آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الإسلام السياسي والتحولات العربية الراهنة

محمد المحفوظ *

في تفسير الظاهرة

حين التأمل في التجارب الإنسانية والمجتمعية، التي خاضت ثورة أو تحولات جماهيرية، أفضت إلى تحول سياسي في نظام الحكم ومؤسسات الدولة، نجد أن جميع هذه التجارب، خاضت بعد تغيير نظام وشكل الحكم، سجالات وصدامات اجتماعية وسياسية، تحولت في بعض اللحظات إلى ممارسة العنف وسفك الدم.. وهذا المقال لا يستهدف تبرير وتسويغ ما يجري في أكثر من بلد عربي، تغيرت فيه أنظمة الحكم، ودخلت نخبة جديدة في مسؤولية إدارة الدولة ومؤسسة الحكم، وإنما غاية هذه المقالة، هو الوصول إلى تفسير علمي - اجتماعي - سياسي لهذه الظاهرة.. لأن هذه الظاهرة تكررت في كل الفضاءات الإنسانية التي شهدت تحولات اجتماعية وسياسية كبرى..

بصرف النظر عن أيدلوجية النخبة الجديدة، وطبيعة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها الشعب، ونوعية الخيارات الثقافية السائدة في البيئة الاجتماعية والسياسية..

ولا ريب أن تكرر هذه الظاهرة بتفاوت بسيط في كل التجارب، يثير الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة، التي تبحث عن تفسيرات علمية لهذه الظاهرة..

والشعوب العربية بكل خصوصياتها، ليست استثناءا من هذه الشعوب والمجتمعات.. فما جرى في تحولات دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول في آسيا وأفريقيا، بدأت ملامحه بالبروز في المشهد العربي.. إلى درجة أنه تم نحت شعار في كل التحولات والثورات مؤداة أن الثورات تأكل أبناءها.. بمعنى أن النخبة التي قادت التحول والتغيير بعد وصولها إلى هدفها السياسي المباشر، تنقلب على نفسها، وتبرز تناقضاتها الأفقية والعمودية، وتتوسل بالعنف ووسائل المكايدة السياسية المختلفة للتسقيط والتسقيط المتبادل.. فيتم القتل والتدمير إلى أن يصل في بعض الحالات والنماذج إلى أفظع من ممارسات النظام السابق.. فتبرز في الفضاء الاجتماعي والسياسي ظاهرة ما نسميه التأسف على المرحلة السابقة.. بمعنى أن النخبة الجديدة وفي فترة زمنية وجيزة، استطاعت بعنفها الثوري وخياراتها المتسرعة، واستهتارها بحياة الناس وأوضاعهم المعيشية، تنسي مجتمعها عنف النظام السابق وخياراته المميتة والكارثية.. أقول إن هذه الظاهرة، تكررت في أغلب التجارب، مع تعدد خيارات النخب، واختلاف أيدلوجياتها وطبيعة الظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشها مجتمعها.. ويبدو من كل المعطيات أن هذه الظاهرة، ستتكرر في كل الدول والمجتمعات العربية التي خاضت تجربة التحول السياسي والاجتماعي في الفترة الأخيرة..

وبطبيعة الحال فإن الظواهر الاجتماعية والسياسية، تحتاج بالدرجة الأولى إلى فهمها ومعرفة ميكانيزمات تأسيسها وتحولها إلى ظاهرة مجتمعية تتكرر في أغلب البيئات الاجتماعية والسياسية.. فالمطلوب أولا ليس إطلاق أحكام قيمة ومواقف نهائية من هذه الظاهرة، وإنما المطلوب بالدرجة الأولى: بناء رؤية وتفسير علمي ودقيق ومتكامل لهذه الظاهرة..

وفي سياق المساهمة في تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية - السياسية نذكر النقاط التالية:

1 - إن النخب السياسية والاجتماعية التي قادت عملية التحول، تنتمي إلى خيارات وأيدلوجيات متعددة ومختلفة.. إلا أن هذا الاختلاف والتباين لا يبرز بحده في زمن ما يسمى بمرحلة النضال السلبي، وإنما يبرز في اللحظات الأولى لعملية التحول الاجتماعي والسياسي..

بمعنى أن هذه النخب بصرف النظر عن دوافعها في الاشتراك في عملية التحول والتغيير، هي تعرف وتتفق إلى حدود عليا وقصوى ما لا تريد سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي إلا أن هذه النخب ليست متفقة ومنسجمة حول ما الذي تريده ولعل هذا التباين الصارخ في بعض اللحظات بين ما لا تريده والذي تريده، هذه النخب هو الذي يقود إلى التوتر والصدام..

فالنخبة السياسية والاجتماعية، التي قادت واشتركت في صناعة التحول في مصر أو تونس، هي متوحدة ومنسجمة مع بعضها البعض في ما لا تريده، ولكن حينما تغيرت الظروف السياسية والاجتماعية، وأصبح المطلوب هو ماذا تريد النخبة أو النخب.. ومن جراء الاختلاف والتباين على هذا الصعيد، تدخل هذه النخب مع بعضها البعض في صدام وتوتر وتباين صريح.. ولكون القوى الاجتماعية تعيش مرحلة السيولة، فإن أغلب هذه القوى تنزلق في مشروع الصدام والتوتر، لضمان موقعها في الوضع الجديد وتقزيم بعض القوى المنافسة..

إننا نعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية، التي تساهم في تفسير ظاهرة الصدام بين النخبة التي قادت التحول والتغيير في مجتمعها، هو أن هذه النخب تنتمي إلى أيدلوجيات مختلفة، وتتبنى خيارات سياسية مختلفة، وهذا الاختلاف والتباين يقود هذه النخب أن تعرف ما لا تريده، ولكنها لا تعرف حين بناء الوضع السياسي الجديد ما الذي تريده..

فالوحدة الشكلية والقشرية في مرحلة معرفة ما لا تريده، تتحول إلى تشظي وتشرذم وبناء تحالفات على القواعد وأسس جديدة في مرحلة التباين على الذي تريده هذه القوى والفعاليات..

2 - من المؤكد والطبيعي أن القوى المضادة للتحول والتغيير، تعمل بكل إمكاناتها لعرقلة أو إفشال عملية التحول والتغيير.. لهذا فإننا نعتقد أنه في كل التجارب الإنسانية والسياسية فإن القوى المضادة للتحول، لا تستسلم وترفع الراية البيضاء، وإنما تعمل على تجميع أطرافها وحشد طاقاتها لإفشال وعرقلة هذا التحول، ومعاقبة القوى الشعبية التي ساهمت في إسقاطها.. لهذا فإن القوى المضادة في كل هذه التجارب، تتحمل جزء من مسؤولية الانزلاق نحو العنف والتوتر المفتوح على كل الاحتمالات في الدول التي شهدت تحولا سياسيا قادته قوى الشعب المختلفة..

