آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

سؤال الحرية في الفكر الاسلامي المعاصر

محمد المحفوظ *

تعتبر النزعة إلى الحرية والانعتاق من القيود والأغلال لدى الإنسان، من النزعات الأصيلة والعميقة في وجوده الطويل. إذ لاتخلو مرحلة من مراحل حياته من البوح والتعبير المباشر وغير المباشر عنها، سواء لتحقيق هذه النزعة في الواقع الخارجي، أو للدفاع عنها من مخاطر داخلية أو خارجية تهدد هذه النزعة في وجودها وآفاقها.

وتعتبر حياة الإنسان السوي كلها، بحثاً‏ مستمراً عن معنى الحرية المتأصل في وجوده وكيانه، والمتجذر في مختلف مستويات تجربته الإنسانية. والحرية كتوق إلى الكرامة، والانعتاق من كل الأغلال، والتحرر من الكوابح والقيود إرادة طبيعية ومتأصلة لدى الإنسان. وتقر بهذه الحقيقة الأديان السماوية والمذاهب الإنسانية على السواء. وهي من ضرورات الوجود الإنساني، إذ كل المعطيات الوجدانية والدينية والحضارية تدفع إلى الاعتقاد الجازم، بأن الحرية كحاجة إنسانية هي من ضرورات حياته ووجوده، ولاتتحق إنسانيته بالكامل إلا بها. لذلك نرى أن الثقافة الإنسانية السوية، هي في جوهرها صوت الوعي بالحرية، ‏ووسيلة اكتشاف المفارقات العميقة في أي كيان اجتماعي، من جراء غياب أو تغييب الحرية في مستوياتها المتعددة.

لذلك نستطيع القول، أنه كلما تعمق الوعي السليم بمعاني الحرية الإنسانية، كلما تقدمنا إلى الأمام في هذا المسار الصعب والتاريخي. لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يدعو الإنسان المسلم إلى رفض القوى التي تحول دون رؤية الحق والحقيقة. قال تعالى ﴿وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لايعقلون شيئاً ولا يهتدون [1] . وقال تعالى ﴿وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لايعلمون شيئاً ولايهتدون [2] .

فالإنسان المسلم مطالب قرآنياً بالتحرر من كل أنواع التسلط، حتى يتسنى له اكتشاف الحقيقة، وتحديد المواقف، وتشكيل القناعات استناداً‏ على الفكر الحر.

معنى الحرية

الحرية لا تنجز على الصعيد المجتمعي، من خلال تعريفها وضبط مصطلحها ومعناها القاموسي فحسب، بل إنجازها مرهون بتوفر وخلق جملة من الممارسات والجهود المتواصلة، ‏التي تدفع إلى صنع حقائق جديدة، تؤهلها إلى الانخراط الفعلي في العالم، على قاعدة متينة من الإيمان النظري والممارسة العملية بقيمة الحرية. فالحرية ليست مجرد وصف محدد أو معنى سياسي متفق عليه، بل هي الإرادة والعزم وتحمل الصعاب وتقديم التضحيات لتعميق شروط ممارسة الحرية في الواقع المجتمعي.

والحريات الإنسانية دائماً لا توهب، وإنما ينجزها الإنسان بإرادته وكفاحه وسعيه الحثيث في سبيل حريته وكرامته. ويخطئ من يعتقد أن الحريات توهب، ذلك بفعل أن الحريات بحاجة إلى وعي وبناء للذات وفق قيمها ومبادئها. وهذه القضايا دائماً لاتوهب، إنما تنبثق انبثاقا من ذات الإنسان ويتربى على هدى قيمها ومبادئها.

والحرية في الفضاء العربي والإسلامي اليوم، لكي تستعيد دورها وتمارس تأثيرها، هي بحاجة إلى إعادة الحياة وتجديد الحيوية لمنظومة فكرية إسلامية تتفاعل مع الحرية وتثري مضمونها. فلا حرية حقيقية بدون عدالة على مختلف المستويات والصعد، كما أن التسامح وحقوق الإنسان والمساواة وتكافؤ الفرص، كلها قيم ملازمة لمفهوم الحرية في المنظور الإسلامي.

فالحرية تستعيد عافيتها في المجال العربي والإسلامي، حينما تكون جزءاً من منظومة فكرية متكاملة، تأخذ على عاتقها تجديد الرؤية إلى الإسلام، ذلك المخزون الحضاري الكبير، وتجدد إمكانات الأمة وتعبئ طاقاتها وقدراتها في سبيل اجتراح نهضتها وإنتاج حلول أصيلة لمشاكلها وأزماتها. وبالتالي تخلق هذه المنظومة شروطاً‏ووقائع، تسمح للفرد والجماعة بممارسة اختياراتهم وقناعاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية.

والحرية لاتعني الانفلات من الضوابط الأخلاقية والإنسانية، وإنما تعني امتلاك القدرة على التعرف والاختيار وفقاً ‏لقواعد عقلية أو ضوابط شرعية. فهي تتجه إلى الكمال وليس إلى التخريب، وإلى الانسجام ونواميس الكون والمجتمع وليس للخروج عنهما. «فحرية الإنسان كما يراها الإسلام، هي في وعيه بالفطرة التي فطر عليها، وفي تشغيل قواه الفطرية في معرفة الحقيقة في آيات الله تعالى طلباً لمعرفة الله والإسلام له وحده تعالى، ومن المنظور تحرره من تعظيم ما يعظمه البشر بمعرفته كما هو في حقيقته، وتوجهه إلى الله بالمعرفة وبالتعبد له تعالى» [3] .

والتاريخ الإنساني في مسيرته الطويلة، هو عبارة في أحد وجوهه، تاريخ الكفاح الإنساني للإنعتاق من كل الموانع والعقبات التي تحول دون الحرية والكرامة. فالحرية ليست ضد الأخلاق، وإنما هي صنوها وهي أس الأخلاق الاجتماعية، وهي مع القوانين والضوابط المنسجمة وفطرة الإنسان ووجدانه، وهي شرط تحقيق المجتمع التاريخي ومحرك الفعل الحضاري، وهي أساس استقلال المجتمع كونه سيداً‏على نفسه ومصائره المتعددة.

