الإسلام والمجتمع المدني.. مقاربة أولية
عديدة هي النزعات الأيدلوجية والاجتماعية، التي برزت في فضاء العالم والإنسانية، وتستهدف تقليص مساحة ودور الدين في الحياة العامة للإنسان الفرد والجماعة. ومع تراكم هذه النزعات واندفاعها صوب تطبيق قناعاتها وأفكارها ونزعاتها الخاصة بالدين، إلا أن الواقع الإنساني لم يشهد تراجعا لموقع أو دور الدين في الحياة العامة.
والمفارقة الهامة والصارخة في هذا السياق هي: أنه في المجتمعات التي شهدت نزعات راديكالية تجاه الدين، هي ذاتها المجتمعات التي بادرت عبر وسائل مختلفة للتمسك بالدين وطقوسه المتعددة. فالنزعات الإلحادية أو العلموية، والتي احتضنت في بعض الحقب من قبل دول ومؤسسات ثابتة ومقتدرة، لم تتمكن بكل جبروتها وغطرستها، من إجبار الناس أو قهرهم على التخلي عن التمسك بالدين حتى بعناوينه الشكلية والطقوسية.
وهذا يجعلنا نعتقد أن الدين كمنظومة مفاهيمية وقيمية وأشكال طقوسية وتعبدية، يحتل موقعا مركزيا في حياة الأمم والمجتمعات. وإنه من الصعوبة التي تصل إلى حد الاستحالة، أن تتخلى هذه المجتمعات الإنسانية عن علاقتها وصلتها بالدين.
من هنا فإن الحياة الإنسانية العامة، لا يمكن أن تستقر على أسس عادلة للعلاقات مع بعضها البعض، كأمم ومجتمعات متعددة ثقافيا وحضاريا ودينيا، من دون مشاركة جميع الأديان الكبرى التي يعتنقها الإنسان، وتؤثر في رؤيته وتصوره لذاته وللآخر، في الحوار مع بعضها البعض في نطاق العمل على تظهير القيم الإنسانية والتشاركية والتعايشية لهذه الأديان.
وتتأكد هذه الحاجة في إطارنا الإسلامي، لكون النزعات الإرهابية والدموية التي تمارس أعمالها ضد الإنسانية باسم الإسلام وقضاياه العقدية والثقافية. بمعنى أن النزعات الإرهابية التي تمارس اليوم باسم الإسلام، تثير الكثير من الأسئلة والتحديات، التي تتطلب من المجال الإسلامي دولا ومؤسسات وعلماء ودعاة، العمل لإنهاء عملية اختطاف وتشويه الإسلام، التي يقوم بها الإرهابيون عبر عملياتهم القذرة، التي تمتهن القتل والتفجير وسفك الدماء كآليات لتمكين الإسلام «كما يدعون» في الأرض. وبالتالي فإن المجال الإسلامي بكل ثرائه العلمي ومؤسساته ومعاهده الدينية والثقافية معني للعمل في اتجاهين أساسيين في وقت واحد وهما:
1 - العمل على تحرير الإسلام كثقافة وكمجال حضاري ومعرفي، من نزعات الإرهاب والقتل والغلو. وهي نزعات طالت في أعمالها المستنكرة البشرية جمعاء. وفي تقديرنا بمقدار ما يتمكن مجالنا الإسلامي من تحرير الإسلام كثقافة ومجال حضاري من نزعات الإرهاب والتطرف والقتل على الهوية، بذات المقدار تتبلور إمكانات المجال الإسلامي لتبوأ مواقع متقدمة في المشهد الإنساني والعالمي.
ومن الضروري في هذا السياق، أن ندرك أن القتل والإرهاب الذي يمارس بحقنا نحن المسلمين في مواقع عديدة من العالم، وعلى رأس هذه المواقع فلسطين المحتلة، وهي أعمال إرهابية ينبغي أن تدان من جميع أديان ودول العالم. أقول أن هذه الأعمال الإرهابية التي تمارس بحقنا، ليست مبررا كافيا لانطلاق نزعات إرهابية في محيطنا وفضائنا. فنحن ينبغي أن نقاوم الظلم والإرهاب الذي نتعرض إليه سواء في فلسطين أو في غيرها من المناطق، ولكنها المقاومة التي لا تتورط بعمليات القتل المجاني أو الإرهاب.. وبون شاسع على صعيد الرؤية والوقائع بين الإرهاب والمقاومة. وينبغي أن نتذكر دائما كمجال إسلامي أن التفوق الثقافي يستدعي تفوقا أخلاقيا.
2 - المساهمة والمشاركة الجادة في مشروعات الحوار والتعارف والتلاقي بين الثقافات والأديان والحضارات. إذ أننا معنيون ببلورة المبادرات وبناء الأطر والمؤسسات، التي تعنى بشؤون التفاهم الإنساني والحوارات الدينية والحضارية. وفي تقديرنا أن تفعيل هذه الثقافة والمبادرات، سيقلص بشكل أو بآخر نزعات الحروب والصراعات المفتوحة في العالم كله. وينبغي أن لا نخضع هذا التوجه أو السياق إلى نطاق ردود الأفعال على ممارسات موضعية معينة، وإنما يبقى سياقا ثابتا في مسيرتنا الدينية والثقافية والسياسية.