3 - لعل من أخطر المراحل التي يواجهها أي شعب من الشعوب، هي مرحلة السيولة السياسية والانسياب الأمني والتشظي الاجتماعي.. لأن هذه المرحلة لا راعي حقيقي وقانوني للمجتمع ومصالحه المتنوعة.. لأن في هذه المرحلة، تبرز كل الفئات المجرمة والغوغائية، والتي تعمل على استثمار هذه المرحلة في زيادة وتيرة جرائمها وحسم خلافاتها بالعنف واستخدام القوة العارية، وتصفية حساباتها مع قوى اجتماعية منافسة لها.. إضافة إلى هذا انزلاق بعض القوى المجتمعية نحو ممارسة العنف ضد المخالفين لهم في الخيارات السياسية والأولويات.. وبالذات بعض تلك القوى التي تشعر بأنها لم تحصل على مكاسب سياسية بمستوى جهدها ونضالها وتضحياتها..

أحسب أن هذه النقاط الثلاث، هي أحد المداخل الرئيسة لتفسير ما يجري من أحداث وتطورات صدامية وعنفية باسم الثورة في بعض البلدان التي سميت دول الربيع العربي..

ومن الضروري أن لا نغفل في هذا الإطار عن ذكر الحقيقة التالية:

أن صدام النخبة مع بعضها البعض ليس قدرا مقدرا، وإنما هي نتاج ظروف سياسية واجتماعية، حاولنا أن نوضح بعضها في السطور السابقة، إلا أنها في كل الأحوال ليست حتمية.. بمعنى أن بإمكان شعب من الشعوب أن يتجاوز حالة الصدام العنفي، ويدير تناقضاته الأفقية والعمودية بوسائل سلمية، تراكم من مكاسب المرحلة الجديدة، ولا تدخل المجتمع بكل شرائحه وفئاته في أتون الصدامات العبثية..

وإن بناء أفق ومجال جديد للتنافس السياسي بين قوى المجتمع السياسية والمدنية والنقابية، يتطلب من الجميع الاهتمام ببناء تفاهمات دستورية عميقة، تحول دون الانقلاب عليه أو التلاعب به من قبل قوة نافذة.. إننا نعتقد أنه لا يمكن بناء حياة سياسية جديدة، خالية من ممارسة العنف إلا ببناء منظومة قانونية متكاملة ولها سيادة على الجميع.. فهذا هو حجر الأساس في مشروع إنجاز الانتقال السياسي بأقل استخدام ممكن للعنف ومتوالياته السياسية والمجتمعية..

الإسلاميون في دول الربيع العربي

أبانت ردود الأفعال الشعبية والسياسية الضخمة، التي تلت اغتيال المناضل اليساري التونسي شكري بلعيد، على أن طريقة الاستقرار السياسي وإرساء معالم الديمقراطية وحقائق التعددية، ليس معبدا، وإنما هو مسار مليء بالأشواك والعقبات والصعوبات..

ويبدو أن الصعوبات التي تواجه القوى السياسية والاجتماعية في هذه الفترة، أكثر عمقا وتعقيدا من تلك الصعوبات التي كانت تواجههم قبل التحولات السياسية الكبرى التي جرت في تونس ومصر.. لأن ساحات هذه الدول أضحت مكشوفة للكثير من الإرادات المتصارعة على المستويات الثلاث المحلية والإقليمية والدولية..

وهذا بطبيعة الحال يتطلب لياقة سياسية واجتماعية متميزة، حتى تتمكن النخب الجديدة من إدارة دفة بلدانها بأقل خسائر ممكنة..

ونحن نعتقد لاعتبارات شعبية وسياسية عديدة، تتحمل التيارات الإسلامية بكل تلاوينها وأطيافها في هذه الدول مسؤولية كبرى.. فإذا أحسنت إدارة العملية السياسية، فإن هذه الشعوب ستتجاوز إلى حد بعيد المشاكل الكبرى التي تواجه مسيرتها..

أما إذا تعاملت هذه الجماعات والأطياف بعقلية الاستئثار والاستحواذ، وأنها الوحيدة القادرة على إنجاز التحول الديمقراطي، فإنها تدفع الأمور إلى المزيد من التعقيد والارتباك والصدام..

فالاستقرار السياسي العميق والتحول الديمقراطي المطلوب، لا يتحققان بالخطب الوعظية والشعارات الرغبوية، التي لا تلحظ معطيات الواقع وتعقيداته.. كما أنهما لا يتحققان بالسعي الدءوب للاستحواذ على كل المواقع السياسية، بحيث تهمش القوى السياسية والمدنية الأخرى.. وإنما الطريق الذي نراه صحيحا لإنجاز الاستقرار السياسي الحقيقي، والقيام بالخطوات الضرورية لإنجاز مفهوم التحول الديمقراطي، هو الذي يتأسس من خلال إرادة التوافق والبعد عن نزعات الاستحواذ والاستئثار والعمل على تفعيل الجوامع المشتركة مع جميع القوى السياسية والمدنية الجديدة..

وإذا أدارت القوى الإسلامية الصاعدة العملية السياسية بعيدا عن ذلك، فهي تؤسس بطريقة مباشرة وغير مباشرة إلى دخول الساحة السياسية والشعبية في دوامة العنف والعنف المضاد.. وما جرى خلال الأسابيع الماضية في تونس ومصر ليس ببعيد عنا.. لأن شعور القوى السياسية والشعبية بالاستبعاد، سيدفعها للتكتل مع بعضها مستفيدة من طبيعة الزخم الشعبي لتخريب أو إسقاط العملية السياسية الوليدة..

والخوف الحقيقي الذي تعكسه هذه الأحداث والتطورات، هو الانزلاق السريع نحو ممارسة العنف بكل صوره..

وبطبيعة الحال حينما تسود ظاهرة العنف السياسي، ويتم سفك الدم، فإن المآل المباشر لهذه العملية هي المقايضة بين الأمن والحرية..

بحيث تجد النخب الإسلامية السائدة، أنها لا تستطيع إكمال مشوار الاستقرار والتحول الديمقراطي، بدون ممارسة شيء من الاستبداد والديكتاتورية والتخلي عن بعض ضرورات الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان..

ولا ريب أن لهذه العملية متوالياتها الخطيرة، حيث أنها الخطوة الأولى في مشروع إنتاج ديكتاتورية سياسية جديدة، ولكن هذه المرة بنكهة دينية وبمسوغات شرعية..

