سؤال الهوية والتنوع الثقافي
ثمة علاقة عميقة تربط بين مفهوم الهوية وحقيقة التنوع الإنساني. ولا يمكن إدراك هذه الحقيقة الإنسانية بدون تظهير قيمة التنوع الثقافي. فالإنسان لا يمكن فهم ذاته بدون فهم وادراك الآخر. لذلك ثمة ضرورة لفهم قيمة الهوية بوصفها شاملة لكل الخصائص الثقافية والاجتماعية والنفسية المتوفرة لدى كل الجماعات البشرية. ويخطأ من يتعامل مع مفهوم الهوية، بوصفه مفهوما إصطفائيا وخاصا بفئة دون أخرى. وعليه فإن مفهوم الهوية، لا يمكن إختزاله أو تجفيف روافده الإنسانية. وأية محاولة للاختزال أو التجفيف فإن مآلها الأخير هو الفشل والإخفاق.
هل يمكن للإنسان الفرد أو الجماعة، أن يفهم نفسه بدون الآخر.. وهل يستطيع الإنسان أن يستغني عن الآخر.. أم العلاقة بين الذات والآخر، من العلاقات المركبة على المستويين الفردي والجماعي، بحيث أنه لا يمكن فهم الذات إلا بفهم الآخر.. وبالتالي فإن العلاقة بين الذات مهما كان عنوان تعريفها، هي بحاجة إلى الآخر مهما كان عنوانه وتعريفه..
فإذا كان عنوان الذات دينيا، فإن هذه الذات بحاجة ماسة لفهم ذاتها وللعيش الإنساني السليم مع الآخر الديني. وإذا كان عنوان الذات قوميا أو عرقيا أو مذهبيا، فإنه لا يمكن لهذه الذات من إدراك حقائق الحياة بدون نسج علاقات سوية مع الآخر.. فالآخر بكل دوائره، هو مرآة الذات بكل دوائرها.. ومن يبحث عن ذاته، لا يمكن القبض على حقيقتها وجوهرها بدون استيعاب الآخر وفهمه وإدراك حاجاته ومتطلباته. فالآخر هو مرآة الذات، ولا ذات حقيقية بدون آخر حقيقي. لذلك فإننا نعتقد ومن منطلق فلسفي ومعرفي إن كل دعوات الاستغناء عن الآخرين مهما كانت مبرراتها ومسوغاتها أو عناوينها، هي دعوات لا تنسجم ونواميس الحياة الإنسانية..
فدعوات نفي الآخر واستئصاله، لم تؤد ولن تؤدي إلا إلى تشبت الذات بكل خصوصياتها وحيثياتها المباشرة وغير المباشرة.
لذلك فإننا نرى أن كل الأيدلوجيات والنزعات الاصطفائية والتطهيرية، لم تفض إلا إلى المزيد من بروز الهويات الفرعية والخصوصيات المراد طمسها وتغييبها.
وعليه فإن الآخر الديني هو ضرورة وجودية للذات الدينية. كما أن الأخر المذهبي هو ضرورة وجودية ومعرفية للذات المذهبية وهكذا بقية العناوين ودوائر الانتماء التي تحدد معنى الذات والآخر.. فالذات التي لم تتجاوز حدودها على أحد تعبير الكاتب المصري سمير مرقص، مهما كان ثراء هذه الذات ومهما حملت من خبرات، تظل في حاجة كيانية - ماسة إلى أن تعبر هذه الحدود انطلاقا من احتمالية أن الآخر قد يحمل ثراء وخبره لم تعرفها أو قد تدركها ا الذات من جهة، وإن استمرار الذات في الوجود يعتمد إلى حد كبير على اختبار ما لدى هذه الذات من غنى وخبرة بالتفاعل أو باكتشاف - على الأقل - ما لدى الآخر من جهة أخرى.
والآخر بحكم التعريف هو مغاير للذات، ويظل منطقة تحتاج إلى الإدراك.
والذات في عملية خروجها إلى الآخر - اكتشافا - إنما تعيد اكتشاف نفسها، وربما تبدأ في إدراكها. والذات لا يمكن أن تكون ذاتا إلا بوجود الآخر.
فمن يبحث عن اكتشاف ذاته، ومعرفة منظومته القيمية والثقافية، فعليه بالتواصل مع قيم الآخرين ومنظوماتهم الثقافية.
فالعزلة والانكفاء لا يقودان إلى اكتشاف الذات، حتى ولو كان خيار العزلة خيارا أيدلوجيا.
والنظرة النرجسية إلى الذات وقيمها وما تملك من مبادئ ومعارف، فإنها لا تؤدي أيضا إلى إدراك وفهم حقيقة الذات الثقافية والقيمية.. وذلك لأن النزعة النرجسية لدى الإنسان، تقوده إلى شعور وهمي بالاستغناء عن الآخرين بكل معارفهم ومكاسبهم العلمية والحضارية. فلا العزلة تقود إلى الفهم واكتشاف الذات، كما إن الاستغناء عن الآخرين، والتكور والتمحور حول الذات، لا يفضي إلى اكتشافها، وإنما يفضي إلى بناء صورة نمطية حول الذات، ليست قادرة على استنهاض الإنسان واكتشاف قدراته وطاقاته الكامنة. وحده التواصل والانفتاح هو الذي يقود إلى اكتشاف الذات. من هنا نصل إلى حقيقة اجتماعية وحضارية مهمة. وهي أن العزلة والانكفاء، ليست هي وسيلة الدفاع الحضارية والثقافية عن الذات، بل هي تعتبر وسيلة للهروب من استحقاقات الراهن. ولم يسجل لنا التاريخ تجربة إنسانية عن مجتمع، تمكن من حفظ ثوابته وصيانة مكتسباته من خلال الانكفاء والانعزال. ويبقى الانفتاح الرشيد والتواصل العلمي والثقافي والاجتماعي، بين مختلف التعبيرات والمكونات، هو وسيلة الدفاع عن الذات. فالتمسك بالثوابت والدفاع عن الخصوصيات، لا يمكن أن يتحقق بانغلاق الذات، وإنما بانفتاحها وتواصلها المستديم مع الآخر. ومهما كانت التباينات ونقاط الاختلاف، لا مبرر حقيقي للانكفاء والانعزال.. بل على العكس من ذلك تماما. ولا يمكن إدارة الاختلافات الدينية والمذهبية والفكرية، بدون تواصل المختلفين مع بعضهم البعض.
لهذا كله فإننا نعتقد وبشكل عميق أن اكتشاف الذات يتطلب الاهتمام بالأمور التالية:
1 - إن الإنسان مهما امتلك من إمكانيات وكفاءات وطاقات، لا يستطيع أن يحقق ذاته ويعزز مكاسبها العامة، بدون نسج علاقات طبيعية وسوية مع محيطه الاجتماعي والثقافي والوطني..
فالإنسان السوي لا يمكنه الاستغناء عن الآخرين وإنما من الضروري أن ينسج علاقات سوية معهم. ولا ريب أن بوابة هذه العملية هو الانفتاح والتواصل والتعاون مع الآخرين.
فالعلاقة شرطية وجدلية في آن واحد «على حد تعبير الكاتب سمير مرقص» بين الذات والآخر. وهذه العلاقة غاية في التعقيد، حيث يصبح الآخر شرطا لتحرر الذات من ذاتية عمياء لا ترى إلا نفسها - وربما لا تراها - ومن ثم تحمل نهاية لصيرورتها، وهنا يكمن البعد الشرطي في العلاقة. وفي الوقت نفسه فإن تحرر الذات من حدودها والخروج إلى الآخر، إنما يعني التجدد بإدراك نقاط القوة لدى الآخر والتي تعني نقاط الضعف لدى الذات ما يعني تحقق البعد الجدلي في العلاقة، والعكس صحيح بطبيعة الحال. هذا بالإضافة إلى تصحيح الصور النمطية أو الرؤى سابقة التجهيز التي يشكلها كل طرف من الطرفين - الذات والآخر - بعضهما عن بعض.
2 - إن الآخر المختلف، ليس موضوعا للنبذ والإقصاء والسباب والشتيمة، وإنما هو موضوعا للحوار والتواصل والتعارف. وإن الاختلافات والتباينات مهما علا شأنها، لا تشرع لأحد ممارسة الحيف والظلم بحق الآخر المختلف.
فالمطلوب من كل الأطراف، ليس التنابز بالألقاب، وممارسة سوء الظن المتبادل، وإنما المطلوب هو ممارسة العدل تجاه بعضنا البعض..
ولا يمكن أن نحقق مفهوم العدل في العلاقة مع المختلف، بعيدا عن قيم الحوار والتواصل والتعاون..