فالمطلوب هو إطلاق مبادرات إنسانية - عالمية تستهدف اللقاء والتواصل والحوار بين جميع المنظومات الثقافية الإنسانية والعالمية، وذلك من أجل تفعيل المشتركات، وتطويق ومحاصرة نزعات الإرهاب والتطرف في كل المنظومات، والعمل على بناء وقائع إنسانية جديدة، تستند إلى قيم المحبة والعدالة والمساواة. فالبشرية اليوم تعاني من مشكلات عدة وخطيرة، واستمرار سيطرة نزعات التطرف والصدام في الفضاء العالمي، سيكلف البشرية جمعاء الشيء الكثير. لذلك ومن أجل سلامة البشرية وإخراجها من احتمالات الحروب والصدامات العنفية، تتأتى الحاجة إلى صياغة المبادرات الحوارية على المستويين الديني والحضاري، وذلك من أجل بناء حقائق إنسانية تبعد شبح الحروب والصدامات العنيفة. والإنسانية اليوم بحاجة إلى استحضار كل المخزون القيمي الإنساني، الذي يساهم في ضبط نزعات الإنسان الفرد والجماعة نحو السيطرة والهيمنة واحتكار مصادر القوة. ولا ريب أن الأديان من أبرز الروافد، التي أثرت البشرية ولا زالت بالكثير من القيم والمناقبيات، التي تساهم في تهذيب الحياة الإنسانية، وضبط نزعات الشر فيها.. ونحن هنا لا نروم توظيف قيم الأديان ومبادئها الأساسية لأغراض سياسية آنية ومرحلية وضيقة، وإنما ما نروم إليه هو أن تستهدي البشرية جمعاء بقيم الأديان العليا، وتعمل على إخضاع سياقاتها السياسية والثقافية والاجتماعية إلى مقتضيات هذه المبادئ والمثل العليا. فنحن نشعر بأهمية أن تحضر قيم الأديان الأساسية والعليا في حياة كل الأمم والشعوب. لأننا نعتقد أن هذا الحضور سيساهم بشكل أو بآخر في إغناء الحياة الإنسانية وابتعادها عن الكثير من نوازع الشر والتخريب. فالأديان في لحظتها التأسيسية وقيمها العليا، من الروافع الأساسية للإنسان فردا وجماعة على صعيد الأخلاق وأنماط العلاقة وسبل استثمار ثروات الأرض والطبيعة. ووجود لحظات أو فترات زمنية في كل المجتمعات والأمم، خضعت فيها المؤسسات الدينية للسلطان السياسي، وأضحت مسوقة لخياراته ونزعاته، لا يلغي بأي حال من الأحوال المخزون القيمي التي تحملها الأديان، وقدرة هذه الأديان الفذة على إغناء الإنسان ماديا ومعنويا. وأنه لا استقرار على الصعيد العالمي والإنساني، بدون استحضار قيم الدين العليا، وتفاعل الإنسان معها، بحيث يتحول إلى قوة دافعة لتجسيدها في الواقع الخارجي.
والقوة المعنوية للأديان في نفوس وعقول الناس، سيكون لها مفعولها الإيجابي والفعال لإرساء حقائق السلام ونبذ العنف في العلاقات الإنسانية والدولية. وكل النزاعات والحروب التي تعنونت بعناوين دينية، قيم الأديان الأساسية بريئة منها، وهي محاولة من قبل مشعلي الحروب لتوظيف السلطة الرمزية للدين في معارك سياسية أو استعمارية، تعود بالنفع السياسي والاقتصادي إلى النخب السياسية والاقتصادية السائدة.
فالأديان التوحيدية الكبرى، بكل قيمها ومبادئها، لا تشرع للقتل والحروب، وقيم ومبادئ الجهاد في الرؤية الإسلامية، ليست تشريعا للقتل وقهر الناس على الدخول في الدين الإسلامي، وإنما هي من أجل رد الاعتداء، ذلك الرد الذي لا يقع في مطب الاعتداء المقابل. والفرق الجوهري بين مفهوم الجهاد ومفهوم العنف هو أن الأخير «العنف» يعني ممارسة الإيذاء والعدوان لأهداف مشروعة أو غير مشروعة. بينما الجهاد في الرؤية الإسلامية شرع من أجل دفع الظلم ورد العدوان ومقاومة المعتدي.
فالالتزام بقيم السماء لا يشرع إلى العنف وإجبار الناس على ما ذهب إليه الملتزم، بل على العكس من ذلك تماما، حيث أن الالتزام العقدي والسياسي، يدفع بصاحبه إلى الدقة والالتزام الموضوعي وعدم التعدي على الآخرين مهما كانت المبررات والمسوغات. والدين كما هو معيوش، لدى كل الأمم والمجتمعات، بحاجة إلى نقد ومساءلة، لأن فيه العديد من العناصر والممارسات، التي لا تنسجم وقيم الأديان العليا. ويبدو على صعيد التجارب الدينية، أن المهمة الأساس هي تجسير الفجوة بين الدين كقيم معيارية، متعالية على الزمان والمكان، والدين كما هو معيوش ونسبي وخاضع لظروف الزمان والمكان. ولكون تجسير الفجوة على الصعيد الجمعي، من المهام الخالدة، تبقى أهمية أن يقبض الإنسان على قيمه العليا، ويستوعب مضامينها، ويعمل وفق إمكاناته المحدودة على تجسيد هذه القيم وتمثلها في حياته بكل مستوياتها.
وبالتالي فإن حوار الأديان الذي يقترب من شؤون الإنسان وثقافاته وخياراته، هو الوسيلة المطلوبة لتظهير قيم الأديان الأساسية، ولتطوير دور وتأثير هذه القيم على المشهد العالمي.
وفي هذا السياق العربي - الإسلامي، من الضروري الإشارة إلى أهمية حماية الوجود المسيحي - العربي، لأنه جزء أصيل من تكويننا القومي والثقافي، وإن محاولات تفريغ فضائنا العربي من الوجود المسيحي - العربي، هي محاولات تستهدف الإضرار بحاضر الوطن العربي ومستقبله.
لذلك نستطيع القول: أن حماية الوجود المسيحي - العربي، هو ضرورة قومية وواجب أخلاقي، يتطلب من جميع الأطراف في المجال العربي العمل على حماية هذا الوجود، واحترام خصوصيته الدينية، والعمل على إنهاء موجبات وأسباب الهجرة المسيحية من المجال العربي - الإسلامي.
لا شك أن ما سمي في مدونات المؤرخين بصحيفة المدينة، وهي نص العقد والاتفاق الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم، مع مكونات وتعبيرات مجتمع المدينة آنذاك، يعد من النصوص التأسيسية التي توضح بشكل لا لبس فيه طبيعة العلاقة القائمة، أو التي ينبغي أن تقوم بين مختلف المكونات الدينية والقومية للاجتماع السياسي الإسلامي. فهو «أي النص» ”يكشف عن النوايا الحقيقية للإسلام الذي أقدم لأول مرة في التاريخ الحضاري على إنشاء مجتمع واحد مختلط «وطني وسياسي ومدني» حيث يقوم الناس على اختلاف أديانهم بمسؤوليات واحدة في حياتهم الدنيا“.
