه دوما نحو بناء قوته وفق أسس سليمة. وهو وعي يقبل بعمق بالآخر ويؤسس بنضج وحكمة لحالة حوارية مستديمة أفقها مفتوح على الإنسان ومستقبله بصرف النظر عن منبته الأيدلوجي أو عرقه أو انتمائه السياسي.
4 - إن ردم الفجوة القائمة بين النخب السياسية السائدة في المجالين العربي والإسلامي وعموم الشعوب العربية والإسلامية، بحاجة إلى توفر الإرادة السياسية الصادقة التي تأخذ على عاتقها ردم الفجوة وإنهاء الهوة المتوفرة في المحيطين العربي والإسلامي.
وردم الفجوة ليس خطابا بلاغيا يتفوه به الزعيم، أو منشورا يوزعه الحزب السياسي، وإنما هو ممارسة سياسية مستديمة، تستهدف إزالة أسباب هذه الفجوة، وتوفر الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية لردم هذه الفجوة عبر عمل سياسي نوعي يشترك في إنجازه نظام الحكم وقوى المجتمع السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي تقديرنا أن معيار توفر الإرادة السياسية الصادقة لعملية التحول تتجسد في إطلاق مشروع التعددية السياسية والسماح بإنشاء الأحزاب والجماعات السياسية حتى يتشكل الجسر السياسي الضروري لعملية التحول المطلوب.
وينبغي أن ندرك أن النظم السياسية المستبدة هي معرضة على الدوام لفقدان شرعيتها واضمحلال قاعدتها الاجتماعية واسترخاء مشروعها الوطني.
فالتعددية السياسية الحقيقية هي البوابة الحقيقية لعودة الشرعية وفعاليتها، وهي معيار توفر الإرادة السياسية المتجهة نحو التغيير والتطوير، كما أنها هي التي تعمق من مشروع المصالحة بين الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي .
فالتعددية السياسية الحقيقية، بمثابة مفتاح لدخول العصر وإنجاز مقولة التحول الديمقراطي - السلمي في الفضائين العربي والإسلامي.
والحقيقة التي ينبغي أن لا تخفى على أحد هي: أن دولة ونظاما سياسيا لا يقر بالتعددية، سيؤدي عدم إقراره عاجلا أو آجلا إلى بروز الخصوصيات الضيقة، ونضوج أسباب التوتر والتعصب وموجباتهما، وسيدخل الجميع في نفق النزاعات الهامشية والعصبوية المقيتة.
فالدولة التي تستبعد تشكيلات مجتمعها السياسية والثقافية، وتفرض عليه نمطا واحدا في حياته السياسية والثقافية، فإنها في حقيقة الأمر تغرس عوامل الحروب الاجتماعية بأشكالها المختلفة. وذلك لأن حقائق السياسة والمجتمع، لا يمكن نكرانها بالقوة واستخدام أشكال القسر والإرهاب، لأن هذه الطريقة تزيد من ترسيخ هذه الحقائق.
فالطريقة الحضارية للتعامل مع حقائق السياسة والمجتمع هو التكّيف معها وسن القوانين المؤاتية للاستفادة من هذه الحقائق في بناء الوطن وتطوير المجتمع. فإطلاق مشروع التعددية السياسية في المجالين العربي والإسلامي، هو الكفيل بتوظيف حقائق السياسة في مشروع البناء والتنمية.
ولا بد أن ندرك أن هيمنة مقولات سياسية واحدة، لا ينهي مشكلات الواقع ولا يؤدي إلى الاستقرار المطلوب، وإنما يؤدي إلى ظهور مقولات وأيدلوجيات متطرفة وعنيفة. وهذا بطبيعة الحال يزيد من أوار المشكلات ويدمر كل أشكال الاستقرار.