فليس عيبا أن نختلف، لأن ذلك من لوازم الحياة الإنسانية، ولكن العيب كل العيب حينما يقودنا هذا الاختلاف إلى الخصام والعداء المتبادل..
فتعالوا جميعا من مواقعنا الفكرية والثقافية والاجتماعية المتعددة والمتنوعة، أن نمد أيدينا لبعضنا البعض، ونطرد من واقعنا كل أسباب الإحن والبغضاء، ونتعاون مع بعضنا البعض لإرساء معالم وحقائق الاحترام المتبادل وصيانة الحقوق والحفاظ على أسباب الوئام وموجبات الاستقرار والتضامن..
3 - حين الحديث عن ضرورة نسج علاقات إيجابية بين الذات والآخر، وإن جميع مكونات وتعبيرات المجتمع الواحد، من الضروري أن تنفتح على بعضها، وتتواصل اجتماعيا ومعرفيا.. فإننا ندرك وبعمق أن التوجيهات الأخلاقية بوحدها، لا تصنع هذه الحقائق، ولا تبني العلاقات الإيجابية بين مختلف الأطياف والتعبيرات..
لذلك فإننا نعتقد أن تنمية فضاء المصالح المشتركة، بين مختلف المكونات والتعبيرات، هو الذي يساهم مساهمة رئيسية في تعزيز التواصل والعلاقة..
فحينما تكون مصالح الناس متباعدة، فإن التوجيهات الأخلاقية، ستعالج في الحدود القصوى بعض الحالات الفردية. أما إذا كانت شبكة المصالح اليومية بين الناس متداخلة، فإن هذه الشبكة بمتوالياتها ومقتضياتها المتعددة، ستفرض واقعا جديدا على صعيد العلاقات الداخلية في المجتمع الواحد. وتأتي التوجيهات الأخلاقية، لتضيف إلى هذا الواقع نزعة أخلاقية - روحية، تساهم في ضبط العلاقة اليومية، وتخرجها من دائرة العلاقة بين الأجساد والعقول، وتدخلها في رحاب الروح والالتزامات الأخلاقية.
إننا نشعر بأهمية أن تكون العلاقة بين تعبيرات المجتمع إيجابية وحسنة، ومتجاوزة لإرث القطيعة والانفصال. ولا سبيل حيوي وفاعل لذلك إلا بتوسيع شبكة المصالح المشتركة بين مختلف الأطراف.
بحيث يشعر الجميع، أن مصلحة الجميع تقتضي، التمسك بكل أسباب الانسجام الاجتماعي والتضامن الوطني.
وصفوة القول: إننا ينبغي أن لا نذعن إلى إكراهات القطيعة ومناخات المفاصلة والجفاء بين أطياف المجتمع والوطن، ونعمل من مواقعنا المتعددة على إشاعة أجواء التفاهم والتواصل، ونوفر كل الأسباب المؤدية إلى بناء علاقة إيجابية وحيوية ومتضامنة بين جميع المكونات والتعبيرات.
لا نجانب الصواب، إذا قلنا أن التطورات الحديثة بأشكالها المختلفة ومؤسساتها المتنوعة وآفاقها الرحبة، لا تلغي ضرورة الانتماء إلى هوية واضحة المعالم، ضاربة بجذورها في عمق التاريخ والمجتمع.
ولا يمكننا بأي حال من الأحوال، أن تكون مؤسسات العلم الحديث، هي البديل عن الانتماء إلى تلك الهوية. كما يطالب «جوزيف شتراير» حينما يقول: ”لقد أصبح ممكنا الاستغناء عن الطرق القديمة، لعثور المرء على هويته داخل مجتمع ما. إن شخصا بدون عائلة، وبدون مسكن ثابت، وبدون انتماء ديني، يمكن أن يعيش حياة مكتملة بصورة كافية“.
إن هذه النظرة وأمثالها، التي تنظر إلى عملية الانتماء إلى هوية وطنية ثابتة. وعلى صلة عميقة بالجذور التاريخية والدينية مسألة ثانوية، أو بإمكان الإنسان أن يستبدلها بهوية أخرى متحركة. لا شك أن هذه النظرة، تدفع باتجاه إلغاء الضوابط الأخلاقية والاجتماعية، وتقضي على عملية الاستقرار النفسي، التي توفرها الهوية المنسجمة والمعبرة عن التكوين العقدي للناس.
إن الهوية حينما نتمسك بها بشكل إيجابي وواع، ونترجم قيمها ومبادئها إلى خطط عمل وبرامج حضارية. هي التي تصنع التطورات والأشكال المؤسسية الحديثة. ولا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نعتقد أن الأشكال المؤسسية الحديثة، الخاضعة للتحول والتطور، هي التي تخلق لنا هوية وثابتا وطنيا نسير عليه.
فالهوية هي التي تصنع العمران الاجتماعي والحضاري، وليس العكس. فليس صوابا أن تحل التكنولوجيا محل الهوية وضرورة الانتماء الحضاري.. لهذا نجد أن عمليات المسخ والتبديل الحضاري التي مارسها الاستعمار بحق الشعوب المستعمرة ذات التاريخ والحضارة، لم تؤد إلى تخلي تلك الشعوب عن هويتها. بل كان لتلك العمليات الخارجية الدور الأساسي، في تكريس الهوية في نفوس الناس وتشبثهم بها. لهذا كانت دائما الهوية بعناصرها العقدية والثقافية. تشكل عنصرا أساسيا لتوازن الكيان المجتمعي، بحيث أن وجود أي خلل في هذه المسألة يعني على المستوى العملي بداية التراجع الحضاري.
فوظيفة الهوية الأساس، هي صياغة الكيان المجتمعي، بما يتناغم والمنطق العقدي والتاريخي لتلك الجماعة البشرية. وفي كل الحقب التاريخية التي مر بها الإنسان على وجه هذه البسيطة، كان لغياب الهوية أو ضمورها الدور الجوهري في دخول الكائن البشري في نفق اللاتوازن واللا استقرار النفسي والاجتماعي.. وفي المقابل كان الاستقرار النفسي والاجتماعي، كقاعدة لتطوير الإنتاج وتحسين ظروف المعيشة المادية والمعنوية، رهينا بحسن العلاقة التي تربط تلك المجموعة البشرية بهويتها وعناصرها العقدية والحضارية.
فالتاريخ الحقيقي الذي يتجه إلى صنع المنجز الحضاري لأي مجتمع. يبدأ منذ اتساق العلاقة بين الحركة الاجتماعية والهوية، بحيث تكون الحركة الاجتماعية مجسدة لعناصر الهوية الذاتية للمجتمع.. وهذا ما يقربنا من المفهوم الاجتماعي للزمن. بحيث أن حركة الناس العشوائية تبقى خارج التاريخ وعلى هامشه. بمعنى أن هذه الحركة لا تقود إلى توظيف كل الطاقات والقدرات في سبيل بناء الواقع الحضاري. وإنما هي حركة في أحسن الظروف تقليدية، لاهثة وراء منجزات الغير لاقتنائها، دون تمثل القيم الأصلية التي أوجدتها، وكأن الحضارة سلعة تباع وتشترى. إن الهوية بعناصرها العقدية والحضارية، بمثابة القدرة الخلاقة المستمرة، التي تمد الكيان الاجتماعي بأسباب وعوامل تحقيق التوازن بين الحاجات المادية والمعنوية، الروح والجسد، المصلحة الفردية والجماعية، الدولة والمجتمع، الداخل والخارج.
وهكذا تكون الهوية هي صانعة التضامن بين أبناء المجتمع، وبها يسعى أبناء المجتمع جميعا إلى تحصيل الكمالات الإنسانية، والدخول في غمار منافسة الأمم والشعوب، على بلوغ سبل العلم والمدنية والحضارة. وإن أفول نجم الهوية أو التخلي عنها يورث المجتمع نمطا من التقليد الأعمى لشعوب العالم وطرائقهم في الحياة. وكتب «إدريس شرايبي» تصويرا رائعا إلى هذه الحالة يقول فيها: تصور أن زنجيا أبيض بين ليلة وضحاها، ولكن بقى أنفه أسود، بسبب إهمال القدر. كنت أرتدي سترة وبنطالا، وفي قدمي زوج من الجوارب وقميص وحزام على الخصر ومنديل في جيبي. كنت فخورا، كنت مثل أوروبي صغير، ولكني وجدت نفسي مضحكا عندما وقفت بين أصدقائي، ولقد كنت مضحكا فعلا". فالمنظور الذي ينبغي أن ننظر من خلاله إلى مسألة الهوية، ليس بوصفها معادلا موضوعيا للتقليدية والماضوية، كما أن الحداثة ليست معادلا موضوعيا للغرب والنموذج الحداثي الأوروبي. إننا ينبغي أن ننظر إلى الهوية، بوصفها تنمية سريعة ومتينة لكل طاقات الأمة في سبيل البناء والتطور.