فكل الأنظمة السياسية بصرف النظر عن أيدلوجيتها وشعاراتها التعبوية، تتشكل ولديها رغبة للخروج من براثن النظام السابق، ولكن هذه الأنظمة تصطدم بالواقع السياسي القائم وتعقيداته هذا من جهة، وجهة أخرى لا تحسن خياراتها السياسية والشعبية، فتتحول بعد حقبة من الزمن، من نظام سياسي يبشر بالحرية والعدالة والمساواة وإطلاق طاقات المجتمع، إلى نظام سياسي يكبل قوة المجتمع، ويضطهد معارضيه، ويقمع الأصوات الناقدة إليه.. وكل هذا يتم بمبررات ومسوغات يقبلها عقله السياسي ومنظومته الأيدلوجية.. فيكون في المحصلة النهائية نظاما سياسيا أفظع من سابقه على أكثر الصعد والمستويات..

فمن يضحي بالحرية من أجل الأمن والاستقرار الشكلي، وهو يستحوذ على كل المواقع والمقدرات، سينتهي به المطاف إلى بناء ديكتاتورية سياسية جديدة..

لهذا كله فإننا نعتقد أن التيارات الإسلامية وبالذات التيارات التي تصدرت بعد التحول السياسي المشهد في بلدانها، تتحمل مسؤولية كبرى على صعيد عدم إسقاط بلدها في أتون ودوامة العنف والعنف المضاد.. وهذا يتطلب من التيارات الإسلامية الالتفات إلى النقاط التالية:

1 - لا شك أن خطاب المعارضة يختلف جوهريا وسياسيا عن خطاب الحكم وإدارة الدول والمجتمعات.. ولعل من الأخطاء الكبرى التي ترتكبها بعض هذه الجماعات، هو في إدارتها لشؤون الدولة والحكم بإرثها السياسي المعارض.. لأن هذا الإرث السياسي والتعبوي المعارض، لن يعالج مشاكل المسيرة، وإنما يزيدها تعقيدا وبعدا عن مقتضيات الواقع السياسي الجديد..

من هنا فإن الجماعات الإسلامية أحوج ما تكون اليوم إلى صياغة خطاب سياسي جديد لها، يقطع مع خطابها السياسي المعارض، بحيث تأخذ بعين الاعتبار أنها تعيش في وضع سياسي جديد، تتحمل فيه مسؤولية إدارة الدولة ونظام الحكم.. وهذه المسؤولية لا تدار بخطاب سياسي - عدمي - تحريضي رغبوي، وإنما تدار بخطاب سياسي - تشاركي، لا يدعي امتلاك العصا السحرية، وإنما يتفاعل مع جميع المشروعات والمبادرات، للخروج مع بقية القوى برؤية ومبادرة سياسية قادرة على معالجة الاحتقانات والبعد عن احتمالات الانزلاق نحو العنف..

2 - لمقتضيات عديدة، أعتقد أن التيارات الإسلامية بكل أطيافها، عاجزة عن إدارة شؤون الدولة والحكم بوحدها.. وإن إصرارها على الاستحواذ والغلبة، سيكلفها الكثير لعل أدنى هذا الكثير هو أن هذه الجماعات لن تتمكن من إنجاز تحول سياسي - ديمقراطي في بلدها..

لهذا فإننا نعتقد أهمية سيادة العقل السياسي الائتلافي والتحالفي لدى الجماعات الإسلامية الصاعدة..

لأنه بدون توسيع مروحة الجماعات المشاركة في الحكم، لن تتمكن هذه الجماعات من إدارة العملية السياسية بعيدا عن العنف.. وحينما تسقط هذه الجماعات في العنف فإنها في حقيقة الأمر تقضي على كل الآمال السياسية العميقة، التي تتطلع إلى هذه اللحظة السياسية، بوصفها اللحظة المؤاتية لتأسيس قواعد التحول السياسي والديمقراطي في شعبها..

وهذا لن يتأتى إلا بالتزام التيارات الإسلامية بسياسة «أم الصبي» تعميقا لخيار التوافق والائتلاف والتحالف مع أكبر شريحة ممكنة من القوى السياسية والشعبية..

3 - من الضروري أن لا تساهم القوى السياسية الأخرى في إفشال تجربة الإسلاميين في الحكم.. لأنه سيكون لهذه المساهمة تداعيات خطيرة على مستوى الاستقرار السياسي والاجتماعي..

لهذا فإنني أعتقد أن المصلحة الاستراتيجية العليا لجميع هذه القوى السياسية بكل أطيافها وتلاوينها، أن ينجح الإسلاميون في تجربتهم السياسية الجديدة..

لأن في فشلهم تهديد مباشر للاستقرار السياسي والاجتماعي، لأن هذه الجماعات بزخمها الجماهيري ستنزل إلى الساحة لإسقاط من أسقطها، مما سيدخل البلد بأسره في مرحلة التعطيل السياسي المتبادل..

ليس هناك مصلحة سياسية حقيقية، في المستقبل المنظور لتغيير المعادلات السياسية الناشئة بعيدا عن صناديق الاقتراع والانتخابات..

لذلك فإنني أعتقد بأهمية أن تحسن التيارات الإسلامية من إدارة هذه المرحلة، لأنها هي التي ستحدد شكل الحياة السياسية للمنطقة العربية في المستقبل القريب..

الإسلام السياسي والتحولات العربية

من المؤكد أن تحولات الربيع العربي، فتحت المجال واسعا لكل القوى والتيارات الإسلامية، للبروز في المشهد السياسي، والمشاركة الفعالة في مختلف شؤون الحياة العامة.. ولكن هذه التيارات والجماعات، ستتفاوت مع بعضها البعض، على مستوى قراءتها السياسية للتحولات الراهنة، وأولويات العمل، وطبيعة مواجهة التحديات الجديدة سواء الداخلية أو الخارجية..

وفي تقديرنا أن المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، هو مرهون إلى حدي بعيد على طبيعة الأداء والممارسة السياسية للإسلاميين بكل تلاوينهم وأطيافهم.. فإذا كانت هذه الجماعات، متشبثة بآليات العمل الديمقراطي والسياسي، وتسعى نحو نسج علاقات حقيقية وحيوية مع بقية القوى السياسية لبناء كتلة وطنية تعمل من أجل تصفية الأرث الاستبدادي وتفكيك حواضنه وحوامله، وبناء حقائق ديمقراطية جديدة في المجال العام..

فإن هذه الجماعات ستتمكن من الظفر على مستوى المنافسات السياسية، وستكون إضافة نوعية في مسار التحول الديمقراطي..

أما إذا أساءت التقدير السياسي هذه الجماعات، ودخلت في صراعات مفتوحة مع بعض القوى السياسية والاجتماعية، وأختل لديها نظام الأولويات، وأدارت اللحظة بعقلية الاستحواذ على كل المواقع والمناصب، فإن هذه الجماعات ستؤخر من عملية التحول الديمقراطي، وستضيف عقدا جديدة وإرباكات إضافية في مشروع التحول والتغيير..