ولقد استنبط العلماء والفقهاء هذه الحقيقة الدستورية والقانونية والسياسية من المقولة الواردة في صحيفة المدينة [لهم مالنا، وعليهم ما علينا]. فالحقوق كلها متساوية كما الواجبات. فالاختلافات الدينية أو السياسية لا تشرع للتمييز، بل تؤكد على ضرورة المساواة وتكافؤ الفرص. لذلك فإن العلاقة التي تؤسسها صحيفة المدينة، هي علاقة المساواة والتكافؤ ونبذ كل أشكال التمييز والتهميش.
فلقد جاء في الوثيقة [إنهم أمة واحدة من دون الناس، المهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون عانيهم بالمعروف، والقسط، بين المؤمنين. وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف، والقسط، بين المؤمنين. وبنو الحرث على ربعتهم، وبنو ساعدة على ربعتهم، وبنو جشم على ربعتهم، وبنو النجار، وبنو عمرو بن عوف، وبنو النبيت، وبنو أوس وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا بينهم. وإن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل].
وفي الإطار الديني فإننا نعتقد أن الحوار بين الإسلام والمسيحية لم ينقطع منذ بزوغ فجر الإسلام. ولقد اتخذ هذا الحوار أشكالا متعددة وموضوعات مختلفة. فتارة يكون الحوار ذا طابع لاهوتي - عقدي، يعنى بشؤون الربوبية والوجود والآخرة وما أشبه، وتارة أخرى يناقش قضايا معاصرة تهم الإنسان والمجتمعات المعاصرة. ”وقد تجلى هذا الحوار أول تجلياته في القرآن الكريم، وكان ذا اتجاهين: أحدهما، يتمثل في دعوة المسيحية إلى الإيمان به، باعتناقه والاعتراف له بأنه يمثل الكلمة الأخيرة والكاملة في التاريخ الديني للإنسانية. وثانيهما، يتمثل في دعوة المسيحية - إذا رفضت الإيمان به - إلى التعايش معه بعد الاعتراف به. إذ لا يمكن التعايش مع الرفض والإنكار المطلق“.
فالرؤية القرآنية لا تفرق بين أنبياء الله تعالى، وتعتبرهم جميعا في قافلة واحدة، وهي قافلة الإيمان والهدى. يقول تبارك وتعالى [آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير] [1] .
وكل الرسالات السماوية تشترك في الدعوة إلى العدالة وسيادة قيمها ومتطلباتها في الواقع الإنساني. قال تعالى [شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب] [2] .
ووجه القرآن الحكيم إلى أهل الكتاب، نداء التعاون على مقاومة الظلم ونصرة الحق وإقامة العدل. قال تبارك وتعالى [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون] [3] .
ف " الموقف الأساس في الإسلام من الإنسان هو التكريم، بصرف النظر عن أي انتماء من الانتماءات. قال تعالى [ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا]. والتكريم الإلهي للإنسان نابع من السر الإلهي في الإنسان أنه نفخة من روح الله: [فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين]. [ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون].
وهو الذي اقتضى سجود الملائكة له. ومهمة الإنسان على الأرض هي أنه خليفة الله. فهذا الإنسان المكرم هو خليفة الله في الأرض: [وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون]. إن هدف الخلق الأول للإنسان هو أن يكون خليفة الله للإعمار وللوصول إلى التكامل الروحي " [4] .
وعليه فإن تاريخ الإيمان وفق الرؤية الإسلامية تاريخ واحد، وأن تجليات الإيمان على ألسنة الرسل والأنبياء هي تجليات لحقيقة واحدة لا تفاوت في جوهرها، وإنما تتفاوت في سعتها وفي عمقها وفي إجمالها وفي تفصيلها.
والسؤال الذي يطرح هنا هو: كيف نظر القرآن الحكيم لأهل الكتاب. بالإمكان الإجابة على هذا السؤال من خلال النقاط التالية:
1 - إن الذكر الحكيم علّم المسلم أن أهل الكتاب، هم سلفه في الإيمان الإبراهيمي، وأن بينه وبينهم قرابة المشاركة في هذا الإيمان، وإن إيمانهم جزء مقوم لإيمانه الإسلامي. قال تعالى [قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون] [5] .
2 - وعلى أساس الإيمان الجامع، وجه القرآن الحكيم المسلمين إلى الجامع التوحيدي نحو أهل الكتاب. قال تعالى [قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون] [6] .
3 - التعامل والتحدث معهم باحترام وتقدير، ولعل في تسميتهم بأهل الكتاب، للتأكيد على القرابة الروحية والإيمانية، ما يشير إلى هذه الحقيقة ويؤكد عليها، وصنفهم الذكر الحكيم إلى قسمين: منهم من استقام، ومنهم من انحرف. قال تعالى [ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين] [7] .
وهذا النقد الذي مارسه القرآن الحكيم تجاه أهل الكتاب للاختلاف العقدي، لم ينعكس على التشريع الاجتماعي والسياسي. بل أكد القرآن الحكيم على مبدأ الاستقلال التشريعي لأهل الكتاب في جميع شؤونهم وأحوالهم. قال تعالى [وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون، وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون] [8] .
وبالتالي فإن الاختلاف العقدي، لم يفضي إلى إلغاء شخصيتهم الثقافية بل على العكس تماما. حيث أن صيانة مبدأ الاستقلال التشريعي، قاد بدوره إلى استقلال الشخصية الثقافية وحرية ممارسة العبادة وكل الطقوس الدينية والشعائرية. بل إن القرآن الكريم وفي سورة كاملة «سورة البروج»، خلد ذكر شهداء نصارى نجران، وعبر عنهم بالمؤمنين ومدحهم. فقال عز من قائل [قتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد، إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق].
وفي سورة الروم تسجيل صريح وواضح لتعاطف المسلمين مع المسيحيين في مواجهتهم وصراعهم مع المجوس الذين اعتبرهم مشركو مكة أقرباء روحيين لهم، في مقابل اعتبار النصارى أقرباء روحيين للمسلمين. قال تعالى [ألم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون].
فالرؤية الإسلامية والتجربة التاريخية الإسلامية الأولى، كلها مضامين وحقائق، تؤكد قيم الشراكة والاحترام المتبادل بين أهل الديانات التوحيدية الكبرى. ولكن ولعوامل سياسية واجتماعية وثقافية، نتجت ظواهر مضادة لتلك الحقائق والمضامين الثابتة.