بمعنى أن خيارات النهوض الثقافي والحضاري، وتجاوز المآزق الراهنة التي تعاني منها الأمة، لا تتم إلا على قاعدة انسجام هذه الخيارات مع هوية الأمة ومعادلتها الذاتية، أو منبثقة من مضمون الهوية والذات الحضارية. ودائما حسن العلاقة مع الهوية بمكوناتها الأصلية، كفيل بأن يعيد للأمة حيويتها الحضارية، ويقوي من إمكانات قيامها بدورها التاريخي تجاه العالم.
ويكفي أمتنا عشرات السنين وضخامة الإمكانات والطاقات التي بذلت في سبيل النهوض اعتمادا على خيارات ومشاريع نهضوية ليست منسجمة وهوية الأمة. فكانت المحصلة النهائية لكل تلك الخيارات والمشاريع، هي المزيد من التراجع الحضاري واستفحال المآزق الداخلية، بحيث أن الأمة أصبحت مكبلة بمجموعة من القيود الداخلية والخارجية التي تمنع على المستويين النظري والعملي من انطلاقة الأمة حضاريا.
فالتطور العلمي والتكنولوجي الهائل، الذي أسقط الحدود وأوصل مناطق العالم ببعضها البعض حتى أضحى ”قرية كبيرة“ حسب تعبير «ماك لوهان»، والتوسع المعلوماتي الهائل، كل هذه التطورات قد تجرف الإنسان إلى مهاو سحيقة، أو في أحسن التقادير تحوله إلى لاهث وراء الجديد من التكنولوجيا وصناعة المعلومات.
لهذا فإن القاعدة الأساسية للتعامل مع هذه التطورات، هي تأسيس حالة من التوازن المجتمعي، حتى يتمكن المجتمع من ملاحقة التطورات دون إضاعة الذات.
ولاشك أن تأسيس عملية التوازن المجتمعي، لا تتم إلا على قاعدة الهوية وتفعيل عناصرها في الوجود الاجتماعي الشامل. وهذا لا يعني أن الهوية التي نطالب بإحيائها في الوسط الاجتماعي، تؤدي إلى نظام مغلق، موغل في العزلة والابتعاد عن حركة الحياة.
إننا ندعو إلى التمسك بالنظام الثقافي الذي يتضمن مجموعة من القيم والمبادئ، التي ما أن تمسكنا بها، وعملنا على إحيائها في مسيرتنا، إلا وتشبثنا بأسباب التحضر وعوامل التمدن في مختلف الحقول والمجالات. لأن هذه القيم تستنفذ في الإنسان كل الطاقات والإمكانات لوصل المسيرة التاريخية للأمة. وتجاوز كل عناصر القطيعة مع الأمة حضاريا. ولا شك أن عملية الوصل والاتصال بين راهننا وحضارتنا، تشكل الوعاء الحاضن، والحقل المناسب الذي تنمو فيه كل عمليات التجديد والإبداع الثقافي.
وجماع القول: أن من يطلب هوية واحدة بعيدة عن التنوع، يطلب أمرا مستحيلا في الفطرة والناموس الاجتماعي «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة».
عديدة هي المشروعات الايدولوجية والفكرية والسياسية، التي تعمل وتوجه كل طاقاتها وإمكاناتها، من أجل أنجاز هويتها البسيطة. أي الهوية أو العنوان العام، الذي يشكل ركيزة المشروع الأيدلوجي أو الفكري أو السياسي..
ولم تتوانى هذه المشروعات الشمولية، من استخدام القوة والقهر، لتعميم أيديولوجيتها وهويتها، والعمل على إفناء وطمس كل الهويات والعناصر الثقافية والأيدلوجية المغايرة لها.
لهذا نستطيع القول أن هذه المشروعات، بشكل أو بآخر مارست القهر تجاه مكونات مجتمعها، وتوسلت بوسائل السلطة من أجل دحر بعض الخصوصيات، وإبراز وإظهار خصوصيات أخرى. ويبدو أن هذا النهج هو أحد المسئولين الأساسيين عن العديد من الأزمات والتوترات العمودية والأفقية، التي تعاني منها بعض مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وذلك لأنه وبفعل عوامل وأسباب ذاتية وموضوعية عديدة، لا توجد هويات بسيطة في حياة الجماعات البشرية. وإنما جميع الهويات الموجودة، والتي تعرف الجماعات الإنسانية نفسها، هي هويات مركبة.. بمعنى أنها نتيجة روافد وقنوات عديدة، ساهمت في صياغة الوضع أو الصورة الثقافية والأيدلوجية الراهنة لكل الأفراد والجماعات البشرية.
فالعلاقة بين الأنا والآخر، ليس بهذه الحدية والقطعية التي يتصورها أصحاب الرؤى الشمولية والمشروعات الأيدلوجية ذات الطابع المانوي إما مع أو ضد. فبعض الآخر الثقافي والاجتماعي هو من الذات الثقافية والاجتماعية، كما أن بعض الذات الثقافية والاجتماعية، هي من الآخر الثقافي والاجتماعي. وبهذه العملية تتداخل القنوات والرافد، وتصبح كل الهويات العامة للمجموعات البشرية، هي هويات مركبة، اشتركت عوامل ورافد عديدة في صنعها وبلورتها. ومن يبحث عن الهوية الخالصة والصافية، فهو لا يجدها إلا ذهنه ونظرياته الأيدلوجية.
أما الوقائع الإنسانية والاجتماعية، فهي تثبت بشكل لا لبس فيه أن هويات الناس أضحت مركبة. بمعنى التداخل الثقافي والاجتماعي والنفسي بين الأنا بكل مستوياتها، والآخر بكل مستوياته ودوائره. لذلك فإن كل جهد فردي أو مؤسسي، يستهدف الهوية الخالصة، هو جهد تعصبي، لأنه سيعمل على معاداة بعض الجوانب أو المجالات الثقافية أو الاجتماعية الموجودة في الفضاء العام..
والتعصب في أحد وجوهه، يعني كل عمل نظري أو عملي، يستهدف تعميم رؤية أو موقف ويتوسل في سبيل ذلك بوسائل عنفية أو قهرية أو هما معا.
كما أن الشعور بالاستغناء عن الآخرين، أو الاعتقاد أن ما عند الذات أرقى وأصفى مما لدى الآخر، هو يؤسس أيضا لنزعة إصطفائية - طوباوية، لا تنسجم ومقتضيات الوقائع الإنسانية والاجتماعية.
فالنرجسية في النظر إلى الذات وكل مقتضياتها ولوازمها، يقود إلى الشعور بالخصومة والعداوة مع كل ما يحمله الآخر من تاريخ وثقافة وسياقات حضارية واجتماعية. لهذا فإن الموازنة في النظرة بين الذات والآخر، والانفتاح والتواصل مع الآخر، هو الذي يساهم في خروج الناس من أناهم الضيقة والنرجسية، وتدفعهم نحو نسج علاقات إيجابية وسوية مع كل الأطراف المختلفة معه، بكل درجات الاختلاف والتباين. فانتماءات الإنسان المعاصر، ليست بسيطة، وإنما هي مركبة ومتداخلة مع بعضها البعض..
فأغلب الأفراد اليوم إن لم يكن كلهم، يحتضنوا في عقولهم ونفوسهم مجموعة دوائر من الانتماء والروافد التي تغدي نفسه وعقله في آن..
لهذا فإن قسر الناس على دائرة واحدة، أو شكل واحد للهوية، يفضي إلى تشبث هؤلاء الناس بكل خصوصياتهم ودوائر انتماءاتهم المتعددة وعناصر هويتهم المركبة.
