المسألة التربوية الغربية: قراءة نقدية
اذا كان ثمة مدخل حقيقي لفهم النظام التربوي الغربي، وتأثيراته المجتمعية فهو موقفه من الإنسان وعلائقه المختلفة. اذ مرّ الفكر الغربي بفترات وحقب، وكل فترة وحقبة طبعت واقعها بأولوياتها وإستراتيجياتها المجتمعية، الا أن الخيط الدقيق، الذى يربط كل حقب التاريخ الغربي، هو المنظومة الفكرية العليا وموقع الإنسان في مفاهيمها وهياكلها العامة، اذ تحكمت هذه المسألة في سياساته ومواقفه التاريخية، ونظرياته المعرفية وتحليلاته وأنماطه الإقتصادية.
ولا حاجة هنا إلى إستدعاء الجهد الأبستمولوجي، الذي بذله بعض مفكري الغرب كـ «باشلار كانغليم كارل بوبر» من أجل إعادة تأسيس الهيكلة المعرفية للبحث العلمي المعاصر التى أصيبت ببعض الخلل أخذت ابعاداً معرفية وتربوية متعددة، ومن حق الأبستمولوجي هنا أن يتساءل عن مدى العلاقة بين نظام معرفي خلفي، يقود عقل الباحث والمفكر وبين النظام التربوي السائد في ذلك المحيط الإجتماعي، ولعلنا لا نذهب بعيداً، حينما نقول أن هذه التساؤل وخلفيته المعرفية، هو الذى دفع الرئيس الإمريكي «كنيدي» في الستينات من هذا القرن، إلى المطالبة بتغيير النظام التربوي والتعليمي، حينما سبقت بأرتياد الفضاء من قبل الإتحاد السوفيتي.
وذلك لأن النظام التربوي «بالمعنى العام»، هو المرجعية الاولى لمختلف الأبنية العقلانية، وهو النسيج الذي يتلبس المجتمع من خارجه، ويختصر غناه اللامحدود في هيكلة من المتواليات المنطقية والأطر المتداخلة مع بعضها البعض، ومشكلة جميعا كيانا إجتماعيا واحدا وذا صبغة ابستمولوجية متداخلة.
وهذه المنظومة المعرفية، هي التى تتيح لأبناء المجتمع في حركاتهم وسكناتهم الإنضباط وفق قانونها الذاتي، بحيث يكون الفعل الإجتماعي إضافة نوعية وكمية دائمة إلى تلك المنظومة.
وعبر هذا الإنتظام، تتأسس شبكة البديهيات والضرورات في العملية الإجتماعية بأسرها. وهنا تبدو موقعية النظام التربوي في أي كيان مجتمعي، في ترتيب أولوياته، ونسج علاقاته الداخلية والخارجية.
وتنبع أهمية قراءة النظام التربوي الغربي، وبيان تأثيراته على الإنسان وعلائقة المتعددة. من القدرات الهائلة التى تملكها الرأسمالية الجديدة والتى تستطيع من خلالها، التأثير في التفكير البشري والزامه بهذا المنطق.
وليس معنى ذلك أن الرأسمالية الجديدة، تفرض حجراً على هذا الفكر بل أن القوة في هذا المجال، هو أتجاهها نحو قلب الموازين، حيث أن أثرها البعيد المدى نجح في إيجاد بنى إجتماعية تعتبر جهلها وعدم فهمها لما يجري مكسباً لها، على حد تعبير ”جاك ديكورنوا“ في «تبعية نظام الأعلام لانظمة الشمال».
وتثار المسألة التربوية في الفضاء المعرفي الغربي، ضمن تلك الصلة الشديدة التى تربط الحقول المدنية المختلفة، بمرجعية السلطة «بالمعنى العام» كأطار مرجعي على صعيد الفعل الإنساني كما أسس لذلك «نيتشه» ومن بعده «ميشيل فوكو».
«ولهذا نجد أن الأندفاعات الغربية المتتالية، ولدت في رحم النزوع القوي إلى السيطرة على الآخر «وجود ثروات موقع تاريخ» وإستتباعه ضمن مركزية كوكبية، أخضعت مفاصل التفكير لتتابع هذا النزوع، ضمن عالم فريد صنعته هي، يتوقف فيه الإنسان كذات عن التأثير أمام طوفان المواضيع والمشاريع، الذي يندفع إلى حدود طغيان قوة الواقع على المدد المعرفي الإنساني ليبرز أغرب صراع يواجهه الإنسان في تجربته، صراع نوعي جديد تولد فيه المعرفة الجديدة، مع كل مخاوف الواقع البشري الذي تعصف فيه أزمات كيانية لا حدود لأخطارها، كما أنه لا حدود للمخاوف التى يمكن أن تجعل سطح هذا الكوكب مسرحاً لانهيارات كبرى» [1] .