تتداخل عدة معطيات وقضايا عند تناول مسألة المجتمع الأهلي - المدني في الفضاء المعرفي العربي والإسلامي. منها ما هو مرتبط بالظرفية التاريخية التي تأسس فيها هذا المفهوم ودلالاته السياسية والمعرفية والاجتماعية، ومنها ما يرتبط بالحمولة الفلسفية والثقافية لهذا المفهوم الذي نشأ وتأسس في بيئة معرفية مغايرة لبيئتنا الثقافية والحضارية، ومنها ما يرتبط بجدوى هذا المدخل في تطور المجتمعات العربية والإسلامية.
وعلى هذا نستطيع القول: أن دراسة المجتمع الأهلي - المدني تنتمي إلى حقول معرفية متعددة، وذلك لأن مفهوم المجتمع الأهلي يتعدى الحقل السياسي، ويتداخل مع الحقول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ودائما فعالية المجتمع الأهلي المدني في تجارب الأمم والحضارات، مرهونة إلى حد كبير بمستوى الوعي ونوعية الثقافة السائدة، وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد.
فإذا كان الوعي بالحاجة إلى الديمقراطية والمشاركة في الشأن العام عميقا، فإن فعالية القوى الأهلية - المدنية ستكون قوية وصلبة ومستديمة. كما أن الثقافة المسئولة وذات الآفاق الإنسانية والحضارية، ستحفز المجتمع على ممارسة أدواره ووظائفه الحضارية.
والنظام السياسي المتسامح، المؤمن إيمانا عميقا بالفعل المؤسسي، وبقيم التعددية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرياته الأساسية فإنه سيساهم في تطوير الحقل الأهلي المدني، ويزيد من فعاليته، ويكثف من أدواره ووظائفه. وغالبا مستوى التطور الاقتصادي، يساهم ويؤثر في فعالية القوى الأهلية المدنية. إلا أن الشيء الأساسي الذي ينبغي التأكيد عليه في هذا المجال، هو أن تأثير هذه العناصر ليس حتميا. بمعنى قد يتوفر الوعي بضرورة المشاركة، إلا أن عوامل أخرى سياسية - اقتصادية - دولية أو ما أشبه تحول دون تطوير الحقل الأهلي - المدني في الأمة.
لهذا فإن العامل الحاسم في تأثير هذه العناصر، هو إرادة المجتمع والأمة، وكفاحها الدائم من أجل انتزاع حقوقها والدفاع عن دورها التاريخي. فالأمة التي تمتلك إرادة الفعل، وتمارس إرادتها وتدفع ثمن ذلك، فإنها أمة ستحتضن مجتمعا أهليا متقدما وفاعلا. وذلك لأن الحقوق دائما لا توهب ولا تعطى وإنما هي تؤخذ وتنتزع، ويتم الوصول إليها عن طريق توفير الظروف الذاتية والموضوعية المؤهلة للممارسة المدنية المتطورة والمتقدمة. فالحقل المدني - الأهلي لا يتطور في الأمم صدفة، وإنما هو وليد جهد وجهاد دائم ومستديم يتجه صوب تفعيل دور الأمة والمجتمع في العمران الحضاري، فهو في حالة تكوّن مستمر.
لذلك فإن يقظة الأمة، واستمرار نشاطها وشهودها الحضاري، هو حجر الأساس في استمرار تطور وفعالية الحقل المدني الأهلي. وفي الاتجاه نفسه، فإن فعالية المجتمع المدني الأهلي في الدائرة العربية والإسلامية، هو أحد تجليات ومصاديق شهادة الأمة على راهنها وعصرها.
1 - إن المجتمع المدني - الأهلي، ليس بديلا عن الدولة العادلة، والتي تأخذ على عاتقها مسؤولية البناء والتنمية. وإنما هو مكمل للدولة في الوظائف والمسؤوليات.
ويخطأ من يرى أن مقولة المجتمع المدني - الأهلي وضرورة تنميته وتطويره، يعني التخلي عن الدولة وضروراتها. فالمقصود بالمجتمع المدني - الأهلي جملة ”المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة، منها أغراض سياسية، كالمشاركة في صنع القرار على المستوى القومي، ومثال ذلك الأحزاب السياسية، ومنها أغراض نقابية كالدفاع عن المصالح الاقتصادية لأعضاء النقابة، ومنها أغراض مهنية كما هو الحال في النقابات للارتفاع بمستوى المهنة والدفاع عن مصالح أعضائها، ومنها أغراض ثقافية كما هو في اتحادات الكتّاب والمثقفين والجمعيات الثقافية التي تهدف إلى نشر الوعي الثقافي وفقا لاتجاهات أعضاء كل جمعية، ومنها أغراض اجتماعية للإسهام في العمل الاجتماعي لتحقيق التنمية“ [9] .
فالمجتمع المدني الأهلي، هو تعبير عن مساهمة الأمة بمختلف شرائحها وفئاتها في الشأن العام، وفي المقابل حتى لا تطغى إرادة الدولة وتتحول إلى كيان مستبد، يلتهم الجميع، ويسعى نحو إذابة كل التعبيرات الذاتية للأمة.
فالمجتمع المدني - الأهلي يعني ممارسة الأمة لدورها في البناء والعمران، كما أنه وسيلة الأمة لمنع تغوّل الدولة وطغيانها.
والمسألة ليست مقايضة بين الدولة والمجتمع الأهلي، وإنما هي الطريقة التاريخية والحضارية لتحقيق التوازن والتفاعل والتكامل المنشود بين الدولة والأمة. وهو الذي يوفر للأمة إمكانية الاختيار السياسي والحضاري. وهذا هو الذي يؤسس الحكم على اختيار شعبي حر، ويضعه في كل الأحوال تحت المراقبة المستمرة لقوى المجتمع المدنية الأهلية.
”وكلما غلبت المدنية على شعب زاد تمسكه بحقوقه في اختيار السلطة العمومية، وزادت مشاركته في صنع القرار المتعلق بمصيره الجماعي والفردي. وإذا كان غياب الديمقراطية في الوطن العربي قد نجم في البداية عن عوامل تاريخية واجتماعية وأيدلوجية عديدة ومعقدة، أهمها إرادة التغيير السريع ومواجهة التهديد الإسرائيلي فقد أصبح غياب هذه الديمقراطية اليوم سببا أساسيا من أسباب وقف التغيير وحبس التقدم وتدهور الموقف العربي عموما تجاه إسرائيل والنفوذ الأجنبي. فهو في أساس الحرب الأهلية الكامنة والمعلنة داخل المجتمعات العربية ومصدر فساد النخب السائدة واستهتارها بالمصالح العامة وتخليها عن القضية القومية وتفرغها للإثراء الفاحش“ [10] .