ولعل عملية القسر والقهر على هذا الصعيد، هي التي تؤسس للكثير من عناصر التأزم والتوتر في مجالنا العربي والإسلامي. ولقد أجاد الأديب الفرانكفوني «أمين معلوف» في كتابه «الهويات القاتلة» في بيان هذه الحقيقة. فالتعامل التعسفي والقهري مع الروافد المتعددة لهوية الإنسان فردا وجماعة، هو الذي يحول في المحصلة النهائية هذه الهوية، إلى هوية قاتلة. إذ يقول [تتكون هوية كل من الأفراد من مجموعة كبيرة من العناصر لا تقتصر بالطبع على تلك المدونة على السجلات الرسمية فبالنسبة إلى الغالبية العظمي هنالك الانتماء إلى دين أو جنسية وأحيانا إلى جنسيتين، أو إلى مجموعة أثنية أو لغوية، إلى عائلة ضيقة أو موسعة، إلى مهنة أو مؤسسة كما إلى بيئة اجتماعية. لكن اللائحة قد تطول أيضا ويمكن الافتراض أنها لا تقف عند حد إذ يمكن الشعور بانتماء نسبي إلى مقاطعة أو قرية أو حي، إلى عشيرة أو فريق رياضي ومهني أو زمرة من الأصدقاء، إلى نقابة أو شركة أو جمعية أو أبرشية. وإلى رابطة من الأشخاص تجمعهم أهواء مشتركة. بالطبع إن هذه الانتماءات ليست على درجة متساوية من الأهمية، في الوقت نفسه على الأقل. لكن لا يمكن إغفال أي منها إغفالا تاما فهي العناصر المكونة للشخصية أو ما يمكن تسميته «جينات النفس» شرط التأكيد أن أغلبها ليس غريزيا].
وطبيعة العلاقة مع هذه العناصر من قبل الواقع الخارجي أي المحيط بكل دوائره، هو الذي يحدد نوعية العلاقة التي تربط الإنسان بعناصر هويته المتعددة.
فإذا كانت علاقة صادمة، ومتعسفة، وقهرية، فإن هذا الإنسان سيندفع عقليا ونفسيا للتمسك التام بتلك العناصر المستهدفة.
أما إذا كانت العلاقة مرنة، ومتسامحة، ومتفاهمة، فإن هذا الإنسان سيعمل على ترتيب علاقة إيجابية وحيوية ومثمرة مع كل عناصر هويته.
والتوترات الدينية أو المذهبية أو القومية أو العرقية، هي في أحد جوانبها وليدة السعي التعسفي في التعامل مع بعض روافد أو دوائر انتماء الإنسان فردا وجماعة. من هنا فإن المطلوب، وذلك من أجل التعايش السلمي بين مختلف المكونات والتعبيرات، والاستقرار السياسي والاجتماعي لأوطاننا ومجتمعاتنا، هو التعامل الايجابي والمنفتح مع كل هذه العناصر والروافد التي تتشكل منها كل هذه المكونات والأطياف..
فالمجتمعات المستقرة سياسيا واجتماعيا، هي تلك المجتمعات، التي تعاملت بمرونة وتسامح مع خصوصيات أطرافها ومكوناتها.. ومن يبحث عن الاستقرار بعيدا عن ذلك، فإنه لن يجني إلا المزيد من الفوضى والاضطراب والتوتر على أكثر من صعيد.. لأنه وببساطة شديدة أن التعسف تجاه خصوصيات الجماعات البشرية، يقود هذه الجماعات إلى الإصرار على الفروقات والتمايزات والاختلافات. وهذه هي النواة الأولى للعديد من صور التوتر والتأزم بين مختلف الأطياف والتعبيرات.
لهذا فإن الخطوة الأولى في مشروع الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي، هي إعادة بناء العلاقة بين الهويات الفرعية على أسس الحوار والاحترام المتبادل، وصولا إلى مبدأ المواطنة الذي يحتضن الجميع، ويجعلهم على حد سواء في كل الحقوق والواجبات..
يبدو لي أن المشهد الثقافي في أي مجتمع، لا يمكن أن يتطور، ويراكم من خبراته، ويزيد من فعالياته ومناشطه المتعددة، بدون تحديد دقيق للمصطلحات المستخدمة.. وذلك لأن الكثير من المفردات والمصطلحات المتداولة، لا يتم التعامل معها بوصفها ذات مضمون موحد ومشترك، مما يؤدي إلى الكثير من الالتباس والتعمية المعرفية والاجتماعية..
فحينما نتحدث عن الديمقراطية مثلا، فإننا نتحدث عن هذا المفهوم دون أن نحدد مضمونه. وكل الأطراف والأطياف، تستخدم هذا المفهوم وغيره، وكل طرف يحمل معنى ومضمونا مختلفا ومغايرا عن هذا المصطلح أو المفهوم. لذلك فإننا نعتقد أن حجر الزاوية في تنشيط وتفعيل الحياة الثقافية والمعرفية في أي مجتمع، هو في العمل وبذل الجهد العلمي والمعرفي لتحديد المعنى الدقيق لكل المفاهيم المتداولة والمصطلحات السائدة..
ولعل من أهم هذه المفاهيم، والتي يتم تداولها بكثرة هذه الأيام، هو مفهوم الاعتدال.. وكل طرف أو كاتب ينادي بالاعتدال، ويعتبره هو طوق النجاة من العديد من الفتن والمشاكل، ولكن ما معنى الاعتدال وما هي محدداته، فإن القليل من الجهود التي تبذل لبلورة مضمون هذا المفهوم..
فالاعتدال ليس مفهوما شكلانيا، حتى نعتبره، هو النقطة الوسطى بين رذيلتين، وإنما هو من المفاهيم الفكرية والسياسية العميقة، التي تتجاوز المعنى المتداول للوسطية..
وذلك لأن جميع المجتمعات الإنسانية قاطبة، تعتقد وبشكل عميق، أن القيم والمبادئ التي تحملها، هي القيم والمبادئ الإنسانية - الطبيعية، والتي تقف بشكل دقيق بين رذيلتين.. فكل المجتمعات ترفض الغلو والتنطع في الدين والتطرف في الالتزام بمقتضيات القيم.
كما أنه في المقابل، كل المجتمعات على الصعيد النظري، ترفض الانسلاخ من الثوابت والتفلت من القيم الذاتية العليا..
فكل المجتمعات بصرف النظر عن دينها وأيدلوجيتها، تنظر إلى ذاتها، بوصفها هي التجسيد العملي لمفهوم الاعتدال والوسطية..
وكل هذه المجتمعات على الصعيد العملي، تختلف مع بعضها على مستوى التزام هذه المجتمعات بمقتضيات الاعتدال ومتطلبات الوسطية. وبهذا يتحول هذا المفهوم، إلى مفهوم سائل غير محدد المعالم. فالإنسان ينظر إلى ذاته بوصفه معتدلا، والآخر ينظر إليه بوصفه متنطعا وبعيدا عن مقتضيات ومحددات هذا المفهوم والعكس..
لهذا فإننا من الضروري أن نعمل على بيان وتوضيح محددات الاعتدال.. وذلك لأن هذا المفهوم ليس أيدلوجيا أو عقيدة متكاملة، وإنما هو رؤية معرفية وثقافية وسياسية، تحدد معنى ومضمون هذا المفهوم.. لذلك فإن السؤال الملح في هذا السياق هو: ما هي محددات مفهوم الاعتدال، بصرف النظر عن الأيدلوجية التي تقف خلف هذا المفهوم. لأن كل أيدلوجية تدعي لنفسها أنها الوحيدة القابضة على حقيقة الاعتدال ومعناه الحقيقي والعميق لهذا كله فإننا نعتبر أن محددات الاعتدال هي النقاط التالية:
1 - القبول بحقيقة التعددية والتنوع في الاجتماع الإنساني:
لعل من أهم المحددات التي تحدد بدقه معنى الاعتدال، وحدوده المعرفية والاجتماعية والسياسية، هو مدى القبول والانسجام مع حقيقة التعددية الموجودة في المجتمعات الإنسانية بكل مستوياتها ودوائرها.
لا يمكن أن يكون الإنسان معتدلا، وهو يرفض هذه الحقيقة، أو لا يلتزم بمقتضياتها ولوازمها.. فكل الناس يدعون لأنفسهم، أنهم هم الوحيدون الذين على الجادة، وهم الوحيدون المتمسكون بأهداب الفضائل كلها، ولكن ما الدليل العملي على هذا الادعاء، لا شيء..
إننا نعتقد أن المعنى الدقيق والمعرفي للاعتدال، ليس هو الذي يفسر هذه القيمة بوصفها القيمة الخيرة التي تقف في الوسط بين رذيلتين وهما الغلو والتشدد من جهة، ومن جهة أخرى الانسلاخ والاستلاب القيمي والمعرفي. فالاعتدال يعني: الموقف المعرفي الأخلاقي، الذي يعترف بحقيقة التعدد، ويتعامل مع قيمة التنوع بوصفها من القيم الخالدة، التي لا يمكن محاربتها أو العمل على استئصالها..
وكل إنسان يحارب هذه القيمة والحقيقة، هو إنسان غير معتدل، حتى وإن ادعى ذلك.. المعتدل حقا هو الذي يتعامل بعقلية حضارية ورؤية متسامحة مع حقيقة التعدد بكل مستوياتها..