وبعبارة أخرى نرى أن المسوغ الأساسي لقراءة النظام التربوي الغربي وأكتشاف مدى تأثيره الحيوي على مجمل المرافق والحقول، هو من أجل تلافي نزعة التدمير، التى تشغل حيزاً رئيسيا في الإستراتيجيات الغربية الدفاعية والإستراتيجية، ولعل العمل على تلافي التدمير كان أحد الدوافع الأساسية للكثير من المشاريع الفكرية «المنهجية» والسياسية التى أنبثقت في الغرب عبر تاريخه المديد.
تحاول النظرة الرأسمالية الحديثة إلى الإنسان في سياق التطويع والصياغة بعيداً عن تفسير فعله وموقعيته وإعتباره مؤثراً في الإجتماع الإنساني فنظرية الحتمية البيولوجية، تحاول إقامة نظام كلي لتفسير الوجود البشري.
وأساس هذا النظام المبدآن القائلان، أن الظواهر البشرية الإجتماعية هي النتائج المباشرة لخصائص جسدية فطرية. فالحتمية البيولوجية هي اذن تفسير تبسيطي للحياة البشرية تنفذ فيه سهام السببية من الجينات إلى أفراد البشر ومن أفراد البشر إلى البشرية [2] .
”فالمشكلات الإجتماعية تحال إلى مجرد مشكلات طبية، أي إنها مشكلات لا يمكن علاجها عن طريق التغيير الإجتماعي، وإنما بما يسمى العلاج الطبي الذي يعيد تكييف الأفراد مع المجتمع، فمشكلة حوادث الشغب في الأحياء الفقيرة بمدن الغرب، ومشكلة المنشقين في الأتحاد السوفيتي السابق تعالجان بإستخدام العقاقير النفسية وربما بجراحة المخ، أو حتى بوسائل الهندسة الوراثية التى تغير جينات الفرد“. [3]
ويحاول «بريجنسكي» في كتابه «بين عصرين أمريكا والعصر التكنوتروني» الصادر عام 1970م بلورة الهدف الإستراتيجي القادم للوصول إلى مرحلة يتم فيها تأثير التكنولوجيا والألكترونيات في جميع مناحي الحياة، وذلك ضمن مرحلتين كما يقرر «زبغينو بريجنسكي»، صناعية وما بعد صناعية حيث تكون المرحلة الاولى: الاسراع بتقنيات الآنتاج وتحسينها، وليست المرتبات الإجتماعية سوى النتاج الثانوي المتأخر لهذا الهدف الأعم.
أما المرحلة الثانية: فإن المعرفة العلمية والتقنية، تطغى بسرعة لتؤثر في معظم أوجه الحياة مباشرة، بالاضافة إلى أنها تقوي إمكانيات الانتاج في مجتمع يتشكل ثقافياً ونفسياً وإجتماعياً وإقتصادياً بتأثير التكنولوجيا والالكترونيات.
وهذه المسألة لا تقف عند حد معين بل تستمر بالاستفحال والتضخم، حتى تصل إلى مستوى يبدو فيه الإنسان مصنوعاً اكثر من كونه أصيلاً، حتى مشاعرنا تدرك واقعاً جديدا كلياً من صنعنا، ومع ذلك فهو حقيقي تماما بمقاييس مشاعرنا على حد تعبير كتاب «بين عصرين».
وبالتالي فأن النظام التربوي الغربي، يرفض أن يتقبل البشر «كما يقول ستيفن روز» سوى على أنهم ليسوا الا حركة جزئياتهم فلقد أتخدت الآلة الوحش نموذجاً للكائن الحي. فالحياة تختفي حالماً توجد، كما يبحث عنها من خلال المخلوقات التى يشرحها.
لقد جعلت الثنائية من الإنسان روحا مطعمة في ميكانيكا جثة متسافدة بشبح، ولعل المفكر الغربي «هوبز» حاول في بعض كتابه، كما يقرر «صفدي» من عكس هذه الظاهرة عبر مقارنته الصريحة بين الإنسان والآلة وشبه أجزاء المجتمع البشري بأجزاء الآلة.