فالحركية الأهلية المتجهة إلى تطوير الحقل المدني - الأهلي في الأمة أضحت ضرورة قصوى، لما يقوم به هذا الحقل من نقد واقعي لأسس الاستبداد والفردية والحكم المطلق، ولما يشكله هذا الحقل من قدرة استيعابية لمختلف الفئات والشرائح الاجتماعية. ”وبالنسبة للوضع الراهن في الوطن العربي، المشكلة ليست في غياب المجتمع المدني كوحدة خاصة مستقلة عن الدولة وإنما المشكلة تكمن في نزوع الدولة الدائم إلى إلغاء أي استقلالية على أي مستوى كان لهذا المجتمع المدني، أي أن المشكلة هي في رغبة الدولة في التدخل في الكبيرة والصغيرة لهذا المجتمع، وإلغاء القدرة الخاصة بالتنظيم الذاتي له. والنتيجة هي خنق المجتمع، أي سد كل المتنفسات الذاتية له، وتحول الدولة إلى جدار من الصقيع يلغي أي إرادة داخلية للمجتمع“ [11] .
فالأزمة لا تكمن في غياب نواة المجتمع المدني - الأهلي في الفضاء العربي والإسلامي، وإنما في تغوّل السلطة واستبداديتها والمنطق الأمني الذي يتحكم في كل المسارات والاتجاهات.
فالمضمون الجوهري لمفهوم المجتمع المدني الأهلي، هو شعور عميق ومتواصل بذاتية المجتمع، وقدرته على تنظيم نفسه وممارسته للحريات، وحماية ذاته من كل النزعات التسلطية، وعوامل التهميش والإقصاء والنفي سواء جاءت من الداخل أم الخارج.
2 - ويعني المجتمع المدني - الأهلي، نمط من العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، قائم على العمل المؤسسي، متجاوزا بذلك كل الأنماط والسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي لا تخرج عن واقع الأنا الضيق، وتسعى نحو تحجيم نشاطها في إطار من الامكانات الشخصية بوحدها. فكل نمط مؤسسي، يمارس فعلا اجتماعيا عاما أو سياسيا أو ثقافيا، فهو جزء من مفهوم المجتمع المدني - الأهلي.
3 - تنظيم المجتمع وقدرة القوى الاجتماعية المتعددة في المنطلقات والغايات، على إرادة تنافسهما وعملهما في محيط اجتماعي محدد بوسائل سلمية حضارية.
فالشأن العام في المجتمع، يدار عن طريق قوى اجتماعية تتكامل مع بعضها البعض بشكل مباشر أو غير مباشر، وتتنافس مع بعضها بوسائل تثري الواقع المجتمعي وتنضجه وتزيد من خبرته في إدارة تنافس أبناءه أو صراعهم.
وأساس هذا التنظيم المجتمعي، والتنافس السلمي في إدارة الشأن العام، هو تفعيل القواسم المشتركة بين هذه القوى، والتسالم والتراضي على جملة من المنطلقات والغايات التي تكون تطلع الجميع، حتى وإن اختلفت أساليب الوصول، وتعددت وسائل التعبير عن هذه المنطلقات والغايات.
فالمجتمع المدني الأهلي هو عبارة عن الإطار المؤسسي لممارسة المسؤولية الدينية والوطنية. وسمة هذا التنظيم المجتمعي أنه ذاتي، أي أن سعي المجتمع إلى تنظيم نفسه في أطر ومؤسسات وجمعيات وهيئات، يتم بإمكانات المجتمع ذاته، ومن أجل تحقيق غاية مجتمعية أيضا.
فالدعوة إلى تقوية المجتمع المدني - الأهلي، تعني العمل على ”محاصرة للدولة وسلطتها المطلقة، وهو إحياء للمبادرات القاعدية وبث للروح في المؤسسات والمنظمات والتضامنات الشعبية المختلفة“ [12] .
وبهذا تكون الأولوية هي تعظيم دور الأمة والمجتمع، ومنع تغوّل الدولة وتحولها إلى كيان شمولي، والعمل على تحريك كل فئات المجتمع وشرائحه في عملية البناء والنهضة. وبالتالي تكون الأولوية لتأسيس مجتمع عربي - إسلامي فاعل يمارس دوره ويتحمل مسؤولياته التاريخية، ويقوم بحمل مشعل التقدم والنهضة، ويشارك بفعالية في تذليل كل العقبات التي تحول دون التقدم الشامل.
وأهلنة المجتمع «إذا جاز التعبير» ليست شعارا أو يافطة، وإنما هي وعي ورؤية وإرادة ونظام مجتمعي يتجه صوب «الأهلنة» في كل الحقول والمجالات.
وتنمية المجتمع الأهلي اليوم، هو سبيل الأمة لصيانة حقوق الإنسان وكرامته، وطريقها للإسراع في مشروع التنمية الشاملة وخيارها الإستراتيجي لزيادة مستوى المشاركة الشعبية في الشؤون العامة، وهو الرافعة الحقيقية اليوم لأهداف الأمة الكبرى وقضاياها المصيرية والحاسمة.
هناك علاقة وثيقة بين المدينة والإسلام، إذ ارتبط الإسلام منذ انطلاقته الأولى بالمدن وحواضر الجزيرة العربية، وتأكد هذه الارتباط مع هجرة الرسول ﷺ إلى يثرب التي سارع رسول الله إلى تسميتها بالمدينة. فعلاقة الإسلام بالمدينة والحواضر علاقة حميمة، إذ أن مجموع قيمه ومبادئه تدفع نحو الإقامة والاستقرار النفسي والاجتماعي. وقد قال تعالى [الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب] [13] .
ومن المؤكد أن الإقامة والاستقرار الذي يوفرهما الدين الإسلامي، من الشروط الضرورية لتأسيس المدينة وفق قواعد ومتطلبات تزيد من فعالية الناس وحيويتهم الحضارية.