وإننا نعتقد أن القبول بهذه الحقيقة الإنسانية الخالدة، هو من أهم محددات مفهوم الاعتدال..
وعليه فإن كل فرد أو مجتمع، يحترم هذه الحقيقة، ويتعامل معها بعقلية حضارية، هو إنسان ومجتمع معتدل بصرف النظر عن دينه أو أيدلوجيته. وعلى هذا المقياس قد يكون المعتدل مسلما وقد لا يكون. فالعبرة في تقديرنا هو في مدى التزام الإنسان فردا وجماعة بالقبول بحقيقة التعددية والالتزام بكل لوازمها ومقتضياتها..
2 - احترام الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية:
هل يمكن أن يكون الإنسان معتدلا، وهو ينتهك حقوق الإنسان، ويتعدى على مقدساتهم وخصوصياتهم ولوازمهم الإنسانية.
إننا نعتقد أنه لا يمكن للإنسان أن يصبح معتدلا، بدون احترام الإنسان بصرف النظر عن دينه وعقيدته وصيانة حقوقه الأساسية. فالاختلاف في الدين والعقيدة، لا يشرع للإنسان مهما علا شأنه، أن ينتهك حقوق المختلف معه أو يتعدى على خصوصياته.
بل إن هذا الاختلاف يلزم الإنسان أخلاقيا ودينيا، إلى المبالغة في احترام الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية..
[فالناس صنفان إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق] ولا يجوز بأي نحو من الأنحاء التعدي على حقوقه أو عدم احترام آدميته وإنسانيته..
وعليه فإن كل المشروعات الأيدلوجية والفكرية، التي تسوغ لنفسها التعدي على حقوق المختلفين معها، هي مشروعات متطرفة حتى وإن ادعت الاعتدال.. فالعبرة دائما بالسلوك العملي ومستوى الالتزام الفعلي باحترام الإنسان وصيانة حقوقه الأساسية.
ولا يمكن صيانة حقوق الإنسان، بدون وجود رؤية متكاملة لهذه الحقوق، وكيفية حمايتها وصيانتها، وتوفر إرادة مجتمعية متكاملة، لتحويل تلك الرؤية إلى واقع حي على صعد الحياة المختلفة.. فالمجتمع المعتدل والوسطي، هو الذي يحترم ويصون حقوق الإنسان، ويعمل عبر مؤسساته المختلفة الرسمية والأهلية، لتوفير كل الأسباب والشروط المفضية للإعلاء من شأن الإنسان وجودا وحقوقا.
3 - الانفتاح والتواصل مع الثقافات الإنسانية:
لعل الجذر الثقافي والمعرفي لمفهوم الاعتدال، هو نسبية الثقافة والحقيقة. وإنه لا يوجد إنسان على وجه هذه البسيطة، يمتلك كل الحقيقة، وإنما هو يمتلك بعضها، والبقية موزعة على بقية الخلق. ونسبية الحقيقة والثقافة، ينبغي أن لا تقود إلى الانكفاء والتقوقع، والشعور الوهمي بالامتلاء، وإنما من الضروري، أن تقود إلى الانفتاح والتواصل مع الآخرين. فلكون الحقيقة موزعة بين البشر، فلا مناص من الانفتاح والتواصل مع الآخرين، لأن هذا التواصل والانفتاح، هو التعبير الطبيعي، للاستفادة من معارف الآخرين وثقافاتهم.
وعليه فإن الاعتدال الثقافي والسياسي والاجتماعي، لا يساوي الانعزال والانكفاء والاستغناء عن الآخرين وإنما هو يعني التفاعل مع الآخرين، والانفتاح على ثقافاتهم والتواصل مع معارفهم.
فالانكفاء على الذات ليس من مقتضيات الاعتدال والوسطية. كما أن تضخيم الذات والنظر إليها بفوقية ونرجسية ليس من لوازم الوسطية.. إن الاعتدال كمفهوم معرفي وثقافي يفتح الباب واسعا للانفتاح والتفاعل الخلاق مع كل الثقافات الإنسانية..
ولا سيادة حقيقية لمفهوم الاعتدال في أي مجتمع من المجتمعات، بدون هذه المحددات. فهي جوهر هذا المفهوم ومضمونه الحقيقي. وبدونها تكون كل الوقائع انحباس على الذات لا مبرر له، أو هروب من تحديات الحاضر إلى كهف الماضي والأمجاد التاريخية.
فجوهر الاعتدال في المجتمع والثقافة والسياسة، هو القبول بحقيقة التعددية، والتفاعل الإيجابي مع مقتضياتها ومتطلباتها. واحترام الإنسان بوصفه إنسانا، بصرف النظر عن منبته الديني أو عرقه أو قوميته..
فالإنسان محترم لذاته، إذ يقول تبارك وتعالى [ولقد كرمنا بني آدم] ومقتضى التكريم الرباني، هو صيانة وحماية حقوقه الخاصة والعامة.
وهكذا يتحول مفهوم الاعتدال، من مفهوم شكلي - تبريري، إلى مفهوم حضاري، لا يلغي التدافع بين الناس، ولا التنافس بين المجتمعات، وإنما يوفر الأرضية الضرورية والمناخ المؤاتي لانطلاق المجتمع بكل أطيافه وتعبيراته، لاجتراح فرادته، وبناء تجربته المفتوحة والمتفاعلة مع المنجز الحضاري والثقافي الإنساني..
ليس سرا من الأسرار، حين القول أن مجتمعنا كبقية المجتمعات الإنسانية، يحتوي تعدديات وتنوعات عديدة. وإن هذه التعدديات إذا أحسن التعامل معها، تتحول إلى مصدر إثراء وحيوية لمجتمعنا ووطننا.. وإن وجود هذه الحقيقة في أي مجتمع إنساني، ليس عيبا يجب إخفاؤه، أو خطئا ينبغي تصحيحه، وإنما هو جزء طبيعي من حياة المجتمعات الإنسانية، بل هو أحد نواميس الوجود الإنساني.. فالأصل في المجتمعات الإنسانية، إنها مجتمعات متعددة ومتنوعة. وإن شقاء المجتمعات لا ينبع من وجود هذه الحقيقة، وإنما من العجز عن صياغة أنظمة اجتماعية وثقافية وسياسية وقانونية، قادرة على إدارة هذه الحقيقة بدون افتئات وتعسف. وعليه فإن أي محاولة لطمس هذه الحقيقة، أو التعدي عليها، هو إضرار باستقرار المجتمع، وإدخال الجميع في أتون المماحكات والسجالات التي تضر بالأمن الاجتماعي والسياسي..
وقبولنا بحقيقة التعددية، لا يعني أن المطلوب هو أن تتطابق وجهات النظر والرؤية في كل شيء. فمن حق أي طرف ديني أو مذهبي أو قومي، أن يختلف في رؤيته عن الطرف الآخر، ولكنه الاختلاف الذي لا يقود إلى الإساءة أو التعدي على الخصوصيات والرموز. من هنا فإننا ندعو جميع تعبيرات المجتمع واطيافة المختلفة، للعمل على صياغة ميثاق وطني متكامل، يقر بحقيقة التنوع والتعددية، ويثبت مبدأ الاحترام المتبادل على مستوى الوجود والرأي والرموز.. فليس مطلوبا كنا جميعا، من مختلف مواقعنا الدينية أو المذهبية أو الفكرية، أن تتحد نظرتنا إلى كل القضايا والأمور أو تتطابق وجهات نظرنا في كل أحداث التاريخ أو شخوصه. ولكن المطلوب منا جميعا هو أن نحترم قناعات بعضنا البعض، وإن لا نسمح لأنفسنا بأن نمارس الإساءة لقناعات أو أفكار الأطراف الأخرى.
إننا نرفض نهج السب والشتيمة وإطلاق الأحكام القيمية الجاهزة.. وإننا نعترف باختلافنا الفكري أو تعددنا الديني أو المذهبي، ولكن هذا الاعتراف يلزمنا صيانة حق الإنسان الآخر في الاعتقاد والانتماء. فالتعددية بكل مستوياتها، لا يمكن أن تدار على نحو ايجابي، إلا بمبدأ الاحترام المتبادل. بمعنى أن من حق أي إنسان، أن يعتز بقناعاته الذاتية، ولكن ينبغي أن لا يقوده هذا الاعتزاز إلى الإساءة إلى الآخرين. فبمقدار اعتزازه بذاته وقناعاتها، بذات القدر ينبغي أن يحترم قناعات المختلف واعتزازاته.