ومن الطبيعي أن الخلل الضارب بجذوره في البنية التربوية الغربية، التى تسعى جاهدة نحو تشيؤ كل شيء من الإنسان وأنتهاء بكل الموروث الثقافي والحضاري الإنساني، وأضحت الوظائف البشرية «في المنظور الغربي» في تماثل مع الحيونات الآخرى ويحلل «غارودي» هذه المسألة في كتابه [4] بقوله: ينحصر المأزق الثقافي، في ذلك السيلان الذي يفرض نفسه كواقع موضوعي، حيث عدم العودة إلى الصدور من سبب وإنما من مشروع إلى مشروع، ليس من كيف إلى كيف وإنما من لماذا إلى لماذا.
واذا كان التحكم بالأشياء من أجل الكينونة، فقد توقف العقل الغربي عند وظيفة التحكم وتنتقل هذه النزعة من حقل إلى آخر من صعيد إلى آخر. أي أن الحلقة تفضي إلى أختها، لذلك فأن مسلسل الانتقال والتحويل متصل ودائم ولقد تعالت صرخات بعض المفكرين الغربيين، الذين فهموا وادركوا أبعاد الإنحدار الإنساني الذي يسعى الغرب إلى جر العالم اليه.
ولعل هذا الإنحدار السحيق نحو الهاوية، هو الذي أدخل الغرب في نفق العدمية والعبثية ويشير إلى هذه المسألة «نيتشة» بقولة: ماذا فعلنا حين فصلنا الأرض عن شمسها؟ إلى أين نسير؟ إلى أين نذهب بعيداً عن الشمس؟ الا نواصل السقوط والإنهيار إلى الوراء؟ وعلى الجانبين؟ إلى الامام؟ هل لا يزال يوجد فوق وتحت؟ الانتيه في عدم لامتناه؟ الا يشتد البرد أكثر؟ الا يخيم الليل؟ وأكثر وأكثر ظلاماً؟ الانحتاج لمصابيح في عز النهار؟
وهذه النزعة الفردية بشكل مطلق هي التى تحكمت في مسارات الحضارة الحديثة في كل مراحل تطورها والانكى من ذلك أن هذه النزعة المطلقة، سيطرت على نمط التفكير والعقل الغربي برمته، بحيث أنك لا تجد منجزا عقليا أو إجتماعياً الا وتكشف في بنيته تجليات هذه النزعة.
ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن العقل الغربي، هوالذي صنع أكبر وأخطر نموذج عن فكرة الواحد وسلطانه المطلق ”وهو الذي نقل هذا الواحد من الغيبي الغائب إلى الحاضر كلي الحضور، وهو الذي أتاح للواحد أن يعيد حرث مجتمعه والعالم معه لحساب مراكز القوى التى تفرزها قوى الصراع في مجتمعه: فالأنظمة المعرفية كانت تورط العقل بإستمرار في إعداد جاهزيات القوى وإضفاء خطابات مختلفة من الشرعية عليها.
ولم ينبثق سؤال الشرعية بأستقلال عن جاهزيات ترميزاتها ملء المساحات الذاتية والمجتمعية. الاعندما أمكن فصل أجهزة المشروعية عن إسناداتها في الشرعيات المختلفة والغائبة وراء دلالات تداولها اليومي“ [5] .
وحين التأمل في أغلب النظريات المعرفية الغربية نكتشف هذا الجذر والنمط في البنية الأساسية للانظمة المعرفية المذكورة. فالاعتراف بالواحد ومطلقيته تتداعى إلى أن تصل إلى مركزية ذاتية مستعلية، تلغى الآخر وتستبعده من الخريطة التاريخية والمعرفية.
وبهذا يكون الواقع وكأنه لا توجد معرفة الا معرفة الواحد المتمركز ذاتياً في الفضاء الغربي، ولا ترقى أحداث الآخر إلى مستوى التاريخ والتاريخانية.
والسياسة الغربية والنمط الإقتصادي المدولن، هو الجانب العملي واليومي من ممارسة الواحد وتجليات نزعته المطلقة والحاذفة لكل ما عداها. ولهذا دائما نجد أن سياسات السيطرة والإستعباد متوجهة إلى الخارج مطلقاً، وقد ترجمت حركة الإستعمار القديم والحديث أرادة الواحد المتغطرس، الذي سعى بكل أدوات ترسانته المعرفية والحسية إلى سرقة ثروات الآخر وإستيعابها في فضائه الواحدي، وتدمير كل مقومات البنية التحتية للاخر، التى تؤهله للعيش الحر والكريم. ضمن الواحد من الآخر كل إمكاناته وثرواته، وترك الاخر زمانه وكوارثه وعجزه عن بناء واقعه السياسي والإقتصادي والثقافي بشكل حر ومستقل.
