شهر العافية: 22 - طغيان اللاشعور «و»
بسم الله الرحمن الرحيم -... «29» فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ «30»... - صدق الله العظيم - الروم.
يقول كارل ساگان في كتابه الكوني إن الإنسان يفكر أنه محور الكون «anthropocentric»، ومنها جعل الأرض المركز لكل الأجرام السماوية ولاقت فكرة مركزية الشمس اعتراضات واسعة حتى فقد البعض حياته حرقا بأوامر كنيسية؛ مثل الفقير لله الفيلسوف الإيطالي جيوردانو برونو. ويقول أيضا في كتابه النقطة الزرقاء الباهتة «يقصد الأرض» إن الكنيسة ابتزت الفلكي الإيطالي گاليلو گاليلي وهددت بحرق أمه حية إذا لم يتنازل عن هرطقاته الكفرية. لا يزال البعض وإلى هذا اليوم يعتقد بأن الأرض مسطحة وأنها مركز الكون، كما يظن البعض الآخر أيضا أن العلم مجرد هرطقات تدعو للكفر والإلحاد.
في ذلك يقول ليونارد مْلوديناو إن العلماء والفلاسفة ومنذ العهود القديمة ما فتئوا ينظرون للإنسان بأعجوبة بسبب درجة التعقيد التي وصل إليها، ويستطرد أن البشر ليسوا استثنائيين كما يظنون، وأنهم لا يختلفون كثيرا عن باقي المخلوقات في تركيب أدمغتهم الأولية وإفراز الهرمونات والمركبات. الله سبحانه كرم بني آدم، أي جعل له ميزة، ولكنه في نفس الوقت ذم الذين يزكون أنفسهم. لذلك علينا أن ننظر إلى أنفسنا كخلق كرّمه الله بالعقل ولا ميزة لنا على أحد لأننا إن انزلقنا في هذا الاتجاه، تورطنا وورطنا الآخرين معنا. يقول مْلوديناو أيضا إن الإنسان والبهيمة تحت سيطرة كيمياء الدماغ.
من عاش جيلي أو ما قبله، لحق على المقايضات التي تحصل بين الجيران؛ حليب بقر مقابل بيض دجاج، وهكذا. نحن كنا نهتم بالدجاج وما وعيت على الدنيا إلا وهم معنا في نفس البيت. ربينا مع بعض. كنا نتسلى بالدجاج ونطلق عليهم أسماء وألقاب ونحب المسالم منها ونغضب على العدائي فيها، وكنا إذا أراد الوالد «يرحمه الله» أن يذبح دجاجا للطبخ «سابقا لا وجود لدجاج مثلج أو بقالات تبيعها» نخبئ الديوك التي نحبها «الذكور تذبح والإناث تستحيا». ولكن تلك الدجاجة الخيرة تنقلب إلى وحش كاسر حينما تَرُّكُ على بيضها. وكنا نخاف منها حينها لأنها تنقر بداية ثم تهاجم لاحقا إذا أصررنا على مضايقتها. كل ما يحدث للدجاج سببه فقط تغير كيمياء دماغها لأن الدجاجة أساسا لا تحمل مثل الثدييات. بعيدا عن المقارنة وتَجُّلُ أمهاتنا وأزواجنا وأخواتنا، النساء أيضا تتغير أمزجتهن حين الحمل نظرا لإفرازات جديدة ومختلفة في الجسم لها تأثير مباشر على الدماغ.
هرمون الأوكسيتوسِن «oxytocin» مسؤول عن هذه التغييرات وهو السبب الرئيسي لتقلصات الرحم أثناء الولادة ولتحفيز إدرار الحليب لدى المرضعات ويساهم في الحض على رغبة الأمومة. لهذا الهرمون وظائف أخرى لأن الذكور تفرزه أيضا وهو يساعد في التخالط مع الناس وحب التجمع والجماع. ويطلق على الأوكسيتوسِن ”عقار الحب“. لذلك هناك مشاكل تصاحب الإفراط في إفرازه أو العكس. هناك من يكون جافا لدرجة الجلافة وهناك من يكون حميما لدرجة الملل.
يقول مْلوديناو نحن ليس فقط تحت رحمة مركبات كيميائية لتحديد مسارنا وطبائعنا، نحن أيضا نتبع أنماط لا شعورية نشترك فيها مع الحيوانات. بخصوص ذلك تم إجراء تجربة على أشخاص يريدون طباعة صفحات من بعض الكتب في المكتبات. الباحثون ومساعدوهم ينتظرون أيا كان يأتي ليطبع فيذهبون له ويسألونه إن كان يسمح لهم بالطباعة قبله. 40% رفضوا، ولكن نسبة الرفض قلت إلى 6% فقط من خلال إعطاء سبب، أي سبب، حتى ولو لم يكن منطقيا؛ مثلا، القول إنني أريد فقط أن أطبع. الكل يدري أنك تريد أن تتطبع ولم تعطِ سببا مقنعا، ولكن وبالرغم من ذلك، تفاعل الناس مع هذا السبب البسيط. يخمن العلماء أن السبب في ذلك تركيبة أدمغتنا من ناحية تشبيك العصبونات والإفرازات الكيميائية. لاشعورنا مهيأ لتقبل أي سبب للتنازل والتعاون، حتى وإن لم يكن سببا مقنعا. يقول أيضا إننا نظن أننا متحكمون في مصيرنا، ولكن في الواقع أننا تحت تحكم مسببات لا نستطيع التحكم فيها كما نهوى ونريد، وإن أردنا، ليس بتلك السهولة.
نصحنا رسول الله ﷺ أن نحمل إخواننا على سبعين محمل لأننا واقعا لا نعلم أسباب تصرفاتهم وهل كانت هي تحت إرادتهم أم خارجة عن سيطرتهم. علينا ليس فقط أن نتحمل بعضنا ولكن أيضا بخلق الأسباب والتبريرات لبعض التصرفات، خصوصا في شهر رمضان المبارك حيث تتغير كيمياء الإنسان فيه نظرا للصيام وأمور أخرى. فَلْيَعُد الله علينا وعليكم الشهر الكريم ونحن جميعا بخير نتطلع فيه إلى رحمة الله ورضوانه حيث يكون طريقها أقصر إن حملنا وتحمّلنا غيرنا.