وحتى التعرف على الدين والدعوة إليه، ‏تعتمد على حرية الاختيار المتجسدة في السبيل الموصل إلى الدين القائم على نفي الإكراه وعلى الاقتناع والدفع بالتي هي أحسن بعيداً‏عن التشنج والقهر والقسر وكل أشكال الإكراه. قال تعالى ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لاانفصام لها والله سميع عليم [4] .

والإيمان بالله سبحانه وتعالى يتأسس على قاعدة حرية الاختيار ومسؤولية الإنسان عن فعله وكسبه، بحيث تكون ممارساته قائمة على إختياراته. قال تعالى ﴿ألم نجعل له عينين، ولساناً وشفتين، وهديناه النجدين [5] . وهذا السلوك والمنحى الذي لايناقض العدالة في الدنيا والآخرة، ولايفارق الحرية في مستوياتها المتعددة في المجتمع، هو الذي يجعل الإنسان فاعلاً، مختاراً، حراً، مسئولا عن اختياراته وأفعاله.

فالحرية تتحرك في مواقع المسؤولية العامة والخاصة، وبالتالي فإن الحرية لاتنسجم مع استخدام القوة في مواقع الحجة والبرهان، ولاتتناغم مع حالات الاستقالة من المسؤولية وشيوع اللامبالاة، وإنما هي تضغط عليه لممارسة مسؤولياته تجاه راهنه ومصيره، تجاه واقعه الخاص وواقعه العام. فالحرية جزء من قانون التكريم الرباني للإنسان، و«الإنسان الذي يحمل بين جانبيه الشعور بتكريم الله له، يشعر بوزن هذا التكريم في تقديره لنفسه وفي تقديره للآخرين، لأن الدوافع والنزعات السلبية المنافية للشعور الديمقراطي تبددت في نفسه» [6] .

والحرية في الاختيار لاتعني بأي حال من الأحوال، عدم تحمل المسؤولية، والهروب من آثار اختياراته وقناعاته. قال تعالى ﴿ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوماً‏ محسورا* إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً* ولاتقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأً كبيرا [7] . فالإنسان ينبغي أن ينطلق في تحديد اختياراته من موقع التفكير والتأمل العميق، وذلك لأنه المسئول الوحيد عن إختياراته. فإذا كانت سيئة أدت به إلى المزيد من الخضوع للأهواء والشهوات، وهذا هو طريق جهنم. وإذا كانت حسنة كان فيها نجاته في الدارين. فالحرية لاتعني إطلاق أهواء الإنسان وغرائزه، وجعلها بدون ضوابط أخلاقية وقانونية. فإن الغرائز المنفلتة من كل الضوابط لاتسمى حرية، وإنما تحللاً وافتئاتا على القانون والمنظومة الأخلاقية الإنسانية. فالحرية ليست تحقيق اللذة، وإنما تحقيق الحقوق والواجبات في كل الدوائر والمجالات والمساحات.

وبداية الحرية في المنظور الإسلامي، هي نفس الإنسان، فينبغي لها أن تتحرر من كل القيود والأغلال والأهواء والنوازع التي تحول دون حريته وانعتاقه الحقيقي. فالحرية قبل أن تكون سلوكاً‏ سياسياً ‏واجتماعياً وثقافياً، هي قدرة نفسية تتخلص من كل الأغلال والقيود، ومن النزعات المخالفة لقيمة الحرية. ولاشك أن التكوين النفسي السليم، هو من الشروط الأساسية لممارسة الحرية في مجالات السياسة والثقافة والفكر والاجتماع.

وإن أشكال الحرية وأنساقها الخارجية، لاتمارس دورها الحقيقي إلا بقبول نفسي دائم بمقتضيات الحرية السياسية والفكرية والاجتماعية. والنزعة المادية التي رافقت نشوء الحريات في المحيط الأوروبي والغربي عموماً، لاتعني بأي شكل من الأشكال الانزواء عن قيمة الحرية أو التعاطي معها وفق نموذجها الأوروبي فقط. وإنما نحن بحاجة إلى دراسة عميقة لمسار الحريات في الفضاء المعرفي الغربي، واستيعاب عناصر تكوين هذه القيمة.

وبموازاة هذه الدراسة نحن بحاجة أيضاً‏ إلى استنطاق النصوص الإسلامية الخالدة، وإزالة سوء الفهم والالتباس الذي حصل من جراء تجارب تاريخية انتسبت زوراً‏ وبهتاناً للإسلام، وإبراز قيمة الحرية في التجربة الإسلامية، وموقعها في خريطة الأحكام الإسلامية.

فالحرية ليست مرتبطة فقط بالنظريات التي تفصل بين الأرض والسماء، وإنما لها موقعها المميز في منظومة الإسلام القائمة على الالتحام بين الأرض والسماء. ف «وفق التصور الإسلامي فإن حرية الإنسان هي ثمرة عبودية وحيدة يرتبط بموجبها الإنسان بالله المصدر الأول للكون والحياة. ولما كان الإنسان موضوعاً‏ خصباً‏ لأشكال لاتنتهي من «العبوديات» المختلفة، تعرض ومازال يتعرض لها منذ أقدم العصور البشرية حتى عصرنا وسوف يستمر هذا التعرض مادامت الحياة قائمة، ولما كانت مقاومة الإنسان لكل شكل من أشكال العبودية «في دوائرها الكونية الطبيعية أو الاجتماعية» سوف تفضي إلى عبودية جديدة، فقد ربط الإسلام «والإسلام بهذا اللحاظ يشمل سائر ديانات التوحيد» سعي الإنسان لامتلاك الحرية بعقيدة التوحيد وبالدعوة إلى عبادة الله والعبودية له بما يعني نفي كل أشكال العبوديات الأخرى. من هنا تصبح عبادة الله هي الوجه الآخر لحرية الإنسان، بل هي الحرية نفسها ولاشيء سواها، ‏لأنها تحرر الإنسان من كل عبودية نسبية، ‏ولاتضع في طريق حرية الإنسان حدوداً، بل تجعل من المطلق  الله  هدفاً لحرية الإنسان. وفق هذا التصور لمفهوم الحرية، وهو تصور يدخل في نسيج العقيدة الإسلامية نفسها، ليس بوسع الإسلام أن يقدم تصوره للمجتمع والمجتمع السياسي بما يتنافى مع عقيدته نفسها، إذ لابد للمجتمع الإسلامي أن يجسد في آن واحد: عبودية الله وحرية الإنسان» [8] .