فكانت السياسة الغربية دائما سياسة قطع الطريق أمام الآخر، من البناء والتنمية والتقدم الحقيقي، فهي سياسة إجهاض لكل محاولة للخروج من آسار الواحد ونزعته المطلقة، وصارت هذه السياسة والإستراتيجية، هي الإيقاع الدائم لكل أزمانه المتغيرة.
وفي اللحظة الراهنة حيث شعار العولمة والكونية، هي «السياسة الغربية» محاولة جادة لملء أمكنة الآخرين وفق مقاس الواحد ومصالحه الإستراتيجية والبعيدة وأصبحت قصة الواحد مع ذاته هي قصة العالم، وتاريخه، تاريخ العالم وحاضره حاضر الجميع، وإقتصاده إقتصاد الكون، وعقله عقل العالم وجغرافيته مفتوحة على كل العالم وفكره فكر العالم، وأفكار الآخرين ونظرياتهم أضحت أساطير ماضوية وميثولوجية.
ويتضح جلياً في الفضاء المعرفي والسياسي الغربي، تباين الداخل والخارج حيث تسود في الداخل قيم الحرية وحقوق الإنسان والمأسسة، وفي الخارج قيم السيطرة والاستعمار ونهب الثروات، وكل هذا التباين يرجع بالدرجة الاولى، إلى عقلية الذات المتمركزة على ذاتها، بحيث لا ترى الا مصالحها وفضاءها الجغرافي والاستراتيجي.
وبهذا تكون هناك علاقة تعارضية بين الوعي والعالم وإعطاء أولوية منطقية ووجودية لطرف الواحدية دون الاخرين وعوالمهم التاريخية والثقافية والحضارية فهو نظام معرفي يؤكد نفسه بنفي ماعداه، وهو نسق ثقافي مسكون دائما بأيدولوجيا الهيمنة والالغاء والنفي للخارج، والتمركز حول الذات، والإنحباس في مفاهيمها للداخل.. ويشير إلى هذه المسألة «مطاع صفدي» بقولة: أن نموذج الإنسان الابيض هو المستهدف اذن ففلسفاته الحضارية الكبرى كانت تدعم نموذجيته الفردانية بالمذهبيات التعليلية الشمولية، كانت نموذجيته الكبرى لا تنتج على صعيد المعرفة والعالم الا الانساق النمذجية الفرعية القادرة دائما على إعادة تأسيس صورة الاصل.
الاب الاعلى للقبيل الغربي مسلسلا من فردانيته المطلقة، فكانت نماذج المذاهب الفلسفية والعلمية تقدم له مرايا ملونه متكاثرة لوجهه الواحد الذي كان محتاجاً دائماً له كيما يرتدي القناع المناسب للمهرجان الذي يقيمه أو يحضره سواء في مختبر العالم، أو برج الفيلسوف، أو حزب المصلح والمشرع، أو ندوة الشاعر أو مسرح المبدع والفنان.
وإن من هذا المنطلق «نزعة التمركز» ينظر العالم الغربي إلى التنمية في العالم الثالث نظرة ميكانيكية، وبعيدة عن عملية الحراك المجتمعي، اذ تنقل المعرفة كخبرة، حتى لا يحدث التغيير والدينامية الا في خلايا محددة سلفاً ومعزولة عن بقية الجسم الإجتماعي.
وبذلك لا تمس واقع التخلف في أصوله الإجتماعية ومنطلقاته الفكرية وتجسيداته السياسية والنمطية. وحتى في اليابان المتجه منذ مدة إلى إنتاج أنظمة الإنتاج وبيعها إلى دول الشرق الأقصى التى تضعها هي مؤشر «كما يقرر بعض الخبراء» لمرحلة مابعد الصناعة أو التقنية التى سوف تصبح حكراً لعدد ضئيل من الدول المتقدمة، في حين تظل بقية دول العالم، تدور في حلقات المرحلة الصناعية الإستهلاكية.
لقد فتحت الثورة الصناعية أمام الإنسان في الغرب أبواب الرفاهية والمادية والقدرة على التحكم بالقوى الطبيعية وإختصار المسافات وإستغلال الموارد الطبيعية على وجه فعال، الا أنها أنتهت بإذلال الإنسان وتسخيره للآله، وزيادة التفاوت الإجتماعي وسيطرت الآله لم يقف عند حد معين إذ تنامت شبكة من العلاقات الإستهلاكية، تقدم سلعها في ترميزات الرفاهية والمصلحة الفردية والمتعة الجنسية التى تشكل مرسلات مباشرة أو غير مباشرة تحملها البضاعة إلى المستهلكين خالقة عندهم ذلك الشبق السري للاحتياز على ألأشياء المصنوعة والإندماج في دورة السوق الإنتاجية.