فالتطابق القسري لا يؤدي إلى الوحدة، وثقافته لا تصنع استقرارا وأمنا. فالوحدة لا تتأتى إلا باحترام التنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة. وطريق الاستقرار والأمن هو مشاركة الجميع في البناء والتنمية. والتعددية السياسية لا تستبدل بغيرها، لأنها ضرورة من ضرورات النهوض وتتكامل مع غيرها من قيم التقدم والتنمية والعمران. فالنهضة الاقتصادية ليست بديلا عن التعددية السياسية، كما أن الحرية الثقافية ليست بديلا عن الخصوصية الحضارية. فإن هذه القيم الكبرى تتكامل مع بعضها، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نمارس عملية المقايضة بين هذه القيم لأنها كلها ضرورات في البناء الحضاري، ولا يمكن لمجتمع أو أمة تنشد التقدم أن تتخلى عن بعض هذه القيم. ولا بد أن ندرك بعمق أن عملية المقايضة تشكل وفق كل المقاييس خسارة فادحة لكل هذه القيم وتجسيداتها المجتمعية، وذلك لأن لا فعالية لتعددية سياسية بدون نهضة اقتصادية ولا حرية سياسية بدون نظام اجتماعي - اقتصادي عادل وبعيد عن كل أشكال اللامساواة.
فهذه القيم تشكل في مجموعها منظومة متكاملة، لا يمكن لأي قيمة أن تؤدي دورها ووظيفتها الكاملة إلا في ظل مساندة من القيم والمبادئ الأخرى.
فالحرية لا تتجسد بشكل سليم في الواقع الخارجي إلا بقيمة العدالة في ميادين الحياة المختلفة، ولا عدالة مستديمة بدون مساواة وتكافؤ للفرص. فالتضحية بإحدى هذه القيم تحت أي مبرر، هو انحراف عن الطريق السوي للبناء والعمران الحضاري. فحجر الأساس في فعالية هذه القيم أن تكون متكاملة مع بعضها، بحيث أن كل قيمة تسند الأخرى. ومن خلال فعالية هذه القيم بمجموعها تنجز عملية التقدم الإنساني. والجدير بالذكر في هذا الإطار، أن تكامل هذه القيم لا يأتي دفعة واحدة وإنما بالتدريج. لذلك ينبغي أن نتشبث بكل الأسباب والعوامل المفضية إلى هذه القيم لتكريسها في واقعنا المجتمعي، وإنضاج تأثيرها في مسيرتنا الاجتماعية. لذلك فإننا مع كل خطوة تقرّبنا وتمكننا من هذه القيم. وهذا التأييد للخطوات المرحلية ليس من أجل الانحباس فيها أو الاكتفاء بها، وإنما من أجل الانطلاق من خلالها إلى توسيع دائرة هذه القيم في الواقع المجتمعي.
فاستبداد الدولة وقمعيتها، يؤدي إلى انقطاع قوى المجتمع عنها وعدم تفاعلها مع خياراتها ومشروعاتها. وهذا بطبيعة الحال يزيد من حالات الانكفاء ويفاقم مستوى الانعزال بين الطرفين. وهذه الحالة بكل مستوياتها لا تخدم الأمة، ولا تؤسس لعملية وثوب حضاري، ولا تحول دون بروز عوامل التوتر والنزاعات، وإنما تغذيها وتمدها بأمصال التفجير وأسباب الاستدامة.
وخلاصة الأمر: إننا نرى أن هذه العناصر الأربعة، توفر مشهدا تتكامل فيه علاقة وأنشطة الدولة والمجتمع في المجالين العربي والإسلامي، وتزول إلى حد بعيد كل أسباب وموجبات التوتر والنزاع المفتوح بين الطرفين. وأن هذه العناصر بمثابة البوصلة الضرورية لمصالحة الدولة والمجتمع والخروج من تداعيات التوتر الشاملة.
من أين تستمد الدول قوتها، وما هو المعيار الحقيقي والجوهري لتحديد قوة الدولة أو ضعفها. حيث من الضروري على المستويات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، أن نحدد المعيار الأساسي الذي يحدد قوة الدول وضعفها. وذلك حتى يتسنى لنا كشعوب ومجتمعات من العمل من أجل توفير عناصر القوة في فضائنا ودولنا، وطرد كل عناصر الضعف والتراجع.