فالحرية في التصور الإسلامي ليست بعيدة عن مرجعية التوحيد، وإنما هي منبثقة من هذه المرجعية، ‏وهي التي تعطي للحرية معنى وهدفاً‏ وتشريعاً. والشرك العقدي يعيق من انطلاقة فكرة الحرية، ‏ويضيف لها أبعاداً ‏ومضامين مناقضة في المحصلة النهائية للمفهوم الجوهري للحرية. وذلك لأن الإرادة الإنسانية المنبثقة من فكرة شركية، هي التي تعطي لإرادته وجهها السلبي والسيئ. وهذا يعني «أن الله أعطى للإنسان خلقه وزوده بالوسائل اللازمة التي تكفل له استمرار الحياة. وهو قادر على أن يسلب ذلك منه في كل لحظة.. ومنحه، في نطاق ذلك، الإرادة الحرة التي يستطيع من خلالها أن يمارس حريته في سلوك الطريق الذي يحلو له بعيداً ‏عن كل ضغط تكويني. فإذا اختار الشر كان الشر فعله، من خلال الأدوات التي منحها الله له... فليس الشر مخلوقاً‏لله بنحو المباشرة، وليس مراداً له بنحو الرضا. ولكنه فعل الإنسان، من خلال إرادة الله التي تربط بين السبب والمسبب، فتقتضي أن يوجد المسبب وهو الفعل إذا تعلقت إرادة الفاعل المختار به، مع توفر الشروط الأخرى لوجوده. ‏وبذلك كانت علاقة الله بالأشياء من خلال خلقه للقوانين التي تنتجها، ومن جملتها إرادة الإنسان واختياره، فلا جبر للإنسان لأن الخيط الأول في المسألة مربوط بيده وهو حرية الإرادة، ولاتفويض له، لأن الخيط الثاني، ‏وهو وسائل القدرة بيد الله، فهو القادر أن يبقيها حيث شاء، وأن يزيلها حيث يريد» [9] .

وإقامة العدالة المطلوبة إسلامياً‏ على مختلف الصعد والمستويات، لايمكن تحقيقها وتجذير آلياتها في الواقع المجتمعي بدون الحرية. فهي بوابة العدالة الاجتماعية والثقافية والسياسية، كما أنها هي التي تعطي للجميع الفرصة، كل من موقعه وخندقه في اجتراح وتكريس مسار العدالة في الواقع الخارجي. فالعدل الاجتماعي لايتحقق بدون حرية سياسية، والحرية السياسية لاتصمد بدون حرية الفكر والتعبير والتنظيم. كما أن العدل الإقتصادي لايأخذ مساره الصحيح بدون تكافؤ الفرص والمساواة في القانون والعطاء، وكلها ثمرات الحرية والديمقراطية.

فالاستبداد يدمر المدن والأمن، وينهي التعايش والمساواة، والحرية تنطوي على قيم الخير والعدل والمساواة والأمن والعلم والمدنية. فلا حضارة بلا حرية، فالحرية شرط الحضارة، وذلك لأن الحرية توفر الأمن والكفالة المعيشية والاقتصادية، وكلاهما من شروط الإبداع والانطلاق في رحاب البناء والعمران. وذلك لأنه لا إبداع مع الخوف، ولابحث علمي جاد بلا كفالة. وعلى ذلك فالحرية هي الاستعداد الدائم لممارسة الإختيار وفق إرادة حرة غير خاضعة للأهواء والضغوط الخارجية. كما أن الاستبداد هو الداء الذي ينخر في جسم الحضارات فيعطبها وينهي مسار تطورها وصعودها.

وفي المنظور الإسلامي يكون مبدأ الحرية، هو المبدأ المحوري الذي يؤسس لكل السلطات في المجتمع المسلم. إذ أن القدرة على الاختيار هي التي تحدد طبيعة السلطة ووظائفها المتعددة في الأمة والمجتمع. وإن تغييب الحرية والديمقراطية عن الأمة والمجتمع، بدعوى عدم النضج السياسي والاقتصادي، هي من الأقنعة التي تستخدمها المشروعات الاستبدادية، لكي تغطي استبداديتها وديكتاتوريتها. فالنضج السياسي والاقتصادي لايتأتى إلا بالحرية. فحضور الحرية وممارستها من قبل المجتمع، هو الكفيل بتطوير مستوى النضج والإدراك والوعي.

والمشروعات الاستبدادية التي تغيب الحريات بدعوى عدم النضج، هي ذاتها التي تقوم بتدعيم العصبيات ونمط العلاقات الزبائنية، وبالتالي فهي تدفع المجتمع إلى مآزق سياسية ومجتمعية خطيرة. بينما الحرية تعني «بناء القدرات الأهلية التي تمكن قوى المجتمع من ضبط السلطة وإخضاعها للمصالح والأهداف المجتمعية» [10] .

والحرية العامة هي عبارة عن عملية تاريخية متدرجة، تتجه إلى تنمية قوى المجتمع الذاتية، لكي تتوازن قوة المجتمع مع قوة الدولة، ومن خلال هذا التوازن والضوابط الأخلاقية والدستورية والسياسية، التي توجدها الحرية، ‏يتم ضبط السلطة ومنعها من التغول والإستبداد وممارسة القمع. ومن خلال المشاركة السياسية، وانتشار وتكريس ثقافة الحرية، وتحسن نوعية الممارسة السياسية، تتطور العملية الديمقراطية في المجتمع، ويتم الالتزام المجتمعي بكل مقتضياتها ومتطلباتها.

وإن التأمل في جملة النصوص الإسلامية، التي تتحدث عن الحرية والشورى وتحث عليهما، يفضي بنا إلى القول أن الحرية جزء أصيل في التصور الإسلامي، ولا يمكننا أن نتصور مجتمعاً مسلماً‏ فاقداً هذا الجزء.. فلقد جاء في قول للإمام علي «وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعية، فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة. وليس أحد من الرعية أثقل على الوالي مئونة في الرخاء، وأقل معونة له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً‏ عند الإعطاء وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صبراً‏ عند ملمات الدهر من أهل الخاصة، وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الأمة، فليكن صغوك لهم وميلك معهم» [11] .