من هنا فإن دراسة واقع الجماعات الإسلامية في دول الربيع العربي، وطبيعة الخيارات السياسية والأولويات الجماعية، يحظى بأهمية قصوى، لأن هذه الجماعات وطبيعة خياراتها وأدائها في الحقبة الراهنة، سيحدد طبيعة المستقبل المنظور لدول الربيع العربي وانعكاساته على عموم المنطقة ودول الشرق الأوسط..

ولكي نتمكن من قراءة هذه التحولات بشكل دقيق، نحن بحاجة إلى معرفة التحديات والتطورات، وإبراز ميكانيزمات عملها والتعريف بالخيارات السياسية، التي تعزز من فرص إنجاز التحول الديمقراطي المنشود في دول الربيع العربي خصوصا والمنطقة العربية عموما.

وتؤكد تطورات الأحداث في دول الربيع العربي، أن قوى الإسلام السياسي أمام فرصة تاريخية للمساهمة في مشروع التحول الديمقراطي في المنطقة.. وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي الالتزام بمسألتين أساسيتين وهما:

1 - الالتزام بالديمقراطية بكل آلياتها وميكانيزمات عملها، بوصفها الخيار الوحيد لإدارة المجال العام على أسس جديدة في المنقطة العربية.. فالديمقراطية ليست تكتيكا للتمكن السياسي، وإنما هي خيار نهائي..

إذا تمكنت قوى الإسلام السياسي من الالتزام بالديمقراطية ومقتضياتها، فإن هذه القوى وبزخمها الشعبي، ستساهم بإيجابية في عملية التحول الديمقراطي في المنطقة..

2 - عدم إسقاط المنطقة في الفتن الطائفية والمذهبية، وهذا يتطلب من قوى الإسلام السياسي، خلق مقاربة فكرية وسياسية جديدة لحقيقة التعدد الديني والمذهبي في المنطقة.. ولا ريب أن انزلاق قوى الإسلام السياسي نحو الفتن الطائفية والمذهبية، سيضيع فرصة مشاركتها الفعالة في مشروع التحول الديمقراطي..

ويبدو من مجموع المعطيات السياسية والإستراتيجية والأمنية المتوفرة، عن بلدان الربيع العربي، إن الأمور تتجه فيها إلى تسويات كبرى تحول دون تحقيق انتصار كاسح لأي طرف سياسي، وإنما إلى تسوية تشترك جميع القوى بتفاوت في صنعها وإدارتها. وعلى ضوء هذه القراءة فان الأوضاع السياسية فيها تتجه إلى توزيع مصادر القوة في الاجتماع الوطني بين العسكر والحركات الإسلامية بكل تشكيلاتها وأطيافها وألوانها.. بحيث تكون الدولة والخيارات الإستراتيجية بيد المؤسسة العسكرية، أما السلطة كفضاء للتنافس والتداول، فسيكون في أغلب هذه الدول بيد الحركات الإسلامية..

وطبيعة المستقبل السياسي المنظور لدول الربيع العربي، ستكون مرهونة إلى حد بعيد إلى طبيعة العلاقة التي ستتشكل بين العسكر والإسلاميين.. فإذا كانت العلاقة قائمة على أساس التناغم التام، فإن الأمور تتجه إلى أن تكون دول الربيع العربي كأوضاعها السابقة على المستوى الاستراتيجي مع تغير نخبتها السياسية... أما إذا كان الإسلاميون ينشدون بناء دولة مدنية - ديمقراطية، ويبادرون باتجاه بناء كتلة سياسية - ديمقراطية واسعة تتجه صوب هذا الهدف، وتحول دون هيمنة العسكر، فإن النتيجة حتى ولو كانت هناك صعوبات حقيقية آنية من جراء التنافس والتدافع والصراع، هي اقتراب دول الربيع العربي من النموذج الديمقراطي الذي أرسى قواعد العملية السياسية الصحيحة والمتجهة صوب التداول والمشاركة..

تعيش المنطقة العربية بأسرها مرحلة حاسمة من تاريخها، وتنطوي على تحولات عميقة في الأفكار والخيارات والاجتماع السياسي.. وفي تقديرنا أن قوى الإسلام السياسي بما تمتلك من ثقل اجتماعي وحضور سياسي وثقافي، تتحمل مسؤولية خاصة في هذه المرحلة.. بحيث أن هذه القوى بإمكانها أن تحدد طبيعة المستقبل السياسي المنظور للمنطقة.. فإذا انحازت هذه القوى إلى الديمقراطية شكلا ومضمونا وإلى الخيارات المدنية في إدارة الاجتماع السياسي والوطني، بعيدا عن النزعات الديماغوجية، فإن هذه القوى ستشكل إضافة نوعية في مشروع بناء الاستقرار السياسي في المنطقة العربية على أسس وقواعد جديدة..

أما إذا انحازت هذه القوى إلى قراءتها الأيدلوجية المغلقة للواقع ودورها، فإنها ستتحول إلى قوة كابحة تزيد من المشكلات العربية المزمنة، وتفضي إلى المزيد من الإرباك وزيادة الهواجس بين مختلف الأطياف والأطراف..

من هنا نشعر بأهمية مراقبة أداء وممارسات هذه الجماعات والقوى، لأن طبيعة الأداء والممارسات، هو الذي سيحدد إلى حد بعيد طبيعة الخيارات القادمة في المنطقة العربية..

وعلى كل حال ما نود أن نقوله، كلما تقترب هذه الجماعات من الطاقة التوحيدية والمدنية للإسلام، فإنها ستتبنى خيارات سياسية ومجتمعية تساهم في تطوير الواقع العربي وزيادة فرص تقدمه..

أما إذا تملك هذه الجماعات نزعات الاستحواذ والأدلجة والإقصاء، فإن المنطقة مقبلة من جراء ذلك على إخفاقات سياسية جديدة على مستوى الحكم السياسي وطبيعة إدارة العلاقة بين القوى السياسية والاجتماعية.. «ولا يفترض بهذه الحالة الإسلامية أن تقدم نفسها على أنها الحل الأوحد والحاكم الوحيد، وأنها لا تستطيع أن تحكم إلا بمفردها، لأن عليها أن تتقبل التعايش مع قوى سياسية أخرى موجودة وفاعلة على الساحة العربية، والقرار النهائي هو بيد الشعب الذي عليه أن يختار سلطته الحاكمة في صندوق الاقتراع، وعليها أن تمارس دورها على هذا الأساس وأن تقدم أفضل ما عندها» على حد تعبير «عبد الله تركماني» في بحثه الموسوم ب «الدولة والمواطنة في فكر وتجربة الإسلام السياسي المعاصر».. وإذا لم تتمكن قوى الإسلام السياسي من إدارة المرحلة السياسية القائمة بوصفها قوى وجماعات سياسية واجتماعية تؤثر وتتأثر، تأخذ وتعطي، فإن المنطقة مقبلة على موجة جديدة من التطرف والتعصب الديني والمذهبي..