وبهذه الكيفية نخرج طبيعية العلاقة بين المختلفين من دائرة السجال والاتهام وسوء الظن والبحث عن المثالب والقراءات النمطية، إلى دائرة العلاقة الإنسانية والموضوعية، القائمة على الاعتراف بحق الجميع بالاختلاف وضرورات الاحترام المتبادل بكل صوره وأشكاله..
وفي سياق العمل على ضبط حقيقة التعددية بكل مستوياتها بمبدأ الاحترام المتبادل، أود التطرق إلى النقاط التالية:
1 - إن كل الناس على وجه هذه البسيطة، يعشوا انتماءات متعددة، وإن العنصر الحيوي الذي يؤدي إلى تكامل هذه الانتماءات بدل تناقضها أو تضادها، هو الاحترام المتبادل..
فكل الناس ينتموا إلى عوائل وعشائر وقوميات وأديان ومذاهب، وبإمكان كل هذه الدوائر في حياة الأفراد والجماعات، أن تكون متكاملة ولا تناقض بينها. والبوابة الحقيقية لهذا هو الالتزام بمقتضيات الاحترام المتبادل. بحيث يحترم كل واحد منا دين الآخر أو مذهبة، كما يحترم عائلته أو عشيرته أو قبيلته. واعتزاز الناس بدوائر انتماءهم، لا يعني الإساءة إلى انتماءات الآخرين بكل دوائرها ومستوياتها. فالتناقض بين هذه الانتماءات، ليس تناقضا ذاتيا وإنما عرضيا. بمعنى حين تغيب قيمة الاحترام المتبادل، تنمو الوقائع والمناخات المضادة لتكامل دوائر الانتماء. أما إذا أساد الاحترام المتبادل، فإن تكامل هذه الدوائر، يضحى طبيعيا ومثمرا.
فاعتزاز بالدين أو العائلة أو أية دائرة من دوائر الانتماء الطبيعية في حياة الإنسان، ليس جريمة، ما دام لا يؤدي إلى رفض المشترك أو تجاوز مقتضيات الاحترام المتبادل..
فالعرب جميعا اليوم، ينتمون إلى أوطان متعددة، وبيئات اجتماعية مختلفة، وتجمعات إقليمية متنوعة، إلا أنهم جميعا يعتزوا بعروبتهم وبكل عناصرهم المشتركة..
ولا يرى المواطن العربي سواء في المشرق أو المغرب، أي تناقض بين اعتزازه بوطنه ومنطقته، وبين اعتزازه بعروبته وقوميته.
وما يصح على المواطن العربي على الصعيد القومي، يصح عليه في مختلف دوائر الانتماء...
2 - نعيش جميعا ولاعتبارات عديدة، لحظة تاريخية حساسة، يمكن أن نطلق عليها لحظة انفجاريات الهويات الفرعية في حياة الناس والمجتمعات. وهذه اللحظة إذا لم يتم التعامل معها بحكمة وعقلية تسووية، فإنها تنذر بالكثير من المخاطر والتحديات.
لذلك فإن تعزيز خيار الاحترام المتبادل، بين مختلف الانتماءات والتعدديات، سيساهم في ضبط تداعيات ومتواليات انفجار الهويات الفرعية. بمعنى إن غياب الاحترام المتبادل، أو التعامل مع هويات الناس والمجتمعات الفرعية بعقلية الإقصاء والاستفزاز والتحقير، سيؤدي إلى المزيد من التشظي والتوترات الاجتماعية والسياسية والأمنية، ولا يمكن وقف هذا الانحدار إلا بتعزيز خيار الاحترام المتبادل بكل حقائقه ومقتضياته ومتطلباته.
فليس مطلوبا على الصعيد الاجتماعي والوطني، أن ينحبس الناس في هوياتهم الفرعية، لأن هذه الانحباس والتوتر المترتب عليه، يقود إلى المزيد من الأزمات. لذلك فإن المطلوب هو التعامل بوعي وحضارية مع هويات الناس الفرعية. بحيث تتوفر لجميع المواطنين الأقنية المناسبة والأطر القادرة لاستيعابهم وإزالة الالتباسات والهواجس، حتى لا يتم التعامل مع هذه الهويات بوصفها أطر نهائية، لا يمكن التحرر منها..
3 - إن مقولة الاحترام المتبادل تتضمن الموقف الايجابي من الآخر المختلف والمغاير والكلمة الطيبة وعدم الاكتفاء بأدنى الفهم فها يتعلق والرؤية ومعرفة الآخر وسن القوانين الناظمة للعلاقة بين مختلف التعدديات. فنحن حينما نتحدث عدم الاحترام المتبادل، لا نتحدث فقط عن الجوانب الأخلاقية، وإنما نحن نتحدث عن كل مقتضيات الاحترام المتبادل سواء على صعيد السلوك الشخصي أو الرؤية الثقافية والاجتماعية والالتزام السياسي والحماية القانونية. إننا نتحدث عن ضرورة حماية حقيقة التعددية بكل مستوياتها في مجتمعنا من خلال بوابة الاحترام المتبادل.
وجماع القول: إننا نعتقد إنه لكي لا تتحول هذه الحقيقة المجتمعية، إلى مصدر للتوتر والأزمات، نحن بحاجة إلى تعزيز خيار الاحترام المتبادل، حتى نتمكن من صيانة تنوعنا والمحافظة على استقرارنا الاجتماعي والسياسي.
في إطار العلاقة الداخلية بين المسلمين، بمختلف مذاهبهم ومدارسهم الفقهية والفلسفية والفكرية، ثمة مشاكل وعقبات عديدة، تحول دون تطوير هذه العلاقة، وإيصالها إلى مصاف العلاقات المتميزة على كل الأصعدة والمستويات..
ففي كل البلدان العربية والإسلامية، حيث تتواجد المذاهب الإسلامية المختلفة، والمدارس الفقهية المتعددة، هناك مشاكل وحساسيات، تعرقل مشروع التفاهم والتعاون والوحدة بين المسلمين..
مما يجعل الجفاء والتشرذم وسوء الظن وغياب التواصل الحيوي والفعال، هو سمة العلاقة الداخلية بين المسلمين في كل البلدان والمناطق.. وأقول وأدون هذا الكلام، ليس من أجل جلد الذات، أو تبرير وتسويغ الواقع القائم، وإنما من أجل التفكير في بناء مقاربة ورؤية جديدة، تساهم في تطوير العلاقة الداخلية بين المسلمين..
فليس قدرنا أن نعيش متباعدين ومتجافين، كما أن مشاكلنا سواء التاريخية أو الراهنة، ليست مستحيلة المعالجة. وإنما نحن نحتاج إلى وعي جديد وإرادة مجتمعية جديدة، تعطي الأولوية لإصلاح حقل العلاقات الإسلامية الداخلية. لأننا نعتقد أن الكثير من المشاكل والأزمات الداخلية في كل بلداننا ومناطقنا، لا يمكن التغلب عليها، بدون ترتيب البيت الداخلي للمسلمين.. فتوزع المسلمين بين مذاهب ومدارس فقهية متعددة، ليس مبررا لاستمرار القطيعة والتباعد، كما أن وجود آراء وقناعات مختلفة بين المسلمين، لا يشرع لأي طرف إعلان الخصومة والعداوة بين المسلمين..
فالباري عز وجل يقرر في كتابه الحكيم، أن طبيعة العلاقة الداخلية بين المسلمين بمختلف ألوانهم ومناطقهم ومدارسهم هو الرحمة. امتثالا لقوله تعالى [رحماء بينهم]..
فالمطلوب هو أن تكون قيمة الرحمة، هي السائدة والحاكمة في علاقة المسلمين مع بعضهم البعض. والاختلافات المذهبية أو الفكرية أو القومية بين المسلمين، ليست مبررا لتجاوز مقتضيات الرحمة..
وما يجري اليوم في العديد من البلدان بين المسلمين سنة وشيعة، حيث القتل المجاني وحروب الإلغاء والتمييز والتكفير والتضليل، لا تنسجم والدعوة القرآنية إلى أن تكون العلاقة بين المسلمين تجسيدا واقعيا لقيمة [رحماء بينهم]..
فليس من الرحمة قتل المختلف معك مذهبيا أو الإساءة إلى معتقداته ومقدساته، أو التعدي على حقوقه المادية والمعنوية.
إن مقتضى الرحمة هو حماية المختلف والاعتراف في حقه في الوجود والتعبير واحترام رموزه ومقدساته.
فلا يليق بأي إنسان مسلم، أن يسيء إلى أخيه المسلم، أو ينتهك حقوقه ومقدساته، مهما كانت حجم الاختلافات والتباينات..