فالشيء لم يعد قاعدة إنطلاق لمعرفة نظرية، أنه الشكل الذي يثير في الإنسان الفصامي حاسة الإحتياز عليه، والشيء المصنوع، يقدمه للذات اسمه فإن مجرد أطلاق أسم على بضاعة أختارته الدعاية، يعطيه ثمة كينونه، اذ أن هذه التسمية إنما ترده من الدورة الدعاوية الإعلامية الشاملة، فما أن يتم الإعلان مثلا عن طراز جديد من السيارات، حتى تستنفر ذاكرة التشويق كل ما لديها من رموز المتعة المرتبطة بهذه الآلة السيدة، السيارة، تضفيها على الطراز الجديد الذي هو قديم في حقيقته، ولكن الإسم المطلق عليه يكسبه هالة آخاذة.
فينصب التعامل عليه بدلا من حامله ”[6] . وبهذه تسيطر النزعة الإستهلاكية بمتوالياتها المتعددة على الإنسان المعاصر، وكأنها المقابل الموضوعي لسيطرة الآلة والتكنولوجيا الحديثة ومن هنا غلبة التشاؤم والكآبة، وقناعة معظم المفكرين، بإن الإنسان لم يعد قادراً على التحكم بالمشاكل التى لابد أن يتمخض عنها في المستقبل، وإذا كانت فلسفة التقدم في القرن التاسع عشر، قد إستندت على الإيمان بطاقة الإنسان اللامتناهية، يمكننا القول أن فلسفة التشاؤم ترتكز على نظرة العجز اللا متناهي في مواجهة القوى والأحداث، فكأن الإنسان قد أطلق بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي عفريتا لم يعد بوسعه السيطرة عليه أو إعادته إلى القمقم“ [7] .
وقد انتقد «برتراندراسل» سيطرة الآلة على الإنسان، كأحد أبعاد أزمة الإنسان الغربي، من جراء إنفصال العلم والتكنولوجيا عن المنظومة القيمية والأخلاقية بقولة: أن النجاح الباهر للعلم، في تطبيقاته التكنولوجية قد جلبت خطراً من نوع آخر، اذ أصبح الكثيرون يعتقدون أنه لا يكاد يوجد شيء يعجز الإنسان عن تحقيقه، لو وجهت اليه جهوده ومورست بالطريقة المناسبة، والواقع أن الكشوف الكبرى في التكنولوجيا الحديثة، تعتمد على تضافر عقول وأيد كثيرة، ولابد أن يظهر لأولئك الذين يأخذون على عاتقهم البدء في مشاريع جديدة، أن قدراتهم لا حدود لها، غير أنهم يغفلون هنا حقيقة هامة، هي أن هذه المشاريع كلها تقتضي جهداً إنسانياً وينبغي أن تخدم أهدافا إنسانية، وفي هذه الناحية بالذات نجد عالمنا المعاصر يتجاوز كافة حدود الاعتداء [8] .
ويشير إلى هذه الحقيقة أيضاً «الكسي كاريل» في كتابه ”الإنسان ذلك المجهول“: يجب أن يكون الإنسان مقياسا لكل شيء ولكن الواقع هو عكس ذلك، فهو غريب في العالم الذي ابتدعه، أنه لم يستطع أن ينظم دنياه بنفسه، لانه لا يملك معرفة علمية بطبيعته، ومن ثم فإن التقدم الهائل الذي أحرزته، علوم الجماد على علوم الحياة، هو آحدى الكوارث التى عانت منها الإنسانية فالبيئة التى ولدتها حولنا وإختراعاتنا غير صالحة لا بالنسبة لقوامنا ولا بالنسبة لهيئتنا.. أننا قوم تعساء لاننا ننحط أخلاقياً وعقلياً، أن الجماعات والأمم التى بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف والتى ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها اليها، ولكنها لا تدرك ذلك اذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية الذي شيدها العلم حولها.