لكي لا نسقط مجددا

لا ريب أن التوترات السياسية والطائفية والمذهبية التي تجري في أكثر من بلد عربي، وتهدد وحدة وانسجام النسيج الاجتماعي في هذه البلدان، يعد من المخاطر الكبرى التي تواجه العرب في هذه اللحظة التاريخية الحساسة.. وما جرى ويجري في العراق وسوريا وقبلهما في جزائر التسعينيات، قد يجري في بلدان عربية أخرى.. وذلك لأن الحوامل الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي أنتجت تلك المشاكل الكارثية في تلك البلدان هي ذاتها موجودة بشكل أو بآخر وفي مرحلة الكمون في مناطق وبلدان عربية أخرى.. وسوق هذا الكلام ليس تهويلا أو تخويفا، وإنما هو جزء من القراءة الموضوعية لطبيعة الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة..

ولكن ما نقوله على المستويين السياسي والاجتماعي، ليس قدرا مقدرا، أو حتمية تاريخية واجتماعية، وإنما هو قراءة وفق المعطيات القائمة، ولكن بإمكاننا العمل على تفكيك تلك الحواضن والحوامل التي تنتج ظواهر التعصب وبث الكراهية.. وفي سياق تفكيك هذه الظواهر نود التأكيد على النقاط التالية:

1 - دعوة كل المؤسسات والأطر والجهات والفعاليات الدينية والمدنية، لصياغة رؤية أو مشروع عربي للتسامح.. لأن البديل الحضاري عن ظواهر التطرف والتعصب والكراهية، هو التسامح بوصفه العنوان العريض لرؤية حضارية وإنسانية تحترم الاختلاف وتحمي التعدد والتنوع وتصون الإنسان ماديا ومعنويا، مطلق الإنسان بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قوميته أو عرقيته أو أي عنوان آخر للإنسان فردا أو جماعة..

2 - يتعرض المواطن العربي اليوم إلى سيل جارف من المشاهد والرسائل الإعلامية والإعلانية، التي تغذي خيار الفتن والتشظي في المنطقة العربية.. وتعزز لدى الإنسان العربي انتماءات ما قبل المواطنة والدولة الحديثة، لذلك بدأت تبرز في الساحة العربي وبشكل مخيف كل عناوين الهويات الفرعية.. وهذا لو جردناه من حمولته العنفية والسياسية، لأضحى حالة طبيعية.. ولكن ولاعتبارات عديدة، برزت هذه العناوين الفرعية، وهي جميعا محملة بخصومة أو عداء مع أهل الهوية الفرعية الأخرى.. بحيث كل مواطن عربي ينتمي إلى انتماء فرعي، يرى في العربي الآخر الذي ينتمي إلى انتماء فرعي آخر، هو خصمه وعدوه، والذي ينبغي أن يعمل لاجتثاثه والقضاء عليه..

ووسائل الإعلام بدأت تغذي هذه النزعة الاستئصالية - الغرائزية.. لذلك أضحت التعدديات في العالم العربي، وكأنها قنابل موقوتة قابلة للانفجار والاشتعال في أي وقت.. من هنا ثمة حاجة ماسة، أن تكون هناك رسالة للمؤسسات الإعلامية، تدعوها للكف عن ممارسة دور التحريض والتعبئة السلبية، وتدعوها إلى المساهمة الفعالة في تعزيز قيم العفو والحوار والشراكة والتسامح في الفضاء العربي..

وتشجيع بعض المؤسسات الإعلامية، إلى تأسيس برامج ثقافية وإعلامية تعنى بقيم الحرية واحترام التعددية وحماية حقوق الإنسان..

3 - لا شك أن التواصل المباشر مع الشخصيات والفعاليات الدينية والمدنية، ودعوتها إلى الوقوف بوجه حالة الانحدار الكارثية التي تشهدها المنطقة العربية، يساهم في إيجاد مناخ إيجابي لأي مبادرة إيجابية على صعيد تطوير العلاقة بين مختلف تعبيرات ومكونات وأطياف المجتمعات العربية.. من هنا نتبع الحاجة إلى التواصل المباشر بين مختلف الفعاليات الدينية والمدنية للقيام بدورها الحضاري على صعيد وأد الفتن ونزعة الاستئصال لاعتبارات دينية أو مذهبية التي بدأت بالبروز في أكثر من بلد عربي..

إننا جميعا كعرب نعيش لحظة حساسة ومصيرية، ولا يمكن لنا لاعتبارات حضارية وأخلاقية وإنسانية أن نبقى متفرجين على ما يجري في المنطقة من فتن واقتتال داخلي، وانخراط في حروب أهلية كامنة أو صريحة.. لذلك ثمة ضرورة لرفع الصوت باتجاه وقف الانحدار العربي المتسارع، والمطالبة بالخروج السريع من دوامة العنف والعنف المضاد..

والذي يثير الأسى على أكثر من صعيد، أن أغلب الجماعات الدينية التي لها مساحة تأثير شعبي واسعة، هي مبتلاة بعطب القصور عن مواكبة التحولات المتسارعة التي تشهدها المجتمعات الحديثة والمعاصرة..

لذلك تحولت هذه الجماعات ومشروعاتها من جزء من مشروع الحل، إلى جزء من المشكلة، وهذا مما يفاقم الأوضاع ويدخلها في أتون منزلقات جديدة..

وحين التأمل في العديد من وقائع الحياة العربية الراهنة، نرى أن من المخاطر الكبرى التي تواجهنا جميعا، وقد تسبب في ضياع الكثير من المكاسب الراهنة والمستقبلية، هو شيوع ظاهرة العنف والقتل بسبب الرأي والموقف والقناعة الفكرية والدينية، وصمت نخب العرب المطبق تجاه هذه الظواهر المرضية والخطيرة في آن.. فممارسة العنف ينبغي أن تكون مرفوضة بكل العناوين والاعتبارات.. ومن يقبل بممارسة العنف العاري بحق منافسه أو خصمه، فإن كرة نار العنف ستعود إليه عاجلا أو آجلا.. وسفك الدم لا يقود إلى صيانة عقيدة أو حماية معتقد، بل هو الاختراق والتجاوز بعينه..