فالاختلافات بكل مستوياتها، لا تشرع لأحد إطلاق الأحكام جزافا، أو امتهان كرامات الناس، وإنما هي تشرع لضرورة الحوار والتواصل والبحث العلمي والموضوعي في الآراء والقناعات بعيدا عن الآراء والمواقف المنمطة السابقة..
وفي سياق ضرورة العمل لتنقية الأجواء الإسلامية الداخلية، من كل الأشياء التي تعكر صفو العلاقة الإيجابية، أود التأكيد على النقاط التالية:
1 - إننا كمسلمين بمختلف مذاهبنا ومدارسنا، لا يمكن أن نعيد عقارب الساعة للوراء. وأحداث التاريخ وتطوراته المختلفة، لا يمكن إعادتها مجددا، لهذا فإن إحياء هذه المشاكل، يفاقم من أزمات العلاقة الراهنة. والمطلوب من الجميع هو بلورة وعي جديد من أحداث التاريخ.
وقوام الوعي الجديد هو قراءة أحداث التاريخ قراءة علمية وموضوعية، مع احترام تام لكل الرموز التاريخية للمسلمين. فوجود تقييمات تاريخية مختلفة بين المسلمين، لا يشرع لأي طرف الإساءة إلى رموز الطرف الآخر ومقدساته. لهذا فإننا نرفض ولاعتبارات دينية وأخلاقية وإنسانية، نهج الشتائم والسب، ونعتقد أن هذا النهج لا ينسجم وأخلاق الإسلام ومثله العليا، كما أنه لا يتناغم ومقتضيات الأخوة والشراكة.
2 - في تقديرنا أن التعايش هو مصيرنا كعرب ومسلمين. وإن علينا أن نفتح عقولنا وكياننا على آفاق هذه العملية، ليست لأنها تنسجم وقيم الإسلام فحسب، بل لأنها تفاعل وانفتاح على المصير.
وهذا يعني أن نخرج من التناحر والاقتتال، وأوهام التميز والفرادة. ونعلن بعقل ناضج ضرورة تجاوز معاناتنا الطويلة، بالوعي الكامل لتحديات راهننا وآمال مستقبلنا. فالتعايش الاجتماعي جهد متواصل ضد اللامقبول على مختلف الصعد والمستويات. وقوامه تسالم الإرادات الوطنية، وانصهار مصالحها في الكيان الاجتماعي الوطني..
3 - إن البداية الفعلية للتغلب، على الكثير من النوازع والغرائز، التي تميز وتفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتزرع الشقاق، وتؤكد الخصام، هو طغيان حب الذات وتضخيمها بحيث لا يرى الإنسان إلا ذاته ومصالحها..
أما التوجيهات الإسلامية، فتؤكد على ضرورة أن يتم التعامل مع الآخرين، وفق القاعدة النفسية والاجتماعية، الذي يحب الإنسان نفسه، أن يعامل وينظر إليه من خلالها. ف «ما كرهته لنفسك فاكره لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلا في حكمك، مقسطا في عدلك».
من منا لا يحب أن يحترمه الآخرون، ويتعاملون معه بإنسانية راقية، وأخلاق حضارية. من منا لا يشعر بالاشمئزاز، حينما لا تكون علاقة الآخرين معه سوية وسليمة، وذلك لدواعي ليست من كسبه.
إن بوابة تصحيح كل هذا الاعوجاج، يبدأ بتعاملي مع الآخرين. فإن مساواة الآخر مع الذات هو الذي يخلق النسيج الاجتماعي المتداخل والمتواصل والمنسجم في حركته وعلاقاته المتعددة..
ولا شك أن مساواة الآخر مع الذات، سيعلي من شأن القيم المشتركة، وسيجعلها حاضرة باستمرار في الوسط الاجتماعي. كما أنها تزيد من حالة الإحساس بالمسؤولية المشتركة تجاه بعضنا البعض. وكل هذه العناصر ضرورية لبناء سلم اجتماعي متراص ومستديم..
4 - إن صياغة العلاقة بين مختلف المذاهب الإسلامية، على أسس جديدة، يتطلب من جميع الأطراف العمل الجاد لتفكيك الصور النمطية القائمة بين أتباع المذاهب الإسلامية تجاه بعضهم البعض.. حيث أن الصور النمطية السائدة، هي التي تعمق الحواجز النفسية بين المسلمين، وهي التي تحول دون تطوير مستوى التفاهم والتعاون بين أتباع المذاهب الإسلامية..
فالمذاهب الإسلامية ليست رأيا واحدا، أو حزبا واحدا، وإنما هي مجموعة من الاجتهادات والآراء، التي تعتمد على قيم وثوابت عليا محددة. وإن مستوى التباين على صعيد هذه القيم والثوابت العليا بين المذاهب الإسلامية محدود وضئيل.. كما أن سنة اليوم كمجتمع وحراك ثقافي واجتماعي، ليست كسنة الأمس.. وشيعة اليوم على الصعيد ذاته، ليست كشيعة الأمس.. والتعامل مع هذه العناوين وكأنها أقانيم ثابتة ونهائية، ولا يصيبها التغير والتحول، هو الذي يعمق الفجوات بين المسلمين..
لهذا كله فإننا نعتقد أن تطوير العلاقات الداخلية بين المسلمين، يتطلب العمل على تفكيك الصور النمطية المتبادلة بين المسلمين، وصياغة العلاقة على أسس الراهن وقناعات المعاصرين بعيدا عن إرث التاريخ وحقب الصدام الأعمى...
تتعدد انتماءات الإنسان وميولاته والتزاماته الأيدلوجية والفكرية والسياسية. حيث إننا من الصعوبة بمكان على المستوى الإنساني أن نجد كتلة بشرية متجانسة في كل شيء.. فإذا كانت هذه الكتلة البشرية متجانسة دينيا، فهي متعددة مذهبيا، وإذا كانت متجانسة مذهبيا، فهي متعددة عرقيا أو قوميا، وإذا كانت متجانسة عرقيا أو قوميا، فهي متعددة دينيا أو مذهبيا أو مناطقيا..
فعلى كل حال فإن التعدد والتنوع من لوازم الحياة الإنسانية. ولا يمكن أن نحصل على حياة اجتماعية واحدة متجانسة في كل شيء..
وعدم التجانس في بعض دوائر الانتماء والحياة، لا يعني أن تسود حالات الجفاء والتباعد بين الناس، وإنما على العكس من ذلك تماما. فإن تعدد دوائر انتماءهم ينبغي أن يقودهم إلى الحوار والتواصل وتنمية المشتركات. فالناس جميعا بصرف النظر عن منابتهم الأيدلوجية، يعتزوا بخصوصياتهم الذاتية، ولكن هذا الاعتزاز ليس استغناء عن الآخرين أو الخصومة معهم أو الانغلاق والانكفاء في الدوائر الخاصة. فالحكمة الربانية اقتضت لاعتبارات عديدة، أن نكون متعددين ومتنوعين في دوائر وأنحاء مختلفة، ولكن هذا التنوع ليس من أجل الانغلاق والانطواء، أو الخصومة والعداء، وإنما من أجل التعارف الذي يقود إلى البناء والعمران. إذ يقول تبارك وتعالى [يا أيها الناس إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا]..
فالباري عز وجل جعلنا في دوائر متعددة «شعوبا وقبائل ليس من أجل أن نتخاصم ونتعادى ونقتل بعضنا البعض، وإنما من أجل «لتعارفوا» وأول التعارف الاعتراف بحق الوجود والتعبير عن الرأي، وتنمية المشتركات، وتنظيم عناصر وموضوعات الاختلاف والتباين..
فجمالنا الإنساني في تعددنا وتنوعنا، وأية محاولة قسرية لتوحيدنا أو لإلغاء تنوعنا، هي محاولة مناقضة لناموس الخالق عز وجل في هذه الحياة..
والاعتراف بتنوعنا، يحمل الجميع مسؤولية العمل على صيانة وحماية هذا التنوع. ولا حماية لهذا التنوع إلا بالاحترام المتبادل والتواصل المباشر وكسر كل الحواجز التي تحول دون التضامن والتعاون.. فنحن ينبغي لنا جميعا ومن هذا المنطلق يجب علينا أن نرفض الإساءة إلى بعضنا البعض سواء كانت هذه الإساءة مباشرة أو غير مباشرة. قد تتباين آراؤنا ومواقفنا، ولكن هذا التباين لا يشرع لأحد ممارسة الإساءة. بل على العكس من ذلك تماما حيث أن التباين في الرأي والموقف ينبغي أن يقود إلى الاحترام المتبادل..
