شهر العافية: 24 - طغيان اللاشعور «ح»
بسم الله الرحمن الرحيم -... «70» يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً «71»... - صدق الله العظيم - الإسراء.
البشر يأتون على جماعات مختلفة ويمكن للفرد الواحد أن يتواجد في أكثر من مجموعة إذ بالإمكان تقسيم الناس على حسب الجنس، اللون، الجنسية، العرقية، الدين، المذهب، وهلم جرا. الفرد يغير جلده اعتمادا على المجموعة التي يكون حاضرا فيها في حينه. الطالب الجامعي يجد نفسه طالبا في الجامعة. هو ذاته يجد نفسه أحسائيا في الأحساء، بدون تزاحم أو تعارض.
في أوقات الكوارث أو الظروف الصعبة، تذوب الفروقات بين الناس. مثلا، عندما غزا صدام حسين الكويت، ذابت الفروقات ليس فقط في الكويت بين الغني والفقير، والسني والشيعي، ولكنها ذابت أيضا في كل دول الخليج، هذا بالإضافة إلى ذوبان الجنسية حيث استضافت كل دول الخليج إخوانهم الكويتيين على الرحب والسعة وعلى كفوف الراحة.
في حال الرخاء أو الرخاوة، تبرز الفروقات بين الناس ويميز كل فريق نفسه؛ ربما من حيث الثقافة، أو الموهبة، أو العرق، أو اللغة، أو العقيدة،... الخ. كل فريق يصّر على أنه الأفضل بدون منازع. في تجربة ميدانية، قام باحثون باختبار مجموعة من الأطباء وأخرى من الحلاقين. كلهم سُئِلوا نفس الأسئلة من ناحية الإعجاب والتنوع والقدرات. الأطباء انحازوا للأطباء والحلاقون انحازوا للحلاقين. ربما أي شخص في هذه الدنيا يظن أن وظيفته الأهم وأن العالم سيتعطل لو توقف هو عن العمل. هكذا تخدعه انحيازاته ويضله لاشعوره.
اللاشعور يصوّر لنا أننا أرقى من غيرنا؛ في كل شيء. في تجربة، وُزِعَّت فرقتان بطريقة اعتباطية؛ كل فريق مؤيد لفنان لا يعرفه ولا يمكن أن يقيّم عمله. فريق ينتمي للفنان التشكيلي الروسي واصلي كانديىنسكي «Wassily Kandinsky» الذي ولد في موسكو عام 1866م ومات في باريس عام 1944م. الفريق الآخر يمثل الفنان السويسري - الألماني پول كْلي «Paul Klee» الذي ولد في سويسرا عام 1879م ومات فيها عام 1940م. لاحقا، أُعطي أعضاء الفريقين أموالا ليوزعوها على الحضور وعلى المتطوعين في التجربة. لاشعوريا، المتطوعون فضلوا ليس فقط أعضاء فريقهم وأعطوهم مبالغ أكبر بل حتى أولئك من الخارج الذين كانوا يفضلون الفنان الذي رسا عليهم. أعضاء الفريق الذين لا يعرفون بقية أعضاء فريقهم انحازوا إلى أنفسهم وتعنصروا ضد أعضاء الفريق الآخر حتى وإن كان فيهم من يعرفونهم، بالرغم من أن الفِرَقَ صورية ينتهي مفعولها بعد التجربة.
القرآن الكريم يشير إلى هؤلاء ويطلق عليهم ”الأحزاب“ لأنهم يتحزبون ضد غيرهم حتى وإن لم تكن بينهم أي صلة من قبل. في معركة الأحزاب «الخندق» اتفق أعداء الرسول ﷺ على المسلمين ليغزوهم في المدينة حتى بلغت القلوب الحناجر. قد يكون الذين تحزبوا ضد محمد ﷺ وأصحابه أعداء من قبل، ولكن عدو عدوي صديقي. في الحرب العالمية الثانية، تحالفت الولايات المتحدة الأمريكية مع الاتحاد السوفيتي لمواجهة دول المحور بالرغم من الحرب الباردة القائمة بين الرأسماليين والشيوعيين.
قال تعالى في سورة الأنفال: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «63». وقال أيضا في سورة الروم: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ «32». وقال في سورة القصص: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ «4».
نلاحظ من الآيات السابقة أن عهد الله يؤلّف ويجمع وعهد الفراعنة يمزق ويفرق وأن الناس مجبولون على تكوين فرق فيما بينهم؛ كل فرقة تفضل نفسها على الأخرى، وهذا أمر لا يحبه الله، وإلا ما انتقده في القرآن. الناس لا تزال تكوّن فرق مختلفة؛ في الدين مذاهب، وفي المذهب الواحد فرق، وفي الفرقة جماعات وأحزاب. من المؤسف أن نرى اختلاف الرأي يؤدي إلى خلافات وعدوات وتراشق بالعبارات النابية وحرب ضروس في الفضائيات والمجالس. ما هذا؟ أهذا فعلا هو دين الله؟ أهذا ما يريده الله ورسوله للناس؟
يا أمة محمد ﷺ؛ تحّابوا، تصالحوا، تآلفوا، وليحمل كل منكم أخاه على سبعين محمل. يا أبناء طه، صيروا قوامين بالقسط واتخذوا من الرسول ﷺ أسوة حسنة وكونوا رحماء بينكم ورحمة للعالمين؛ فقط، حينها نفلح وتفلحون.