للإجابة على هذا السؤال المركزي، بإمكاننا القول أن الكثير من الإجابات والتصورات نستطيع اختزالها في إجابتين ورؤيتين وهما:
1 - إن الدولة القوية، هي التي تمتلك إمكانات عسكرية واقتصادية هائلة، وتتمركز كل القرارات والصلاحيات في يدها. فتساوق هذه الرؤية بين المركزية والقوة.
فالدول ذات الطابع الشمولي والمركزي في سياساتها واقتصادها هي من الدول القوية، حتى ولو كان الشعب يعيش القهر والحرمان والاضطهاد. والمشروعات التقدمية التي سادت المجال العربي في الحقب الماضية، عملت على تأكيد هذه الرؤية، وإعطائها بعداً أيدولوجياً. لذلك رفعت هذه المشروعات شعارات: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ووحدة العرب في قوتهم. والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية والمادية. ولكننا وبعد تجارب ومحن مريرة مع هذه المشروعات لم ننجز قوتنا القادرة على حمايتنا من المخاطر الخارجية والتحديات الداخلية. ولم نحقق انتصارنا على عدونا الحضاري التي توقفت كل المشروعات والسياسات من أجل التركيز على محاربته ودحره. ولكننا على الصعد كافة لم نحصد إلا الهزائم والانكسارات والإخفاقات.
فالمليارات التي صرفت على مؤسساتنا العسكرية والدفاعية لم تمنع العدو من الوصول إلى عواصمنا ومناطقنا الحيوية. والمركزية في الإدارة وصنع القرار، التي طبلنا لها كثيراً لم نحصد من ورائها إلا التأخر عن ركب الحضارة والعالم المعاصر.
ولقد أبانت لنا التجارب الماضية والمعاصرة، أن قوة الدول العسكرية ليست هي القوة الحقيقية القادرة على إنجاز تطلعات الشعب أو الدفاع عن أمنه وحدوده. بل على العكس من ذلك حيث أن الدول التي استندت في بناء قوتها على هذه الرؤية لم تصمد أمام الأزمات والتحديات.
فالاتحاد السوفيتي بكل ما يمتلك من ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية عملاقة، لم يستطع الصمود أمام تطلعات شعوبه المشروعة. فتلاشى في فترة زمنية وجيزة.
والعراق هذا البلد الذي يمتلك أقوى الجيوش وأقسى الأجهزة الأمنية والقمعية وصلت الولايات المتحدة الأميركية إلى عاصمته في غضون (20) يوماً فقط و(130) قتيلاً..
فالدول التقدمية والأيدولوجية، والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيدولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن.
ودول المشروع التقدمي لم تزدنا إلا ضعفاً وتشاؤماً، وذلك لأن الإنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، يقهر ويهان ويسجن ويعذب لأتفه الأسباب. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، لا تتعدى في بعض الأحيان شخص الأمين العام.
ولا نعدو الصواب حين القول: بأن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلعات. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نقول عن هذه الدول بأنها دول قوية. وذلك لأنها لم تستطع أن تنجز مشروعاتها وأهدافها بل على العكس من ذلك، حيث أنها أنتجت النقيض. فأنتجت الاستبداد والقمع وتكميم الأفواه بدل الحرية، وتحولت إلى مزرعة خاصة لفئة محدودة بدل العدالة والاشتراكية، وعمقت في الفضاء الاجتماعي والسياسي كل مستلزمات التفتت والتجزئة والتشظي بدل الوحدة والاتحاد.
وهكذا نصل إلى حقيقة شاخصة، تبرزها خبرة الإنسانية جمعاء عبر العصور، أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظاماً قهرياً، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها.
2 - إن قوة الدول تقاس بمستوى ديمقراطيتها وانسجامها على صعيد الخيارات والسياسات مع شعبها ومجتمعها.