فالمجتمع المسلم «يقوم على الشورى والتكافل والتضامن، وتتعزز هذه الرؤية بالعودة إلى تجليات هذا التصور في سيرة الرسول ﷺ عندما أقام دعائم الدولة والمجتمع الإسلاميين في المدينة من خلال حرصه على تعزيز مبدأ الشورى والعمل بموجبه في الشؤون العامة. وقد أورد المؤرخون «كتاب السيرة» عدداً كبيراً‏من الوقائع التي أخذ فيها الرسول ﷺ بمبدأ الشورى، وخصوصاً في الشؤون العسكرية كما في شؤون اقتصادية واجتماعية أخرى» [12] .

لهذا فإن الحرية تعني أيضاً‏ الكف عن الاعتداء، وعدم تجاوز حقوق غيرك أو اغتصابها. وبهذا فإن الحرية ووعيها السليم يؤدي إلى انطلاقة الإنسان وسعيه لنيل حقوقه، ولكن هذا السعي لايؤدي إلى غصب حقوق الآخرين أو التعدي على مكتسباتهم. فالحرية دعوة إلى نيل الحقوق بالسعي والكفاح المتواصل، وفي ذات الوقت مسؤولية الذات تجاه مكاسب الآخرين وحقوقهم.. وقد قال تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا لاتحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين [13] . فالاستفادة «من الطيبات ينبغي أن تكون في حدود الحقوق الواجبة، فهناك حقوق للجسد يجب الوقوف عندها وعدم تجاوزها في الاستفادة من الطيبات، مثلاً الإسراف في الأكل نوع من الاعتداء على حق الجسد في أن يبقى سالماً. كما أن هناك حقوقاً للناس، تجب رعايتها عندما يستفيد المرء من الطيبات، من هنا أكد القرآن على الحقوق في سياق حديثه عن الطيبات وقال: ﴿ولا تعتدوا إن الله لايحب المعتدين. والاستفادة من الطيبات. كل الطيبات يجب ألا يتحدد إلا بحدود الشريعة التي جاءت لمصلحة الإنسان كفرد وكمجتمع، وهذا هو التقوى» [14] .

فمنطق الحرية قائم على رفض الابتزاز والاعتداء والالتواء ومحاربة الآخرين في أرزاقهم ومكتسباتهم وحقوقهم. وفي ذات الوقت مسؤولية الإنسان تجاه واقعه، وضرورة إصلاح نفسه، ‏والسعي والمشاركة في إصلاح الوضع والشأن العام. وحينما تتكامل دائرة المسؤولية تصان الحريات، وتتطور آليات فعلها في المحيط الاجتماعي.

الحرية والحوار

لانعدو الصواب حين القول بأن السبب الرئيسي في بوار العديد من مشروعات التنمية، وانهيار عالم السياسة الحضارية، يرجعýبالدرجة الأولى إلى غياب الحرية وخضوع الوجودات العربية والإسلامية إلى حكم استبدادي  قمعي وتبعيات متعاظمة في الاقتصاد والثقافة. فالاستعباد والخضوع الأعمى لقوى السيطرة، هو الذي يحول دون الحيوية والفاعلية والإنطاق في رحاب مشروعات التنمية الشاملة.

لذلك فإن تثبيت قواعد الحرية في المحيط المجتمع، لايتأتى إلى بتأسيس علاقات ووقائع تكسر حواجز الأثرة ونوازع الأنا الضيقة وممارسات الشطب والإلغاء والنفي والتكفير والتشريد، وتؤسس لحسن الاستماع وقبول الآخر، واحترام وجوده وفكره وقناعاته. قال تعالى ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.. [15] . وقال تعالى‏﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ‏ولايتخذ بعضنا بعضاً‏ أرباباً‏ من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.. [16] . فالكلمة السواء لاتنجز إلا بعقل حواري يثري مضمون الحرية على المستوى الإنساني والحضاري. فلا حرية حقيقية بلا حوار بين الأفكار والثقافات والوجودات السياسية والثقافية والحضارية. وذلك لأن سبيل تعميم قيم الحرية هو الحوار، ‏وبدونه تبقى الحرية شعاراً يرفع، دون أن تكون وقائع الراهن تجسيداً ‏لها ولمثلها العليا.

وتجربة الحوار بين الأفكار والوجودات، هي التي تثري سؤال الحرية في الفكر والواقع وهي التي تعطي لمضمون الحرية أبعاداً ‏تاريخية وآفاقاً ‏مستقبلية مشرعة لإبداعات الإنسان ومبادراته في سبيل تجذير مفهوم وتجربة الحرية في الواقع الإسلامي المعاصر. فالحوار ليس من أجل إلغاء الخصم أو ثنيه عن أفكاره وقناعاته، وإنما من اجل الحرية وأفقها الإنساني والحضاري. والحرية لاتعني بأي شكل من الأشكال تجميد الاختلافات الفكرية والسياسية، وإنما تنظيمها وجعلها تسير في اتجاه توافقي  بنائي. ويخطئ من يتعامل مع الحرية باعتبارها وسيلة تجميد الخلافات الفكرية والسياسية.

إن الحرية والديمقراطية هي وسيلة الإنسان المتحضر في تعامله مع الاختلافات الفكرية والسياسية. فهي توفر آليات لتنظيم هذه الاختلافات، وتشيع أخلاقيات وآداب عامة، توجه التباينات الفكرية والسياسية نحو البناء والتجديد والعمران. ولأن الحوار سبيل الحرية ومن أجلها، لذلك ينبغي أن تتركز قيمة الحوار على مفاهيم مجتمعية وسياسية تثري مضمون الحرية، وتحفز القاعدة الاجتماعية على تبني خيار الحرية والديمقراطية على مستوى الأقوال والأفعال، وعلى مستوى المعتقد والسلوك، وذلك من أجل خلق مجتمع الإرادة والاختيار.