والمدينة أو الحاضرة لم يجعلها الإسلام بلا قانون وترتيب إداري يساهم في تنظيم شؤون المدينة من جميع النواحي، وإنما عمل على تنظيم شؤون المدينة، ودفع باتجاه الحشد واستكمال الجماعة، وحارب كل النوازع التي تحول دون استقرار المدينة وتطورها النفسي والاجتماعي والحضاري. ويبقى خيار الإسلام الأول انطلاقا من رؤيته وخبرته وعلاقته بالمدينة والحواضر، أنه يسعى إلى تمدين الريف وغرس القيم المدنية والحضارية في محيطه وأجوائه. عكس الخيار المتبع عند الكثير من المدارس والأنظمة اليوم، التي فرضت خياراتها ومشروعاتها الاقتصادية والإدارية والاجتماعية ترييف المدن والحواضر، وذلك عبر المجتمعات الهامشية وأحزمة البؤس ومجتمعات الصفيح التي تشكلت في ضواحي المدن.
فالخيارات الاقتصادية والتنموية المتبعة، هي التي أرغمت أبناء الريف والقرى إلى الهجرة القسرية إلى المدن والحواضر بحثا عن لقمة العيش.
والإسلام هنا لم يلغ نظام الطاعة الطبيعي، إلى الأسرة، العشيرة، القبيلة، وإنما جعل طاعتهم في سياق طاعة الشريعة والالتزام بقيمها ومبادئها. ولقد جاء في الحديث الشريف «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» [14] .
فالإسلام أسس مفهوم الطاعة على أسس جديدة، ومعايير متعالية عن معايير التراب، فالطاعة أضحت مع الإسلام إلى الشريعة وليس إلى أي معيار آخر. ولا شك أن طاعة الشريعة والالتزام بقيمها وترتيب المواقف والخيارات وفق هديها، هو من الشروط الأساسية للاستقرار السياسي والحضاري، وخلق المجتمع المدني - الأهلي في المجالين العربي والإسلامي.
والطاعة وفق هذا المنظور، هي التي تصهر التمايزات أو تجعلها في سياق الوحدة والبناء والانفتاح والتسامح، بدل أن تكون وسيلة وسببا للانكفاء والانعزال والتفتت والانخراط في مشروعات تجزيئية، تزيد من ضعف الأمة على المستويين السياسي والحضاري.
وفي التاريخ العربي والإسلامي، نرى نموذج الحالة المدنية في فعاليات المدينة الإسلامية، والدينامية الاجتماعية التي عبرت عن نفسها بأشكال من التوازن بين التدخل السلطاني، الذي يتمثل في مؤسسات الوالي والقاضي والمحتسب وصاحب الشرطة، وبين الحاجات الاجتماعية «المدنية» التي عبرت عن نفسها بإبتداع أشكال من المؤسسات التي تقوم بممارسة دورها في هذا الصدد. ”فالنشاط المديني الذي تركز بشكل أساسي في الإنتاج الحرفي والتجارة انتظم في «الأصناف»، وهذه الأخيرة هي تنظيمات اجتماعية تراتبية متماسكة، كل تنظيم فيها يُعبر عن أهل حرفه من الحرف. والملاحظ أن التنظيم «الصنف» الذي يدعوه البعض الطائفة، يعتمد تراتبية أهل الصوفية إبتداءً من المبتدئ «المريد» إلى الصانع، إلى المعلم، إلى شيخ الحرفة … إلى شيخ السوق. وبين كل مرتبة تقوم أعراف وطقوس وأخلاقيات وتقنيات تعبر بدورها عن التفاوت الحاصل بين كل مرتبة ومرتبة في المعرفة والقيمة، أي وفقا لدرجات تحصيل أو معرفة «سر المهنة» الذي أضفي عليه الطابع القدسي الديني“ [15] .
فالروح والتراتبية المعنوية، اللتان يبثهما النشاط المديني تشكلان نقطة الانطلاق والتطوير للمسألة المدنية في المجالين العربي والإسلامي.
إذ أن تراث العرب والمسلمين التاريخي في هذا الإطار، ثري، ومتوفر وذو مضمون عميق على مستوى التجربة التاريخية، والخبرة التي أوجدها في النسيج المجتمعي. وذلك لأن التحولات القسرية أو الفجائية، يصحبها تمزق اجتماعي رهيب، لا يجعلها منتظمة في سياق متكامل، وإنما يحولها وكأنها جزيرة معزولة عن المحيط العام.
والذي يؤكد هذا الاتجاه «الانطلاق من التجربة المدينية العربية والإسلامية لتنمية مؤسسات المجتمع المدني - الأهلي في الفضاء العربي والإسلامي» هو أن القيم المدنية والدينية في الإطار الإسلامي منصهرة فيما بينها، وهناك تطابق محمود بين القانون الديني والقانون المدني في التجربة الإسلامية التاريخية. وانطلاقا مما يذكره «دونالد سميث» حول الفرق بين النظم العضوية ونظم الكنيسة الدينية، يمكن اعتبار الإسلام دينا عضويا، وذلك لأنه يتضمن قيما ومبادئ تعلي من الشأن المدني والإنساني، وهذه القيم هي التي تحدث قفزة نوعية في علاقة الإنسان بالمكان والزمان، وعلاقته مع بني جنسه، لذلك فإن ”المديني في جميع أشكاله القديمة والحديثة يظهر كواقع جديد، أو كنتيجة لتمفصل النظام الاجتماعي والنظام المكاني. بين العلاقات الاجتماعية والعلاقات المكانية رباط جدلي لا يمكن اختزاله إلى أحد طرفيه، وإذا صح أن نسمي الواجبات الاجتماعية نظاما فإن حيز المدني، حيز الظروف الجديدة، يشكل بذاته نوعا من التجاوز، أي عامل تغيير وتحقق. من هنا فإن المدينة لا تعكس بشكل سلبي نظاما معينا، ولكنها تلعب أيضا دورا نشطا في تحويل هذا النظام ذاته وفي استخدامه، فهي تنظم جملة من الاحتمالات والمحظورات التي في ظلها يتطور أفراد وجماعات وأقوام يرسمون إستراتيجيات مختلفة لتحقيق أهداف خاصة أو جماعية“ [16] .