كما أن وجود إساءة هنا أو هناك، ينبغي أن لا يدفعنا إلى إطلاق الأحكام والمواقف التعميمية. فالإساءة مرفوضة مهما كان شكلها، وقيام البعض بها، لا يشرع لأحد التعميم أو التشنيع على الكل.. فآفة العدالة التعميم ومن أراد الالتزام بمقتضيات العدالة، فعليه توخي الحذر وعدم الانجرار وراء المواقف والآراء التعميمية، التي تأخذ الجميع بجريرة البعض..
يقول تبارك وتعالى [ولا يجر منكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى]..
فحينما تتباين الآراء وتتعدد المواقف والقناعات والانتماءات، هذا ليس مدعاة لتجاوز حدود
العدالة في التقويم وصناعة الرأي والموقف..
فالانتماءات الفرعية المتعددة، لا تدار بحروب التشنيع المتبادل، ولا تدار بعقلية الاستئصال والتشويه المتبادل. وإنما تدار بالحوار والتواصل والاعذار المتبادل وتنمية المشتركات..
والفكر القانوني والدستوري والحضاري الحديث، أبدع رؤية قانونية متكاملة في ترتيب العلاقات الداخلية بين مكونات وتعبيرات المجتمع الواحد.. وهذه الرؤية تتكثف في مقولة [المواطنة]..
فالانتماءات المتعددة ينبغي أن لا تقود إلى الانطواء والانكفاء، كما أنها ينبغي أن لا تقود إلى الخيارات السياسية والثقافية التي تهدد الاستقرار والأوطان.. وإنما من الضروري أن تقود إلى بناء العلاقة على أسس مشتركة، تتجاوز حدود الهويات الفرعية. وعلى رأس الأسس المشتركة «المواطنة». فهي القاعدة القانونية والسياسية التي تضبط العلاقة بين جميع المواطنين، وهي التي تحدد المسؤوليات وتعين الحقوق والواجبات..
وفي زمن انفجار الهويات الفرعية، لاعتبارات عديدة، من الضروري العمل لإبراز مفهوم المواطنة. فهي «أي المواطنة» هي الحل، التي تنقل الجميع من دائرة الهويات الفرعية، إلى رحاب المواطنة المتساوية والمجتمع والوطن الواحد. وفي سياق تعزيز خيار المواطنة، نود التأكيد على النقاط التالية:
1 - إن الوقائع الطائفية التي تجري اليوم في أكثر من بلد عربي، ليست مدعاة للاصطفافات الطائفية والتمترسات المذهبية، وإنما هي مدعاة للوحدة الوطنية وبناء حقائق الائتلاف والتلاقي بين مختلف التكوينات المذهبية، وخلق الإرادة العامة والجماعية لمعالجة تلك الوقائع الطائفية المقيتة..
فليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية، في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..
فالمشاكل الطائفية والمذهبية في أي بيئة اجتماعية، ينبغي أن لا تقود العلماء والكتاب والمثقفين فليس مطلوبا من النخب الثقافية والعلمية والسياسية، في ظل هذه الظروف الحساسة، التمترس المذهبي والتخندق الطائفي، وإنما المطلوب هو العمل على معالجة كل الوقائع الطائفية، التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..
فالمشاكل الطائفية والمذهبية في أي بيئة اجتماعية، ينبغي أن لا تقود العلماء والكتاب والمثقفين إلى الاصطفافات الطائفية الضيقة، وتزخيمها عبر مقالات وأبحاث تعمق الشرخ في الوطن والمجتمع.. وإنما ينبغي أن ينطلق جميع هؤلاء ومن موقع المسؤولية الدينية والثقافية والوطنية، إلى البحث عن حلول ومعالجات لهذه المشكلة، والعمل على تطويق هذه المشاكل التي تضر الجميع ولا يربح فيها أحدا..
فالتوترات المذهبية اليوم، لا تعالج بالتعبئة الطائفية، ولا بشحن النفوس ضد الآخر المختلف والمغاير المذهبي. وإنما بتعزيز خيار المواطنة، وتشجيع الجميع عبر رؤية متكاملة ومشروع وطني شامل، لجعل المواطنة هي حجر الزاوية في مشروع العلاقات البينية بين جميع المواطنين والمكونات والتعبيرات..
والمواطنة كمشروع حل ومعالجة للتوترات الطائفية والمذهبية في المجال العربي والإسلامي، ليست حلا سحريا وناجزا، وإنما هي البوابة السياسية والحقوقية والثقافية، لا نجاز الوحدة الداخلية في المجتمعات المتعددة دينيا أم مذهبيا أم قوميا وعرقيا.
وحدها المواطنة هي التي تخلق الوحدة بين المكونات المتعددة في الدائرة الوطنية الواحدة.
2 - إن ثقافة الاستئصال والفصل بين مكونات الوطن الواحد، على أسس طائفية ومذهبية، لا يبني استقرارا، ولا يحرر المجتمعات من عقدها وتوتراتها التاريخية والمعاصرة، وإنما يزيد من أوار التوتر ويفاقم من مشكلات المجتمع والوطن.
وأحداث التاريخ تعلمنا أن المجتمع الذي يحتضن تعدديات وتنوعات، لم يبن استقراره بمنهج الاستئصال وبناء الكانتونات المنعزلة، وإنما تم بناء الاستقرار، بثقافة الاستيعاب والمرونة السياسية وتنمية الجوامع المشتركة، وبناء العلاقة على أساس المواطنة الواحدة.
والمنطقة اليوم حيث تكثر فيها العناوين المذهبية، وتتزايد التوترات السنية الشيعية في أكثر من موقع عربي وإسلامي، أحوج ما تكون إلى ثقافة الوصل والاستيعاب، وتفكيك نزعات الغلو والتطرف ومحاولات المفاصلة الشعورية والعملية بين أبناء الوطن الواحد على أسس طائفية ومذهبية.
فالمسألة الطائفية في المنطقة العربية والإسلامية، لا تعالج بالانكفاء والعزلة، ولا تعالج بتويتر الأجواء وخلق الخطابات المتشنجة التي تزيد المشكلة اشتعالا. وإنما تعالج بالوعي والحكمة والإرادة العامة التي تفكك المشكلة، من موقع التعالي عن الاصطفافات الضيقة. فالنخب العلمية والثقافية في المجال العربي، ينبغي أن تكون جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة.
وإننا مهما كان الوضع على هذا الصعيد صعبا ومتوترا، ينبغي أن نستمر في حمل مشعل الوحدة والتفاهم والتلاقي والتسامح والاحترام المتبادل.
ووجود قناعات أو ممارسات سيئة وسلبية من أي طرف، ينبغي أن لا يكون مبررا للتمترس الطائفي، وإنما هو المبرر الحقيقي لضرورة الخروج من هذا السياق الضيق، والعمل على معالجة كل الظواهر السلبية من خلال الحوار والتواصل والنقد البناء..
3 - إن التعصب المذهبي بكل مستوياته، هو أحد العوامل المضادة لمفهوم المواطنة.. بمعنى أن التعصب يحول دون أن تكون المواطنة، هي قاعدة العلاقة، وتكون بدل ذلك العلاقة المذهبية..
لذلك فإن تعزيز خيار المواطنة، يتطلب بناء كتله اجتماعية - معتدلة ووسطية، عابرة للمذاهب ومتجاوزة لكل عناوين الهويات الفرعية بدون هذه الكتلة الاجتماعية، ستبقى العصبية تنخر في جسم المجتمع. وسيهدد التعصب المذهبي الاستقرار الاجتماعي والسياسي للوطن..
فلا يكفي اليوم أن نلعن الطائفية، أو نحذر من التمترس المذهبي، وإنما المطلوب هو العمل على خلق حقائق وطنية واجتماعية مضادة للنزعات الطائفية. ويبقى العمل على خلق الكتلة الاجتماعية المتجاوزة لكل العناوين الخاصة، لصالح العنوان الوطني العام والجامع، هو الجواب عن كل محاولات التخندق الطائفي والمذهبي..
ومهمة هذه الكتلة، هي حمل مشعل الوحدة والمواطنة، وصياغة العلاقة بين مختلف المكونات على أسس المواطنة المتساوية.
بهذه الكيفية تتحول المواطنة كقيمة ومتطلبات ومسؤوليات، إلى حل لكل نزعات التوتر الطائفي بكل مستوياته.
وجماع القول: أن المجتمع الذي يحارب تنوعه، لا يمكنه تظهير هويته. لذلك فإن الشرط الضروري لتظهير الهوية على نحو كامل وايجابي، هو المجتمع الذي يحترم تنوعه ويحميها من كل المخاطر والتحديات.