فحجر الأساس في الحرية، أنها لاتنجز إلا على أساس قوانين الحوار والاختيار لدى الفرد والجماعة. والحرية وفق هذا المنظور، هي مفتاح التقدم، وطريق تعبئة الطاقات والإمكانات ومشاركتها جميعاً في البناء والعمران. «وكان الحوار وسيلة نشر الدعوة، لم تكن هناك وسيلة أخرى غير الحوار والإقناع، لأن الفتوحات لم تستمر أكثر من مئة عام، ولم يتعد تأثيرها إنشاء سلطة سياسية للعرب المسلمين. على كل حال، إن معظم الجماعات الإسلامية غير العربية، ‏انضمت إلى الإسلام بعد توقف الفتوحات. أما على صعيد وحدة الأمة، فقد كان الحوار قاعدة ضرورية للحفاظ على هذه الوحدة التي استمرت حتى بعد انهيار سلطة الخلافة المركزية وتعدد الدول السلطانية الحاكمة. أدى الحوار الداخلي بين المسلمين إلى انقسامهم إلى مذاهب ومدارس فكرية. تعددت الأساليب المعتمدة لاستنباط أفكار جديدة واكتشاف حلول للمشاكل المطروحة. وتعددت العلوم التي استخدمت من أجل تحقيق مستويات أعلى من المعرفة ولم يكن لديهم خوف من الخلافة المذهبية داخل صفوفهم، فكأنهم كانوا يدركون أن الحرية في الحوار والنقاش والتسامح إزاء آراء الآخرين وإزاء الخلافات وتعدد الاجتهادات هي الوسائل التي تضمن وحدة الأمة» [17] .

والحوار الذي لايستند على قاعدة الحرية، يكون حوار طرشان وبعيداً‏عن المعنى الحقيقي للحوار، الذي يسمح للمتحاورين من الانفتاح على كل الآراء والبوح بكل القناعات والمواقف بدون خوف ووجل. ف «الحوار يرتكز على الحرية الفكرية في الساحة الحوارية، لأن الإنسان الذي لايمتلك حريته في طرح ما يريد من سؤال أو اعتراض أو مناقشة، لا يستطيع الوصول إلى الحق إذا لم يجد الفرصة للإجابة على سؤاله، ومناقشة وجهة نظره. ولذلك فإن الإسلام يتقبل أي سؤال في أي موضوع، ولكنه يضع شرطاً‏ مهماً، وهو أن يكون المحاور مثقفاً ‏بالفكرة التي يخوض الحوار حولها من موقع الموقف المضاد، أو منفتحاً على آفاق المعرفة فيما يريد أن يسأل عنه، وهذا هو مضمون الآية الكريمة: ﴿ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم «آل عمران 66» [18] ».

والمحيط الذي يحارب الحوار، هو محيط مستبد وقمعي، حتى لو رفع راية الحرية. لأنه لايمكننا أن نتصور حرية بلا حوار. فهو قرين الحرية، ووسيلتها في تعميم القيم ونشر القناعات والمبادئ. و«عملية الحوار تتنافر بطبيعتها مع الإجابات الجامدة، والمسلمات المتحجرة، والأنساق المطلقة، وهيراركية العارفين، وكهنوت الآباء المقدسين، فإن هذه العملية تنفي نقائضها التي تكبح حركتها، وتقاوم ما يحد من قدرتها بما تؤسسه من وعي ضدي، ‏يرفض صفات الإطلاق والتسليم والتقليد، الخنوع والإذعان، وكل ألوان التسلط والإرهاب» [19] .

وفي المقابل نستطيع القول أنه «بقدر غياب الحرية في المجتمع يغيب الحوار، وتسود لغة الصوت الواحد التي هي المقدمة الطبيعية للغة الإرهاب. ‏وإذا كان الإرهاب إلغاء لوجود الآخر، ونفياً ‏لحضور العقل، أو فعل اختيار المعرفة، فإنه يبدأ من حيث ينقطع الحوار، ومن حيث تشيع مخدرات التسليم والتصديق، ومسكنات الإذعان والاستسلام، ومبررات بطريركية الفكر أو مطريكية الثقافة. إن الإرهاب يتولد من رفض لغة الحوار وشروطه، أي تسلطية الصوت الواحد، من الإيمان بأن ما تقوله وحدك هو الحق، وإن الحق ملك خاص لك، ومن التسليم بأن فرداً ما، فكراً ما، زعيماً‏ما، يمتلك ما يجعل منه الأعلى ويهبط بالآخرين إلى الدرك الأدنى، كأننا إزاء مجلى النبي الملهم، أو الصورة البشرية للحقيقة الكلية» [20] .

فالحوار والتواصل الفكري الدائم، من المداخل الأساسية لتجذير مفهوم الحرية في الواقع المجتمعي. إذ من خلال هذا الحوار الجاد والمتواصل تتأسس شروط التحول الفكري والاجتماعي. وبالحوار يتم تجديد وتطوير مفهوم الحرية على المستوى النظري والعملي، ويتم اكتشاف آليات جديدة ومبدعة للنهوض بالحرية في الواقع المجتمعي.

الحرية وحق الاختلاف

لايمكن مقاربة مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي المعاصر، بمعزل عن مفهوم الاختلاف، وحق الإنسان الطبيعي في هذا الاختلاف. وأساس حق الاختلاف في المنظور الإسلامي، هو أن البشر بنسبيتهم وقصورهم لايمكنهم أن يدركوا كل حقائق التشريع ومقاصده البعيدة، وإنما هم يجتهدون ويستفرغون جهدهم في سبيل الإدراك والفهم، وعلى قاعدة الاجتهاد بضوابطه الشرعية والعلمية، يتأسس الاختلاف في فهم الأحكام والحقائق الشرعية، ويبقى هذا الحق مكفولاً للجميع.

«فالاختلاف مظهر طبيعي في الاجتماع الإنساني وهو الوجه الآخر والنتيجة الحتمية لواقع التعدد. أعني أن التعدد لابد من أن يستدعي الاختلاف ويقتضيه. فالاختلاف من هذه الزاوية، قبل أن يكون حقاً، هو أمر واقع ومظهر طبيعي من ظاهر الحياة البشرية والاجتماع البشري وكما تتجلى هذه الظاهرة الطبيعية بين الأفراد تتجلى بين الجماعات أيضاً. لذلك فلا مجال لإنكار ظاهرة الاختلاف بما هي وجود متحقق سواء من حيث الوجود المادي للإنسان أو من حيث الفكر والسلوك وأنماط الاستجابة» [21] .