لذلك فإننا نشعر بأهمية أن يرفع الجميع الصوت ضد عمليات العنف والقتل التي تزدحم بها شاشات التلفاز اليوم.. لأنها عمليات تقضي على آمال الجميع، وتدخلهم في دوامة العنف والعنف المضاد، التفجير والتفجير المقابل، الاغتيال والاغتيال المقابل، وكل هذه الصور والوقائع تدمر أسس الاستقرار السياسي والاجتماعي، وتقضي على كل روابط النسيج الاجتماعي، وتجعل جميع الأطياف ضد بعضها البعض.. وهذا ينهي الأوطان، ويدمر الإنسان، ويجعل العنف العاري هي اللغة السائدة بين الناس.. فلكي لا نسقط في دوامة العنف، كما سقط غيرنا، تعالوا جميعا ندين ممارسة العنف، ونرفع الصوت عاليا ضد من يسفك الدم بسبب خلاف عقدي أو سياسي أو اجتماعي، ونعمل من أجل إرساء حقائق التسامح والعفو وحسن الظن والرحمة والألفة في الفضاء الاجتماعي والوطني..

الإسلام السياسي والرهان الخاسر

على المستوى العربي والإسلامي العام، ثمة قناعة يعبر عنها في بعض الأحيان بمواربة أو تورية ومفاد هذه القناعة: إننا كدول عربية وإسلامية وكذلك شخصيات وفعاليات وجماعات، لماذا، نعمل من أجل تدمير تنظيم داعش، وهل لنا مصلحة في ظل الانقسام الطائفي، وملامح الوفاق أو التوافق الأمريكي  الإيراني في محاربة تنظيم داعش وأمثاله من الجماعات العربية. أم مصلحتنا الحقيقية على الضد من ذلك تماما، وبالذات بعد فشل أو إجهاض مشروع الأخوان في المنطقة. وبالتالي قناعة يشترك في بلورتها والبوح بها، مجموعات متنوعة أيدلوجيا وسياسيا، ولكنها تشترك في الانتماء الإسلامي  السني، وكذلك في الشعور المشترك بالخطر الإيراني الذي يعتبره العض أكثر خطرا من الخطر الصهيوني.

وإذا أردنا أن نتوسع قليلا في هذه المسألة نقول الأتي: في ظل الانقسام الطائفي الممتد في الكثير من مناطق وبلدان العالم العربي والإسلامي، وفي سياق ما وصلت وآلت إليه دول الربيع العربي، ثمة شعور أن المنطقة بكل دولها وأطرافها، تعيش حالة من غياب التوازن الاستراتيجي بين دولها ومحيطها الإقليمي، كما أنه بين مشروعاتها السياسية التي تعبر عنها دول عربية أو دول إسلامية حليفة لهذه الدول..

وإننا كدول عربية وإسلامية وكذلك فعاليات وجماعات، لم نتمكن لأسباب ذاتية وموضوعية من إعادة التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وإن استمرار حالة اللاتوازن الاستراتيجي يهدد الأمن القومي للعرب، كما يهدد المصالح العليا للعالم العربي برمته. وإنه في ظل عدم قدرتنا على خلق هذا التوازن، برز في المشهد العربي والإسلامي تنظيم داعش وإخوانه من الجماعات التكفيرية والإرهابية، والذي نختلف معه، ولا نلتقي أو نتقاطع استراتيجيا مع طريقته ومنهجه في العمل العام.

إلا أن هذا التنظيم الذي بعضنا يرفضه جملة وتفصيلا، وبعضنا الآخر يقبله في الإجمال ويتحفظ على بعض أولوياته وممارساته، تمكن هذا التنظيم من تحقيق نجاحا ومكاسب، تضعف إيران بوصفها العدو والخطر. لهذا فإن السنة في المنطقة دولا وجماعات وشخصيات ترى في تنظيم داعش وأخواته، بأنه رأس الحربة في مشروع إضعاف إيران وخلق التوازن الاستراتيجي معها. فتعالوا اليوم بغض النظر عن ممارساتها، نرفض ضربها والقضاء عليها، حتى تتمكن من كسر الصعود الإيراني، وتحقيق التوازن الاستراتيجي، وبعد أن نصل إلى مرادنا نتخلص من هذا التنظيم ونعمل بكل إمكانياتنا للقضاء عليه. أسوق هذا الكلام للقول أنه ثمة نخبا عربية وإسلامية  سنية تعبر عن هذه القناعة، وترى أن هذه الجماعات في ظل هذه الانكسارات هي القادرة وحدها على خلق التوازن الاستراتيجي المطلوب.

لذلك فإن هذه النخب، ترفض مشروع التحالف الدولي، وكأنه يدمر الخيار الوحيد المتبقي لإضعاف الصعود والنفوذ الإيراني.

وحسنا فعلت حكومة خادم الحرمين الشريفين، حينما دعت وساهمت بفعالية في تأسيس مشروع التحالف الدولي للقضاء على داعش والمجموعات الإرهابية الأخرى. لأن كل هذه الجماعات والمجموعات بنهجها التكفيري وسيرتها العنفية، تشكل خطرا حقيقيا على أمن واستقرار المنطقة.

وحينما نتخلص من هذا العبء الإرهابي، وننظف ساحاتنا العربية من فكره ومخاطره، نتمكن من خلق حالة التوازن الاستراتيجي المطلوب.

وإذا سمحنا اليوم لهذه الجماعات بالتمدد الأفقي والعمودي، سيأتي ذلك اليوم الذي سنشعر جميعا بخطرها وتهديدها المباشر على أمن واستقرار الجميع.

وإن استدعاء أو بناء تحالف دولي لمحاربة هذه التنظيمات الإرهابية، هو أفضل الحلول للتخلص من هذه الآفة الخطيرة التي بدأت تستشري في المنطقة العربية والإسلامية كلها.

لأننا لو سمحنا لها بالتمدد تحت إطار كسر الصعود والنفوذ الإيراني، فإنها ستراكم من عناصر قوتها وتمددها الأفقي والعمودي، مما يصعب علينا مستقبلا مشروع القضاء عليها.

وإن خلق حالة التوازن الاستراتيجي متاحة لدول المنطقة، حينما تتحد وتتوافق في الأولويات والاستراتيجيات بدون الحاجة إلى الجماعات التكفيرية التي وإن حققت لنا بعض المكاسب، إلا أن أضرارها ومخاطرها أضعاف ما نرجوه منها.

ومن الضروري في هذا الإطار القول: أن القناعة التي عبرت عنها بعض النخب العربية أزاء ظاهرة داعش وأخواتها، ليست نابعة من قراءة عميقة وموضوعية إلى طبيعة الصراع السياسي القائم في المنطقة اليوم، وإنما هي قراءة مأزومة، نابعة في تقديرنا من ضياع الحلم لبعض جماعات الإسلام السياسي من جراء مآلات دول الربيع العربي. لأن هذه الجماعات تقاطعت منذ اللحظة الأولى مع تحولات الربيع العربي، وراهنت إستراتيجيا على قدرتها على تجسير العلاقة مع الولايات المتحدة عبر الحليف أو الصديق التركي للسيطرة الكاملة على كل دول الربيع العربي، مما سيوفر لها قوة سياسية هائلة، تمكنها من تغيير خريطة التحالفات في منطقة الشرق الأوسط، ولكن حسابات الحقل لم تكن منسجمة أو متناغمة مع حسابات البيدر، فلم يصل هذا المشروع  الحلم، إلى نهاياته السعيدة. ودخلت دول الربيع العربي في مآزق عديدة، انتهت في بعض الدول إلى خروج جماعات الإسلام السياسي من الحكم ومعادلات الحياة السياسية الجديدة.