وقد أوضح «ميشيل البير» في كتابه ”الرأسمالية ضد الرأسمالية“ الصادر عام 1991م مجموعة من الأرقام والإحصائيات التى توضح مدى التدهور التربوي والإجتماعي الذي تعانيه الولايات المتحدة الأمريكية، ومما جاء في هذا الكتاب: في واشنطن لاحظت عمدة المدينة «شارون برات ديكسون» أن جرائم القتل البالغ عددها «483» جريمة والتى إرتكبت في عام 1990م، في المدينة تفوقت بذلك للسنة الثالثة على الأرقام القياسية التى سجلتها هي نفسها من قبل، وفي عام 1989م وحده تم حصر «21» الف جريمة قتل في كافة أنحاء البلاد.. «وكانت التوقعات الف جريمة في عام1990م» وهناك في السجون أكثر من مليون مواطن أمريكي، واكثر من ثلاثة ملايين خاضعين للرقابة القضائية.
وقد كشف تحقيق دقيق «كما يصفه ميشيل البير» إجري في ربيع 1988م أن «23» مليون أمريكي تعاطوا مخدراً خلال الأيام الثلاثين السابقة على التحقيق، ومن بينهم سته ملايين يشمون الكوكايين بشكل منتظم إلى حد ما، ونصف مليون يتعاطون الهيروين، أما طلبة المدارس الثانوية فإن واحداً من بين كل أثنين منهم يدخن الماريجوانا، وواحد من كل سبعة يشم الكوكايين.. وقدرت دراسة أعلن عنها في التاسع من يناير 1990م، أن التكلفة الإجتماعية الإقتصادية للاسراف في تعاطي المخدرات في الولايات المتحدة تبلغ «60» مليار دولار ”ستة أضعاف ما كانت عليه في عام 1984م“.
ويخلص «ميشيل البير» في بيانه إلى مدى التدهور العام الذي يصيب أمريكا بقوله: ويبدو أن البلبة تمس أمريكا ذاتها في مجملها، اذ ترى أن الحلم الأمريكي، الذي كان يدفعها إلى الأمام منذ عهد المهاجرين الآوائل، يتداعى كما أن البوتقه التى كانت تحقق إندماج المهاجرين القادمين من كافة أنحاء العالم لم تعد الا من الذكريات البعيدة.. فأمريكا الثمانينات من هذا القرن في طريقها إلى التحول إلى ما يسمى منذ سنوات ب «القبلية الجديدة» اذ أن مختلف الجماعات القومية، لا تندمج معاً، بل تنغلق على نفسها وتعتظم تدريجياً وتتمسك بأوجه أختلافها وتقاليدها الخاصة وثقافاتها.
وما زال التعليم الجامعي الأمريكي يحافظ على مستواه المتقدم والمتطور، ولكن مستوى التعليم في المرحلتين الإبتدائية والثانوية يتراجع بإستمرار وقد تبين في تحقيق حديث العهد لتحديد مستوى المعلومات العلمية عنذ التلاميذ من سن «10و13و17سنة» أن أمريكا تحتل المركز ألاخير بين الدول الصناعية وأن 45% من الأمريكيين البالغين لا يستطيعون تحديد موقع أمريكا الوسطى على الخريطة، وأن أغلبهم لا يعرف أين توجد بريطانيا أو فرنسا أو اليابان وأن 40% من الأمريكان الذين يلحقون بالجامعات في سن الثامنة عشرة يعترفون بأنهم لا يمكنهم أن يقرأوا بشكل سليم.. ولا يتردد المؤرخ «بول كنيدي» في أن يقول في كتابه ”سقوط الدول الكبرى“ الصادر عام 1988م أن الولايات المتحدة الأمريكية دخلت مرحلة الأنحدار التاريخي كما حدث لإمبراطورية الهايسبورج في القرن السابع عشر وانجلترا في نهاية القرن التاسع عشر.
وقول «بريجنسكي» في كتابه“ عالم خارج السيطرة ”: اسند القول أن ما يميز المجتمع الأمريكي الأن عن غيره من المجتمعات فساد أخلاقه: ويرجع السبب في ذلك إلى أمرين هامين: البعد عن التعاليم الدينية وغياب سلطة الرقابة على الأفلام والبرامج الأمريكية.
ولعل الجذر الأساسي للمشكل التربوي الذي يعاني منه الإنسان الغربي عموماً هو أن الفكر الغربي في جوهره لا يقر بغير المادة وحركتها، مما يجعل هذا الكائن المسمى إنساناً لا يعدو أن يكون لحظة متقدمة في حركة تطور المادة، انه ظاهرة وليس ماهية، ويشير إلى هذه المسألة «محسن الميلي» في كتابه ‘‘ العلمانية أو فلسفة موت الإنسان ”ويقول: أن الإنسان فيما يسمى بعلوم الإنسان في الغرب مجرد ذرة إجتماعية، وليس حقيقة متعالية متفردة بخصوصيات أخلاقية، فليس للإنسان طبيعة، وإنما له تاريخ.