ووفق هذا المنظور لايشكل الاختلاف نقصاً‏ أو عيباً‏ بشرياً يحول دون إنجاز المفاهيم والتطلعات الكبرى للإنسان عبر التاريخ. وإنما هو حق أصيل من حقوق الإنسان، ويجد منبعه الرئيسي من قيمة الحرية والقدرة على الإختيار. حيث أن «الحرية أساس، والسلطة قيد ولكنها ضرورة اجتماع. ولكي تقوم السلطة دون الإخلال بأساس الحرية لابد من أن تكون قيود السلطة مشتقة من قواعد الحرية. حيث لايجوز تقييد الأخيرة إلا بقواعدها وليس بإرادة خارجة عنها. وبهذا التحديد تغدو شرعية السلطة ثمرة لاختيار البشر الحر في تعيينها. وإذ ذاك يغدو الاختلاف «حقاً» مصوناً‏ بشرعية السلطة نفسها، وبنفيه تنفي السلطة شرعيتها أي تنفي ذاتها» [22] .

فالسلطة تستمد شرعيتها من اختيار الناس الحر لها، وأي تفرد بالسلطة بعيداً‏عن اختيارات الناس، بمقداره تزول شرعية السلطة. وهذا يعني أن الحرية هي جذر الحكم والسلطة في الدائرة الإسلامية وأي إخلال بنظام الحرية، ‏هو إخلال بنظام السلطة والحكم. وبهذا المنظور تتحرر السلطة من أخطار الثيوقراطية والإستبداد، وتبقى شرعيتها مرهونة بمدى التزامها بالحرية وصيانة حق الاختلاف، والتقييد القادم إلينا من الشريعة «لاينافي حرية الإختيار، لأنه من قواعد الإختيار نفسه وليس مفروضاً‏من الخارج» [23] .

وإجماع الأمة تاريخياً‏ حول قضايا فكرية أو سياسية وما شابه ذلك، ‏ليس وليد الرأي الواحد، وإنما تحقق الإجماع عن طريق الاختلاف الفكري والثقافي، الذي أثرى الواقع، وجعل الآراء المتعددة تتفاعل مع بعضها وتتراكم حتى وصلت الأمة إلى مستوى الإجماع. وسيادة الرأي الواحد، يؤدي إلى التخشب واليباس، وإلى توقف العقل عن التفكير في القضايا الجادة، وضمور حالات التجديد، والاستسلام لقوالب ونماذج ثقافية وفكرية جاهزة.

والبيئة الاجتماعية التي تقمع الآراء، وتنظر إلى الاختلافات والاجتهادات الثقافية والفكرية نظرة شائنة، هي البيئة التي تزدهر فيها حالات الجمود واللامبالاة، وتعشش فيها كل الهوامش والطفيليات. ويشير إلى بعض جوانب هذه المسالة «عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري» بقول: «وكان طالب العلم فيما مضى يسمع ليعلم، ويعلم ليعمل، ويتفقه في دين الله ينتفع وينفع، فقد صار طالب العلم الآن يسمع ليجمع، ‏ويجمع ليذكر، ويحفظ ليغالب ويفخر. وكان المتناظرون في الفقه يتناظرون في الجليل من الواقع، والمستعمل من الواضح، وفيما ينوب الناس، فينفع الله به القائل والسامع، فقد صار أكثر التناظر فيما دق وخفي، وفيما لاينفع، وفيما قد أنقرض من حكم الكتابة وحكم اللعان وحكم الرجم، وصار الغرض فيه إخراج لطيفة وغوصاً على غريبة ورداً على متقدم» [24] .

فالعقل قرين الحرية، فلا عقل فعال بدون حرية، ولا حرية مستديمة بدون عقل يمارس التفكير والسؤال والمساءلة، ويتحرك دائماً‏نحو تجديد أفق المعارف والتصورات، وحرية تؤسس للشروط اللازمة لممارسة العقل سلطته ووظيفته الجوهرية. ومن خلال الصلة الوثيقة بين العقل والحرية، تتجدد أدوات المعرفة، وتتطور أنماط الإنتاج العقلي والمعرفي. ووفق هذا السياق نتمكن من القول، أن الخرافة والتقليد الأعمى للآخرين كلها مضادات للحرية.. بمعنى أن سيادة الخرافة يعني تراجع مستوى الحرية، كما أن شيوع حالات التقليد الأعمى يعني ضمور مجالات الحرية. فلا يمكن أن تلتقي الحرية مع الخرافة، كما أنه لايمكن أن تنسجم حالات التقليد الأعمى مع متطلبات الحرية.

والإسلام كفل حق الاختلاف، واعتبره من النواميس الطبيعية، وجعل التسامح والعفو سبيل التعاطي والتعامل بين المختلفين. فحق الاختلاف لايعني التشريع للفوضى أو الفردية الضيقة، وإنما يعني أن تمارس حريتك على صعيد الفكر والرأي والتعبير، وتتعامل مع الآخرين وفق نهج التسامح والعفو. وبهذا لايخرج الاختلاف عن إطاره المشروع، وفي نفس الوقت يمارس دوره الحضاري في حفز الهمم والبحث عن الحقيقة، والتعاطي مع جميع الآراء والتعبيرات بعقلية حضارية تنشد استيعاب الآراء، وتستفيد منها جميعاً‏ في بناء واقعها ومسارها.

فالاختلاف لايساوي الرذيلة والإثم والخلل، وإنما هو ناموس كوني وجبلة إنسانية. الخلاف والتشرذم والتفرقة، هي التي تساوي الإثم والخلل. وعلى هذا ينبغي أن نجدد رؤيتنا للاختلاف، ونتعامل معه وفق عقلية جديدة، لاترى فيه إثماً ومعصية، وإنما قدرة إنسانية مفتوحة ومتواصلة لإثراء الواقع والحقيقة. فالاختلاف هو الوجه الآخر لضرورة الاجتهاد وإعمال العقل والفكر، كما أن الخلاف والتشرذم هو الوجه الآخر للخضوع للأهواء والغرائز والنزعات الشيطانية، التي تتمرد على القيم والأخلاق، وتؤسس لصراعات وفتن دائمة، وتدخل الجميع في أتون النزاعات التي لاطائل من ورائها. «ومما لاجدال فيه أن أفضل سبل التعبير السليم عن التعددية في مجتمع ما هو الاعتراف بوجودها، وفتح سبل العمل السياسي المشروع أمامها. وهذا الاعتراف يقتضي قبول التعددية التقليدية والحديثة، والاعتراف بوجود القوى التي تمثلها، وفتح سبل العمل السياسي المشروع أمامها. وهذا الاعتراف يجب أن يتجسد في حق القوى المعبرة عن التعدد في تشكيل الأحزاب والحركات السياسية وجماعات المصالح وقوى الضغط للتعبير عن آرائها والدفاع عن مصالحها بشكل علني وسلمي مشروع يكفله الدستور» [25] .