والثروات الطبيعية والإمكانات العسكرية، لا تتحول إلى عنصر قوة، حينما يكون هناك جفاء بين الدولة والمجتمع. ونحن نرى أن هذا هو المعيار الحقيقي لقوة الدول وضعفها.
فالدولة التي تعيش التوتر مع شعبها، ولا تنسجم خياراتها مع خياراته، فهي دولة ضعيفة في المحصلة النهائية حتى ولو امتلكت كل الثروات والإمكانات العسكرية. أما الدولة التي تشرك شعبها في القرار وصناعة المصير، والديمقراطية في بنيتها وممارساتها، فهي دولة قوية وقادرة على مجابهة المخاطر حتى ولو كانت فقيرة في مواردها وثرواتها وإمكاناتها العسكرية.
فقوة العرب والمسلمين اليوم، في حريتهم ومستوى انسجام الدولة مع خيارات وتطلعات شعبها.
والديمقراطية هي حجر الأساس في قوة الدول وضعفها. لذلك فإننا نرى أن كل مبادرة، تأخذها الدولة، وتستهدف توسيع مستوى المشاركة الشعبية في صناعة القرار وتسيير الأمور، هي مبادرة وخطوة تساهم في تعزيز قوة الدولة، أو بناء هذه القوة على أسس جديدة أكثر قدرة وفعالية.
وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع كل الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية في المجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج الاستئصالي، هو الذي يفاقم الأزمات ويعقدها ويحول دون بلورة نهج سياسي معتدل، ويدخل الدول والمجتمع في دوامة العنف والتطرف.
إننا مع الدول القوية التي تستند على القانون وتحترم حقوق الإنسان، وتدافع عن كرامة شعبها. حيث أن الدولة القوية المسيجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي - مدني، يمارس وظائفه الحضارية اعتماداً على إمكاناته وآفاقه.
وإن التحول نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في البناء الوطني السياسي والثقافي والحضاري، وهذا الوعي بحاجة لكي يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة.
وأن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع.
وإننا وفي ظل هذه التطورات المتسارعة والتحديات المتلاحقة، أحوج ما نكون إلى ممارسة القطيعة المعرفية والعملية مع تلك الرؤية التي تتعامل مع مفهوم القوة بعيداً عن خيارات المجتمع وتطلعاته المشروعة. وبناء مفهوم القوة ليس على أساس امتلاك أحدث الأسلحة. أو ضخامة الترسانة العسكرية، وإنما على أسس التوافق والانسجام بين الدولة والمجتمع.
هذا الانسجام الدينامي والفعال هو أساس قوة الدولة. ولا يمكن لنا وفي ظل هذه الظروف إلا الانخراط في مشروع تصحيح العلاقة وبناء القوة على أساس الانسجام بين الدولة والمجتمع. ولا ريب أن تحقيق الانسجام، يتطلب من الدولة القيام بخطوات ومبادرات، تستهدف توسيع المشاركة الشعبية وإزالة الاحتقانات وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة.
فالقوة الحقيقية اليوم، تتكثف في مستوى التناغم بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف تعبيراته وشرائحه. والفرصة اليوم مؤاتية للقيام بصنع فرص ومبادرات في هذا السياق.
والوظيفة الكبرى للجميع تتجسد في تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحول الديمقراطي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها الأساس في تنظيم الخلافات وضبطها، وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني، وتعميق موجبات العدل والمساواة والمسؤولية.
والاستقرار السياسي اليوم، لا ينجز في الكثير من الدول والبلدان العربية والإسلامية، إلا بتوافق حضاري بين الدولة والمجتمع. والإخفاق هو نصيب أي مشروع يقصي المجتمع ويهمش دوره في الحياة. كما أن النجاح تتبلور أسبابه وتتجمع عناصر إرادته من خلال التوافق الحضاري بين الدولة والمجتمع. والتوافق هنا يعني المشاركة والتفاعل والمراقبة والشهود والتكامل.