ويبدو لي أن القفزة النوعية، التي تحدثها القيم المدنية في النسيج المجتمعي، هي التي تبرز كطاقة خلاقة متجهة إلى بناء واقع اجتماعي يتمثل هذه القيم على مستوى علائقه المختلفة، ويتجسد كنموذج يطمح إلى التوسع والامتداد، بحيث يكون هو النسق الاجتماعي السائد. وعلى هدى هذا نستطيع أن نقول: أن المسألة المدنية كقيم متجسدة في حركة الإنسان الخاصة والعامة، وكشبكة للعلاقات الإنسانية، لا يمكن فهمها خارج السياق التاريخي لواقعنا ومجتمعنا.
لهذا نحن بحاجة دوما إلى البحث عن الإطار والقاعدة اللتين تحتضنان هذه القيم وتطورها في المحيط العام. وبكلمة يبقى الإسلام شرطا ضروريا لتأسيس المجتمع المدني - الأهلي وتطوير آليات عمله في المجالين العربي والإسلامي. وذلك بفعل أن الإسلام يعظم دور الأمة والمجتمع في العمران الحضاري، ويجعل الدولة مؤسسة من مؤسسات الأمة وليس العكس. ولا ريب أن المدخل الفعال لدراسة المجتمع المدني - الأهلي وموقف الإسلام ودوره في هذا الإطار، هو أن المجتمع المدني - الأهلي جزء من الأمة التي يوليها الإسلام العناية الكاملة، ويجعلها قطب الرحى في عمليات البناء والتنمية.
وإن التجربة التاريخية الإسلامية، تشكل حافزا حقيقيا وتجربة ثرية تساهم في بلورة خياراتنا تجاه صوغ مجتمع أهلي عربي - إسلامي جديد، يأخذ على عاتقه تجديد الحركية الاجتماعية الإسلامية، ورفدها بروافد جديدة وإغناءها بخبرات وإمكانات جديدة أيضا.
وهذا المجتمع المدني - الأهلي سيشارك في إعطاء عالم الإسلام اليوم شخوصه العالمية في كل مجال وفي المنابر كافة، ويتيح لعالمنا الإسلامي المساهمة الجادة في تكريس نظاما عالميا جديدا أكثر تسامحا وإيمانا ومسؤولية وحرية.
والمصادر الإسلامية تنطوي على قيم عديدة، تحفز على العلم والعمل وإعمال العقل والسعي لإعمار الأرض، والارتقاء بالحاجات المتعددة للإنسان. وكل هذه القيم تمثل جوهر المجتمع المدني - الأهلي الإسلامي.
فتحقيق المجتمع المدني - الأهلي بالمفاهيم المجردة أمر غير ممكن، وإغفال التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المجال، لا ينجز مشروع إنماء المجتمع المدني - الأهلي الإسلامي، وإنما يزيد من تخبطنا وترددنا.
لذلك من الضروري استدعاء التجربة التاريخية الإسلامية الأهلية، ومساءلتها للتعرف على منطق عملها وحيويتها وأدوارها، وإشراك القوى الاجتماعية في إنجاز برنامج إنماء المجتمع المدني - الأهلي الإسلامي.
فالحركية الأهلية لا تتواصل وتتراكم بمعزل عن قوى المجتمع الحية، بل هي التي ترفد الحركية الأهلية بإمكانات التواصل وأسباب الاستدامة.
فالقوى المجتمعية هي صانعة المجتمع المدني - الأهلي وهي هدفها في ذات الوقت. حيث الغاية هي تطوير هذه القوى على المستوى النوعي والكمي، حتى تشارك في العمران الحضاري.
والقدرة على الاستدامة والتطوير أمام تحديات الراهن المتعددة، لا تتأتى إلا بحيوية المجتمع المدني - الأهلي الإسلامي وفاعليته وتحمله لمسئولياته الدينية والوطنية.
وإن هذه الحركية الأهلية لا تأتي جاهزة، وإنما هي بحاجة إلى بناء نظري وعملي وممارسة مجتمعية مستديمة تبلور الوسائل الملائمة والإستراتيجيات الفعالة التي توصلنا إلى حركية أهلية مؤسسية تتجاوز الأشخاص، وتستمر في العمل والعطاء وفق نسق مؤسسي متطور.
وفي المجال العربي والإسلامي المعاصر، لا زال هناك الكثير مما ينبغي عمله، حتى يترسخ العمل المؤسسي المدني - الأهلي، وتسير مجتمعات هذا المجال الحضاري في تجاهها.
”وإن المواطنية هي التمتع بالحرية السياسية، أي بحق المشاركة من مستوى الندية، والمساواة في تقرير مصير الجماعة الإنسانية. ولا وجود لحرية سياسية دون وجود علاقة وطنية، أي أمة، واندماجا سياسيا - ممارسة سياسية عملية - في الجماعة. إن النزوع إلى الحرية، وإلى بناء الأمة كإطار للاندماج والمشاركة الجماعية في مستوى الندية وتحمل المسؤولية الجماعية، هو أحد محركات وحوافز التغيير الرئيسية اليوم في منظومات قيم المجتمعات العربية وهو بذرة ثورية ممكنة، ولا بد من الرهان عليها، في بناء الديمقراطية كإطار لعلاقة اجتماعية جديدة، مؤسسة على الاعتراف الفعلي بالمواطنية“.
ويضيف إلى أنه ”أصبح العمل من أجل الحرية والتماهيات المدنية والسياسية، يساوي العمل من أجل بناء الصدقية الذاتية وتأسيس الفاعلية، أي احترام الذات والنظر إلى النفس كمستودع لقيم إيجابية. ولعل هذا الطلب المتزايد على المواطنية، أي على بناء وطنية حقيقية قائمة على تأسيس علاقات تضامن واعتراف متبادل وتعاون شامل، لا تذوب في الشعارات الخارجية أو التعبئة السياسوية، هو اليوم النبع الأعمق للنزعة الديمقراطية“ [17] .
ويوفر المنظور الإسلامي ثقافة توحيدية، تناقض المسار الانشقاقي والتمزيقي، وتسعى إلى زيادة الروابط ومستوى التعاون بين أبناء المجتمع الواحد، وتؤسس ذلك على قاعدة أخلاقية سامية من حسن الظن والتواضع ومساواة الذات مع الآخر ونزع الغل والأحقاد من النفوس والقلوب.