ففي الإنسان لا توجد دوافع نفسية ثابتة، اللهم الا دافع الجنس والأكل، ليس في طبيعة الإنسان خاصية مشتركة بين الناس، لأنه ليس للإنسان طبيعة.
أنه إنسان اللاوعي عند «فرويد» وإنسان الجنون عند «فوكو» وإنسان البيئة عند البيئويين، وإنسان الجماعة لدى علماء الإجتماع. أنه علاقات إجتماعية تحددها وسائل الإنتاج.
أن العلوم الإنسانية لاتدرس الإنسان بالف ولام التعريف، وإنما تدرس جوانب من الإنسان في وقت معين، ولكن الإنسان من حيث هو وحدة متكاملة غائب من هذه العلوم. أنه غياب الإنسان في علوم الإنسان. فهل نتحدث عن علوم إنسانية أم علوم لا إنسانية وبالتالي فإن العالم الغربي يغيب الإنسان ككائن متكامل له عقل وغرائزه وميوله. وإنما يسعى جاهداً وعبر مختلف الوسائل إلى تشيئة الإنسان. فهو «عالم بدون إنسان» على حد تعبير غارودي.
فالتقدم الغربي إقتصر على نمو متزايد لنوع من العقلانية وحيد الجانب. مثلته دائما التقنية ونظام تقسيم العمل الإجتماعي بحسب المنظور الرأسمالي. فكان إنفصال العلم عن المعرفة بمعناها الأخلاقي والإنساني، كما حلم بها رواد عصر التنوير الغربي.
ولم يخضع تقدم الصناعة وتطوراتها الكبرى لمنطلق التقدم المعرفي بذلك المعنى الشمولي. بل أن سيطرة منطق السوق الرأسمالي، فرضت إتجاهاً معيناً على التطور الصناعي، بحيث ادى في النتيجة إلى عزل قانون الإنتاج عن مثل التنوير، التى قادت ثورة العقل الأساسية.
فأزدهرت حضارة أخرى مختلفة تماما عن الحلم التنويري، أنها الحضارة الإستهلاكية، التى كان من أبرز نتائجها أنها عزلت فعلا ثقافة الخبراء على السواد الأعظم من الناس، وعمقت الهوة بينهما، كما يثبت ذلك «هابرماز» في دراسته حول «الحداثة مشروع ناقص».
من هنا ليست الأخلاق وحضور قيمها الأساسية، مرحلة تاريخية محددة بل هي لحظة وعي وإيمان متجددة الحضور والفعالية، وتحتاج الجماعات البشرية في مسيرتها التصاعدية. ولعل إستفحال الأزمة التربوية التى تعاني منها الحضارة الحديثة هو الذي حولها على حد تعبير البعض إلى مدينة بلاستيكية في مجتمع إستهلاكي، يطحن الإنسان، ويجرده من كل طاقاته الخلاقة، مثلما يجرده من قيمة الروحية الأخلاقية.
كما ادت هذه الأزمة إلى بروز المنظور العنصري، حيث جر الوضع التربوي المأزوم «هيردر» إلى صياغة فكرة التمركز السلالي الأوروبي، التى ظهرت في صورة تحيز وتعصب عنصري حيث اعتقد «هيردر» بأن الأجناس البشرية غير متساوية في التأثير بمظاهر المدنية وفي تمثلها لمقومات الحضارة، كما ذهب «هيردر» إلى أن هناك أجناسا بشرية خلقت للرقي وأخرى قضي عليها بالتخلف والإنحطاط. وأن الأجناس المتخلفة في مضمار الحضارة يجب أن تظل كذلك لانها ليست اهلاً للرقي الحضاري.
وفي هذه الأيام منشغلة أمريكا بقصة القبض على «ثيودور كازينسكي» البالغ من العمر «53» عاما وتظن أنه الشخص الذي اطلقت عليه لقب «اليونابومبر» وكان هذا الشخص قد أجبر صحيفتي «نيويورك تايمز»، «الواشنطن بوست» على نشر بيان «مانيغستو» طويل «بلغ حوالي 35 الف كلمة» بعنوان ”المجتمع الصناعي ومستقبله“ شرح فيه اسباب تصميمه على ترويع أمريكا، مركزا على مقولات مخاطر التكنولوجيا الحديثة على الإنسانية، وهو رأي، كما ذكر في المانيغستو، أن النظام يجبر الناس على سلوك سبل تبعدهم عن الحياة الطبيعية.