الحرية والوحدة

من البديهي القول أن التجارب الوحدوية التي كانت تعتمد على القسر والقوة والقهر في بنائها، تحولت إلى تجارب مولدة للتمايز المقيت والإنفجارات السياسية والاجتماعية، وكأن حقبة الوحدة القسرية، ‏هي حقبة تربية الفوارق وتنمية التناقضات وتعميق مناطق التوتر. فالمشروعات التمامية والكليانية، التي تعتمد على القوة والقهر لفرض أجندتها وتطلعاتها، وتنبذ كل أشكال الخصوصية، لاتصل إلى أهدافها، وإنما تزيد الوضع سوءاً‏وتدمر مستويات التعايش المتوفرة.

والحرية هي التي تسمح لجميع الأطياف والقوى في المجتمع، أن تمارس دورها في إغناء الوحدة الوطنية وتكريس قيم العدالة والتسامح في مسيرتها التصاعدية. ولقد علمتنا التجارب أن تأجيل مشروع الحرية لإنجاز الوحدة لايؤدي إلى نتيجة إيجابية. بل الاستبداد هو الذي يئد مشروع الوحدة، وهو الذي ينهي حلم الوحدة، ويوصل الجميع إلى نتائج كارثية. فلا وحدة بلا حرية، ومشروع الوحدة الحقيقي يبدأ بإشاعة الحرية والسماح للجميع بممارسة حقوقهم وقناعاتهم. فالكيانات التسلطية لاتصنع وحدة، وإنما تصنع شمولية سياسية تلغي كل إمكانات الشعب وتحارب قواه الحية، وتحول دون انطلاقته وإنجازه لتطلعاته وأحلامه.

فالقمع لايصنع وحدة، والقسر لايؤدي إلى الإتحاد، وإنما يؤديان إلى تأجيج نار الصراعات والتوترات، ‏ويخطئ من يعتقد أن طريق الوحدة هو القوة والفرض والقهر. وحدها الحرية بما تعني من مضامين ثقافية وسياسية وحضارية، هي طريق الوحدة وبوابتها الواسعة.

وقوة العرب والمسلمين في حريتهم، حيث أنها القدرة المواتية لإطلاق دينامية التحولات النوعية المتجهة نحو وحدة حقيقية وصلبة في المجال العربي والإسلامي. لأنها تفكك أنظمة الإستبداد ومشروعات العنف والقهر، وتؤسس لحركة اجتماعية متواصلة، يشترك فيها الجميع «كل من موقعه وخندقه»، وذلك من أجل البناء والوحدة على قاعدة الحرية والديمقراطية. فدولة القمع والسلطة المطلقة، ‏لاتصنع وحدة اجتماعية ووطنية مستديمة، ‏وإنما هي تغرس وترعى بعنفها واستبداديتها النزعات العائلية والعشائرية والطائفية والعنصرية والجهوية. وبهذا نستطيع القول أن دولة القمع والإستبداد تصنع التفتت والتشظي حتى لو كان السطح الاجتماعي موحداً ومستقراً. فالوحدة هنا كاذبة والاستقرار وهم. لأنها وحدة كل عنوان فرعي ضد الآخر. واستقرار كل طرف على مواقعه التقليدية الضيقة. وبهذا تتصاعد التوترات والتناقضات بكل أشكالها وأطيافها في دولة القمع والإستبداد.

فالعنف لايصنع وحدة، وإنما يخلق انفجارا اجتماعيا بأشكال مختلفة ومستويات متعددة. وتسويد قيم الاستعلاء والتمييز والتهميش والجهوية المتطرفة، كلها تزيد من مآزق الدولة والمجتمع، وتدخل الجميع في دوامة العنف والعنف المضاد. والأمن لايصان بالقمع، والاستقرار لايتأتى بتنمية المخاوف وتأجيج العواطف السلبية، والوحدة الوطنية لاتبنى بالاستعلاء والتهميش والتمييز. كل هذه الأمور «الأمن والاستقرار والوحدة الوطنية» سبيلها قيم الحرية والمشاركة والتسامح واحترام حقوق الإنسان.

إننا نتطلع إلى الوحدة، ولكن ليست تلك الوحدة التي تسلبنا حريتنا، وإنما نتطلع إلى تلك الوحدة التي تصون الحرية، وإلى تلك الحرية التي تثري الوحدة بمضامين حضارية جديدة. فالطريق السليم لإنجاز مفهوم الوحدة الاجتماعية والوطنية، هو التعامل السليم مع الاختلافات والتنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة الموجودة في المجتمع، تعاملاً لايكبت ويقمع هذه التنوعات وإنما ينظمها ويحترمها، ‏ولا يتعالى على حقائقها، وإنما يتعاطى معها وفق سياق حضاري قوامه التسامح مع حق التعدد، وتجنب أسباب وموجبات التوترات والاحتقانات، ويفتح للجميع سبل العمل المشروع في مستوياته المتعددة.

وإن تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع، لايتأتى إلا بممارسة الديمقراطية والحرية. وإن تجاوز عيوب المجتمع ومعوقات التحول الديمقراطي، لايتأتى أيضاً‏إلا بممارسة الديمقراطية. وحدها ممارسة الحرية والديمقراطية هي التي تتجاوز عيوب المجتمع، وتعالج معوقات الانطلاقة الديمقراطية. «فالديمقراطية ليست ثمرة تقطف أو نظاماً ‏جاهزاً‏ يقام في لحظة يحددها حاسب إليكتروني. إنها معركة اجتماعية وسياسية طويلة ومستمرة لاتنتهي ولن تنتهي، تواكب تطور المجتمعات وتتقدم مفاهيمها ونظمها مع تقدمها. فالبرغم من أن الديمقراطية أصبحت راسخة الجذور في الدول الصناعية الغربية التي تعيش تجربتها منذ عدة قرون، لم ينته النقاش فيها والحوار حولها، ولاتزال الأحزاب تتنافس على تعميق مدلولاتها وقيمها ونظمها. ولكل مجتمع  حسب مستوى نضجه ونضج قواه السياسية والاجتماعية وتوازناته‏ مطاليبه الديمقراطية ومستوى المشاركة الشعبية الضرورية لتطوير نفسه، ودرجة التمتع بالحريات الفكرية والتنظيمية الجماعية والفردية التي لم يعد هناك اليوم إمكانية بناء مجتمعات سياسية ومدنية بالمعنى الحقيقي للكلمة من دونها. إن مفهوم الديمقراطية قد ارتبط بمفهوم المواطن، وبناء المواطنية، ولاجماعة وطنية من دون مواطنية، ولا مواطنية من دون حرية ومسؤولية جماعية. وفي غياب هذه العوامل المترابطة معاً‏ تكمن أزمة التشكيلة الوطنية العربية جميعها، وفي كل مكان» [26] .