وفي ظل حالة الاحتقان التي ترتبت على مآلات الربيع العربي، بقي خيار الجماعات التكفيرية بوصفها الخيار الوحيد الذي يتمكن من تغيير المعادلة وإنهاء حالة الفراغ الاستراتيجي، ودفع جميع الأطراف في ظل حالة الخوف من داعش وأخواتها، إلى إعادة الاعتبار والتواصل مع جماعات الإسلام السياسي المعتدلة.

ولكن لأسباب عديدة، لا داعي لذكرها، لم يتحقق هذا السيناريو المأمول. فأضحى الخيار المتاح أمامهم، هو السماح لهذه الجماعات بالتمدد وبناء قوتها، لكونها تتمدد وتحقق انتصارات على أعدائنا على المستويين الطائفي والسياسي، وإن مراكمة هذه الانتصارات سيفضي إلى إعادة التوازن الاستراتيجي، الذي سيملأ بالدور التركي ومن وراءه الجماعات المحسوبة عليه أو المتحالفة معه.

ولكن مبادرة المملكة في بناء التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب، أفشل هذه المخططات والتصورات والرغبات.

وذلك لأن الأفكار المأزومة، لا يمكن أن تحقق منجزات نوعية، لأنها أفكار لم تلحظ الظروف والمعطيات القائمة، وإنما هي نتاج ردود الأفعال لما وصلت إليه بعض دول الربيع العربي.

فالتعامل مع أغلبية المسلمين بوصفهم طائفة، هو أحد الجذور الأساسية للكثير من الأخطاء والرهانات الخاسرة التي وقعت فيها جماعات الإسلام السياسي.

كما أن الاندماج مع مشروعات الانقسام الطائفي، تلقي بظلها الثقيل على خيارات هذه الجماعات، فتتحول على المستوى الفعلي من جماعات اعتدال ووسطية، إلى جماعات تراهن على الجماعات المتطرفة وتعمل على مساندتها سياسيا، لا قتناص مكاسبها وتوظيفه حزبيا بما يخدم التطلعات السياسية لهذه الجماعات.

الأصولية والسياسة

بعيدا عن طبيعة المواقف والقناعات من ظاهرة الربيع العربي وتحولاتها المختلفة، من الضروري الالتفات إلى حقيقة عميقة في مسار هذه التحولات الكبرى التي جرت ولا زالت تداعياتها قائمة في أكثر من بلد عربي. ويمكن بيان هذه الحقيقة كالآتي: إن ما سمي بالربيع العربي هي عبارة عن ظاهرة سياسية  مجتمعية عميقة جرت في بعض المجتمعات العربية، وهي وليدة عوامل وأسباب عديدة، ولها جوانب مختلفة، ولا يمكن اختزالها في بعد أو جانب واحد. فهي كأي ظاهرة سياسية  مجتمعية، لها عواملها المتعددة وأسبابها المختلفة وإن هذه الظاهرة في تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة لا زالت قائمة، ومن الصعب اختزال هذه الظاهرة وأمثالها في برهة زمنية وجيزة. وإن طبيعة المآلات التي وصلت إليها هذه الظاهرة، ليست نهاية المطاف، بل ثمة تحولات قيمية ومجتمعية عديدة تحتاج إلى تظهير تشهدها مجتمعات الربيع العربي.

ونود في هذا المقال الالتفات إلى طبيعة الخيارات والمآلات التي وصلت إليها جماعات الإسلام السياسي في بلدان الربيع العربي.

وقبل توضيح هذه الخيارات والمآلات، من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن جماعات الإسلام السياسي، ليست على رأي واحد أو قناعة سياسية ومجتمعية واحدة، بل هي طيف من القوى والمجموعات التي تتبنى المرجعية الإسلامية وتتطلع إلى سيادة الإسلام والشريعة الحياة العامة للمسلمين، إلا أن هذه المجموعات متفاوتة ومتنوعة في خطابها السياسي ومقارباتها الاجتماعية وطبيعة نظرتها وقناعاتها إلى طبيعة اللحظة الراهنة وكيفية التعامل مع الأطراف والأطياف الأخرى. وبالتالي فإننا لا نتحدث عن مجموعات متجانسة في كل شيء، بل هي مجموعات متنوعة ومتعددة إلا أنها جميعا تتبنى المرجعية الإسلامية. ولكونها جماعات غير متجانسة وتعيش التعدد في أكثر من مجال، لذلك لا يصح إطلاق أحكام ومواقف واحدة، على مجموعات متمايزة فكريا وسياسيا.

لذلك فنحن نود تركيز الحديث حول القوى السياسية الإسلامية التي تصدرت المشهد العام في دول الربيع العربي. فالأداء السياسي لحزب النهضة في تونس مغاير عن الأداء السياسي لحركة الأخوان في مصر.

فالأولى تعاملت بواقعية مع مشروع التحول نحو الديمقراطية وابتعدت في خطابها السياسي عن النزعة الدعوية التي تخلط بين إدارة ما هو كائن مع ما ينبغي أن يكون. وجماعة الأخوان في مصر، تعاملت في أداءها وخطابها السياسي بنزعة دعوية طاغية، وصنعت للناس أوهاما وآمالا غير قادرة على تحقيقها في أقل التقادير في المدى المنظور، كما هيمنت على علاقاتها مع الأطراف والأطياف السياسية نزعة الهيمنة والسلطة. فالأطراف التي لا تتفق معها في الخطاب أو الأولويات أضحت من الفلول، والذي يتناغم مع خطابها وأداءها لا موقع له في الخريطة السياسية.

وبالتالي فإن التباين والاختلاف في الخطاب والأداء بين المجموعات الإسلامية، ليس إدعاءا يدعى، وإنما هو حقيقة قائمة وشاخصة في كل بلدان الربيع العربي.

وعلى ضوء هذه الحقيقة نعمل على الاقتراب من تقويم الأداء السياسي لهذه الجماعات من خلال النقاط التالية:

1 ليس من ينجح في مشروع الدعوة قادر على النجاح في مشروع العمل السياسي وإدارة التنافس السياسي مع مختلف الأطياف في المجتمع.