وقد كتب «حليم بركات إستاذ المجتمع والثقافة في جامعة جوجتاون» حول هذه المسألة قائلاً: ولا تقتصر سلبيات أستعمال التكنولوجيا الحديثة على ترسيخ هيمنة القوى المتحكمة، أنها في تعقيداتها السائدة تفرض قيماً معينه على قيم آخرى مثل قيم التنافس على قيم التعاون، وقيم الإنجازات الروحية والفكرية، وقيم الإستهلاك على قيم الإنتاج، والقيم التى تعطي السلع والاشياء والمقتنيات أهمية مركزية في الحياة اليومية، فيما تهمش الإنسان نفسه وقيم الأنانية الفردية على القيم العائلية والمجتمعية، وقد بلغت الفردية رسوخاً في الثقافة الأمريكية جعل بعضهم يقول أن حقوق الفرد أهم من حقوق المجتمع.
هل يمكن أن نتأمل في مسألة علاقة الإنسان بالآلة، وندقق في من المنتصر ومن المنهزم، وماذا يمكن أن نفعل لاستعادة مركزية الإنسان؟ [9] .
وهكذا تؤكد هذه الصور وغيرها صيرورة تسرب الأزمة التربوية إلى سلوك وعلاقات ومؤسسات الشعوب الغربية، وبالتالي صيرورة تدمير للكثير من أنماط الحياة الحديثة. لأنها تبقى خليطاً عجيباً من أفكار ومؤسسات ومناحي سلوك، ويبقى أفراده موزعي العواطف والإنتماءات وبهذا تظل أهمية المشروع التربوي في مسيرة المجتمعات والدول والحضارات، اذ به تنظم الارادات الفردية، وتتوفر العزيمة في البناء والتطوير. ودوام الازمة التربوية، يعني ليس ثمة ما يحول بين الازمة وإستشرائها في كل ثنايا الحياة الغربية، وليس ثمة تالياً مايقف أمام الإنهيار الشامل.
ولقد تنبه إلى هذه المسألة بعض المفكرين والسياسيين الغربيين، الذين أدركوا ضرورة التطوير في النظام التربوي الغربي وإيقاف جذور التدهور الاخلاقي والقيمي والإنساني.
فلقد كتب البروفسور «رينيه دوبر» الأمريكي الجنسية الفرنسي الأصل كتاب سماه «إنسانية الأنسان» جاء فيه: أن كل المفكرين قلقون على مستقبل الابناء الذين سيقضون حياتهم في بيئات إجتماعية ومحيطية سخيفة عابثة باطلة، نخلقها نحن له بدون تفكير، وأكثر ما يزعج هو علمنا بأن الخصائص العضوية والفكرية للإنسان تخططها اليوم البيئات الملوثة والشوارع المتراصة والأبنية الشاهقة، والخليط الحضري المتمرد، والعادات الإجتماعية التىتهتم بالاشياء وتهمل البشر.
وكتب «جون فوسترد الاس» وزير خارجية أمريكا في عهد الرئيس «ايزنهاور» وصاحب كتاب «حرب أم سلام»، يقول «دالاس» في فصل من كتابه، تحت عنوان حاجتنا الروحية: أن هناك شيئاً مايسير بشكل خاطىء في أمتنا، ولالما اصبحنا في هذا الحرج، وفي هذه الحالة النفسية. لايجدر بنا أن نأخذ موقفاً دفاعياً، وأن يتملكنا الذعر. أن ذلك أمر جديد في تاريخنا. أن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الاشياء المادية، أن ماينقصنا هو إيمان صحيح قوي فبدونه يكون كل مالدينا قليلاً وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم أو الديبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت إختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها.
بطبيعة الحال من الصعوبة بمكان تصور أن نظام القيم التربوية السائدة في الغرب يمكن أن تتعرض في هذه الآونة إلى تحول درامي وأساسي، على الرغم مما نشاهده ونسمعه من إحتياجات سياسية ولاهوتية وإجتماعية، على المناهج المتبعة وآثارها السيئة في التكوين النفسي والإجتماعي. ومن المؤكد في هذا الأطار، أن الدول الغربية ستقوم بمواءمات محدودة تحفظ للكيان الحضاري الغربي طول العمر وسرعة الإستجابة.