وإن التحول نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في البناء الوطني السياسي والثقافة والحضاري. وأن هذا الوعي بحاجة إلى أن يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة. وأن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع.

ودورنا في هذا الإطار يتجسد في تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحول الديمقراطي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها الأساس في تنظيم الخلافات والصراعات وضبطها، وحتى تتجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني، وتعميق موجبات العدل والمساواة والحرية.

ولقد أظهرت الأزمات المتلاحقة التي يعاني منها المجال العربي والإسلامي، أن علة العلل وجذور العديد من الأزمات والمشاكل يكمن في غياب الحرية، وسيادة حالة الإستبداد والتفرد، وضمور حالات المشاركة الشعبية فيما يرتبط براهن الأمة ومستقبلها. ولاشك أن هذا الغياب بأبعاده المختلفة وأشكاله المتعددة، هو وراء فشل برامج التنمية واستحكام شبكة التبعية والذيلية على المستويين السياسي والاقتصادي.

فالحرية هي بوابة الخروج من هذه المآزق والأزمات. ولعل من الضروري بيان أن الحرية ليست حلاً سحرياً‏ لمشكلات الأمة، ولكنها القيمة التي تهيئ الظروف الذاتية والموضوعية للنهضة باتجاه التخلص من كل الأغلال والقيود. ففكر التعصب والتطرف وجماعات العنف التي ترعرعت ونمت في بعض مناطق المجال العربي والإسلامي، بسبب غياب الحريات وشيوع حالات الاستبداد. فتنمو هذه الأفكار بعيداً‏عن أهل العلم وقناعاتهم وآرائهم ونقدهم. فالأفكار التي تنمو في الخفاء والظلام، بعيداً عن العلم وأهله ستكون خطرة وهدامة. أما الأفكار التي تنمو في جو الحرية وفي العلن وتناقش ويتم الحوار حولها، فإن ولادتها الاجتماعية ستكون يسيرة، وستكون هذه الأفكار في مسار البناء لا الهدم.

إن الفكر الإسلامي المعاصر اليوم، ‏بحاجة أن يقتحم فضاء الحرية، ويكشف المضمون الثري لهذا الفضاء في قيم الإسلام وأحكامه ومثله. إذ أن هذا الاقتحام سيقدم للفكر الإنساني أبعاداً ‏ومضامين جديدة، ويزيد من إمكانية المسلمين للتفاعل مع العصر وقضاياه الكبرى، ويساهم في خلق شروط الحرية الفعلية والتداول السلمي للسلطة واحترام حقوق الإنسان.

[1]  القرآن الكريم، سورة البقرة، آية (170).
[2]  القرآن الكريم، سورة المائدة، آية (104).
[3]  جريدة الحياة اللندنية العدد (13160)، الجمعة 19/مارس/ 1999م مقال الإسلام ومسيرة الحضارة البشرية ‏علي عيسى عثمان.
[4]  القرآن الكريم، سورة البقرة، آية (256).
[5]  القرآن الكريم، سورة البلد، آية (810).
[6]  مالك بن نبي، القضايا الكبرى، ص147، دمشق دار الفكر‏ الطبعة الأولى، 1991م.
[7]  القرآن الكريم، سورة الإسراء، آية (2931).
[8]  مجلة المنطلق، عدد 98، ص44، رجب 1413 هـ كانون الثاني 1993م.
[9]  من وحي القرآن، ‏السيد محمد حسين فضل الله، جزء (910)، ص174، المجلد الرابع، دار الزهراء، الطبعة الأولى، بيروت 1984م.
[10]  حوار من أجل الديمقراطية، د. علي خليفة الكواري «محرر»، ص123، دار الطليعة، الطبعة الأولى، بيروت 1996م.
[11]  في ظلال نهج البلاغة محاولة لفهم جديد، محمد جواد مغنية، الجزء الرابع، ص52، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت 1973م.
[12]  مجلة المنطلق، العدد 98، ص43، مصدر سابق.
[13]  القرآن الكريم، ‏سورة المائدة، آية (87).
[14]  من هدى القرآن، السيد محمد تقي المدرسي، المجلد الثاني، ص 452، دار البيان العربي، الطبعة الثانية، بيروت، 1407 هـ .
[15]  القرآن الكريم، سورة الزمر، آية (18).
[16]  القرآن الكريم، ‏سورة آل عمران، آية (64).
[17]  مجلة الاجتهاد، العدد الثامن، ص14، السنة الثانية، صيف 1990م/ 1410 هـ ‏1411 هـ .
[18]  مجلة المنطلق، مصدر سابق، ص120.
[19]  هوامش على دفتر التنوير، جابر عصفور، ص266، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1994م.
[20]  المصدر السابق نفس الصفحة.
[21]  مجلة المنطلق، العدد 115، ص13 ربيع، ‏صيف 1996م/1417 هـ .
[22]  مجلة المنطلق، المصدر السابق، ص17.
[23]  مجلة المنطلق، المصدر السابق، ص18.
[24]  الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة‏ تحقيق د. كاظم حطيط‏ الشركة العالمية للكتاب 1990م‏‏نقلاً عن مجلة الاجتهاد ‏عدد (9)، السنة الثالثة ‏خريف 1990م 1411 هـ .
[25]  حوار من أجل الديمقراطية‏ د. علي خليفة الكواري، مصدر سابق، ص155.
[26]  المصدر السابق، ص10.
كاتب وباحث سعودي «سيهات».