ومن الطبيعي القول: أن انحسار الثقافة الانشقاقية والتمزيقية في المجتمع، يساهم بشكل كبير في توطيد أركان الحقل المدني - الأهلي، ويزيد من فعاليته وأداءه.
والمجتمع المدني - الأهلي، هو أحد جسور الأمة لإنجاز تطلعاتها وتنفيذ طموحاتها. لذلك من الأهمية بمكان العمل على تطوير ثقافة مدنية أهلية، تبلور مسؤوليات المجتمع، وتحمله دورا ووظائف منسجمة واللحظة التاريخية.
وإن تجذير هذه النوعية من الثقافة في المحيط الاجتماعي، سيضيء سبلا هامة لمبادرات المجتمع ورياديته في العمران الحضاري. وذلك لأن هذه الثقافة ستنشط من حركية المجتمع وتزيده تماسكا في طريق البناء والتنمية، وتعزز بعضه بعضا، وتعمق في نفوس أبناء المجتمع الثقة والفعالية والانفتاح على الأفكار والتجارب الجديدة، والمرونة التي لا تعكس ضعفا وهزيمة، وإنما مرونة قوامها الثقة بقدرة الآخرين على المشاركة في البناء، والتسامح حيال الاختلافات والمواقف القلقة والملتبسة.
وإن الوصول إلى مجتمع عربي - إسلامي جديد، يأخذ على عاتقه مسؤولية التاريخ والشهادة على العصر، بحاجة إلى تنشئة ثقافية وسياسية جديدة، تغرس في عقول ونفوس أبناء المجتمع قيما جديدة تنشط الحركية الأهلية، وترفده بآفاق جديدة، وإمكانات متاحة، وتطلعات حضارية. والتنشئة الثقافية والسياسية، من الوسائل الهامة التي تساهم في تطوير الحقل المدني - الأهلي في الأمة. وإن شبكة العلاقات الاجتماعية، كلما كانت متحررة من رواسب الانحطاط والتخلف، وبعيدة عن آثارهما النفسية والعامة، كلما كانت هذه الشبكة قوية وفعالة. وإن التنشئة الثقافية والسياسية السليمة، تساهم مساهمة كبيرة في حركية هذه الشبكة وقدرتها على تجاوز المحن والابتلاءات، وتوفر لها الإمكانية المناسبة للتعاطي مع اللحظة التاريخية بما يناسبها وينسجم مع متطلباتها. وهي ”وسيلة فعالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكوّن معهم مجموعة القوى التي تغير شرائط الوجود نحو الأحسن دائما، وكيف يكوّن معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ“ [18] .
وفي إطار البناء العلمي والثقافي الذي يؤسس ركائز الحركية المدنية - الأهلية، ينبغي العناية بالمفاهيم والقيم التي تشكل مداخل ضرورية ومفاتيح فعالة لدفع قوى المجتمع نحو البناء المؤسسي. وكذلك قراءة الأحداث والتطورات، واستيعاب منطقها وتجاه حركتها والمفاهيم المتحكمة في مسارها. و”إن ما ينبغي الحديث عنه، وما يشكل أداة مفهومية أوضح وأسهل للبحث هو مجموعتان من العوامل الداخلية، لا تتماهى مع التراث، وإنما تغطي البنى المحلية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، كما نشأت في إطار التحرر من الماضي من جهة، وفي إطار التأثر بالخارج في العقود الماضية من جهة ثانية، أي من حيث هي ثمرة للتفاعل السابق بين التراث المجروح والمهتز، وأحيانا المدمّر، وبين الحداثة بما هي مجموعة الأنماط الجديدة التي فرضت نفسها على وسائل وطرق إنتاج المجتمعات، لوجودها من الناحية الفكرية والخيالية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والإستراتيجية معا. أما المجموعة الثانية فهي العوامل التاريخية التي ترتبط ببنى النظام العالمي، من حيث هو ترتيب لعلاقات القوة على الصعيد الدولي، وبسياسات الدول المختلفة الكبيرة والصغيرة الوطنية، وما ينجم عنها من تعارض في المصالح، ومن نزعات متعددة للهيمنة والسيطرة والتحكم بمصير المجتمعات الضعيفة، للاستفادة من مواردها، واحتواء ثمار عملها وجهودها“ [19] .
ومن خلال هذه القراءة الواعية والدقيقة تتضح الظروف الموضوعية والمؤشرات العامة، التي تؤسس لشبكة التضامن الاجتماعي والتآلف الداخلي بصورة حيوية وفعالة.
وهذا لا شك هو شرط تحويل الظروف الموضوعية والمؤشرات العامة التي تدفع باتجاه الخيار الديمقراطي والمدني إلى واقع ملموس وحركة اجتماعية متواصلة. وبالتالي تتصاعد قدرة المجتمع على إجهاض كل مشروع ارتدادي، وترتفع وتيرة الحركية الاجتماعية باتجاه البناء المدني والمؤسسي.
فالوعي الذاتي بالظروف الموضوعية وقوانين حركتها، هو شرط الاستفادة منها، وتوظيفها بما يخدم أهداف الوطن والأمة.
وبهذه العناصر والقيم، يكون المجتمع بكل شرائحه وفئاته مسئولا عن تطوير ذاته، وتجديد رؤيته لنفسه ولدوره التاريخي.
ومن المؤكد أن تطوير هذا التوجه في المحيط الاجتماعي، سوف يؤدي إلى إحداث شكل أو أشكال من المشاركة الشعبية في الحياة السياسية والعامة. والمجتمع الذي يفتقد الوعي والإرادة، فإنه ينزوي عن راهنه، ويعيش الهامشية، ولا يتحكم في مصيره ومستقبله. لذلك فإن بداية تطور الحقل المدني - الأهلي في الفضاء العربي والإسلامي، هي في عودة الوعي بضرورة هذا الحقل في البناء والعمران، وامتلاك إرادة مستديمة لتحويل هذا الوعي إلى فعل مجتمعي متواصل، يتجه إلى تطوير وترقية وتنمية الحقل المدني - الأهلي في الأمة. وفي المجال نفسه يمارس هذا الحقل دور إنتاج وسائل التغيير والتطوير في المجتمع.
وبهذا يكون الحقل الأهلي في الأمة، هو حجر الأساس ونقطة البداية، في مشروع العمران الحضاري الجديد.