فأغلب هذه الجماعات استطاعت عبر أدوات وآليات عديدة للنفاذ لدى شرائح المجتمع المختلفة، وتمكنت من تحقيق منجزات ومكاسب عديدة سواء على مستوى الدعوة وإقناع الناس بالخطاب والمشروع الإسلامي أو على مستوى الخدمات ومشروعات الحماية الاجتماعية والاقتصادية للفئات الاجتماعية المهمشة. ولكن هذا التميز في الحقل الدعوي والاجتماعي، لم يؤد إلى تميز في الحقل السياسي. بل على العكس من ذلك نتمكن من القول: أن بعض هذه الجماعات ارتكبت خطايا في عملها وأداءها السياسي، مما أربك قاعدتها الاجتماعية، وأدخلها في أتون المقارنة مع المجموعات السياسية الأخرى. وعلى ضوء هذه الحقيقة، يمكن الوصول إلى نتيجة أخرى ومفادها: أن الجماعات الإسلامية في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة، تتسع قاعدتها الاجتماعية وتزداد شعبية. وإن انخراطها السياسي ووصولها إلى الحكم يخسرها شعبيا ويسحب من رصيدها الاجتماعي. وبالتالي فإن هذه الجماعات بحاجة إلى لياقة إذا صح التعبير في العمل السياسي مختلفة عن لياقتها في العمل الدعوي.

وإن النجاح والتميز في الحقل الاجتماعي، لا يساوي النجاح المضمون في الحقل السياسي.

فجماعة الإخوان في مصر في مرحلة الدعوة والأنشطة الاجتماعية والخدمية المختلفة، تتصدر المشهد العام، ويشار إليها بالبنان في التميز وحسن الأداء.

ولكن حينما وصلت إلى الحكم وإدارة جمهورية مصر العربية من موقع السيطرة على الحكومة والرئاسة، فإنها ارتكبت الكثير من الأخطاء التي ساهمت في تبديد بعض مكاسبها في الحقلين الدعوي والاجتماعي.

وإذا استمرت هذه الجماعة بدون تصحيح أخطاءها الفادحة، فإنها ستستمر في التراجع وخسارة بعض قاعدتها الشعبية.

2 أبانت الجماعات الإسلامية عن خلل حقيقي في مشروع بناء التحالفات السياسية مع الأفرقاء الآخرين، وقدرة هذه التحالفات على البقاء في ظل صراعات سياسية واجتماعية. وينعكس هذا الخلل بشكل أساسي في رفض هذه الجماعات التعامل مع الحقل السياسي والمنافسين السياسيين بعقلية تسووية، تدفع هذه العقلية جميع الأطراف للتنازل من أجل بناء أوضاع سياسية أكثر استقرارا وقدرة على الصمود أمام التحولات السياسية المتسارعة.

فالأخوان مثلا في مصر تمسكوا بنتائج الانتخابات البرلمانية واعتبروها هي النتيجة التي تخولهم إلى ممارسة السلطة بمفردهم أو بدون منافسين حقيقيين. لذلك وبفعل هذه العقلية خسروا بعض حلفاءهم، كما خسروا من جراء التباين في مشروع الترشيح لرئاسة الجمهورية بعض قياداتهم وكوادرهم الفاعلة. ولعل ما تمتاز به جماعة النهضة في تونس هو قدرتها على بناء التحالفات السياسية وعدم استعجالها الوصول إلى القمة السياسية. فهي تتحرك بواقعية سياسية، وتعمل على بناء حياة سياسية مستقرة وملتزمه بمقتضيات الدستور. وإن هذا العمل يستحق من الجميع التنازل حتى لا تفشل العملية السياسية برمتها.

فالمهم ليس أن تصل جماعتي إلى السلطة، المهم بناء واقع سياسي جديد، يعرقل أية نزعة استبدادية، أو يحول دون استفراد أية قوة سياسية بالمشهد السياسي. وإن هذا الهدف الاستراتيجي يستحق من جميع الأطراف التنازل وإنجاز تسوية سياسية  تاريخية لصالح التحول نحو الديمقراطية والاستقرار السياسي العميق.

فطبيعة تحولات الربيع العربي ومحطاتها المختلفة، تجعلنا ندرك أن هذه التحولات لا يمكن أن ينتصر فيها طرف انتصار كاسح مهما أوتي من قوة شعبية أو أرث تاريخي ونضالي. فالتحولات لا تفسح المجال لطرف واحد للتحكم في الساحة والمشهد.

من هنا فإن طبيعة التحولات والقوى الفاعلة فيها، تقتضي أيضا بناء التحالفات والذهاب بعيدا في مشروع التسويات السياسية. والقوى السياسية التي ترفض هذا النهج والخيار، فإنها شيئا فشيئا ستخرج من المعادلة القائمة. وهذا ليس تبريرا لبعض المآلات، وإنما للقول أن طبيعة المرحلة تقتضي التقاطع مع القوى السياسية المنافسة، وتنمية المساحات المشتركة معها، من أجل الخروج من المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة.

3 لا يمكن لمن يتوسل وسائل العمل السياسي المختلفة، أن يحقق إنجازات وانتصارات كاسحة، بحيث تغيب جميع المنافسين أو المناوئين. فطبيعة العمل السياسي أنه يحقق الغايات والأهداف على مدى زمني طويل ومتدرج في آن.

ولعل من الأخطاء البارزة التي وقعت فيها التيارات الإسلامية، أنها انخرطت في العمل السياسي بذهنية [لنا الصدر دون العالمين أو القبر] وبالتالي فإن هذه الذهنية تفتح حالة المغالبة مع المنافسين إلى أقصى حالاتها، مما يهيئ المناخ لصناعة الخصوم وخسارة الأصدقاء..

لهذا من الضروري أن تلتزم هذه الجماعات وهي تنشط في الحقل السياسي بمقولة الفلاسفة [الوجود الناقص خير من العدم المطلق]..

وعليه فإن العمل السياسي، لا يوصل إلى انتصارات كاسحة، وإنما يوصل إلى بناء شراكه واسعة مع بقية القوى، لإنجاز ما يمكن إنجازه.

وإن الكثير من الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها جماعات الإسلام السياسي، يعود في تقديرنا إلى تلك الذهنية التي تحكمت في هذه الجماعات والتي عاشت فترات طويلة من النضال السلبي، وترى في ما سمي بالربيع العربي فرصة استثنائية، مما يدفعها نفسيا وسلوكيا للاستعجال في مشروع التمكن. ومن المؤكد أن نزعة الاستعجال مع قصر التجربة وقلة الخبرة، يقود إلى ارتكاب خطايا أساسية، تضر بسمعة هذه التيارات وصدقيتها في العمل العام.

وخلاصة القول: أن السياسة لا يمكن أن تمارس وتدار بذهنية الدعوة، وإن الانخراط فيها بنسق ما ينبغي أن يكون، يجعلها ترتكب أخطاء تصل في بعض الأحيان إلى حماقات تحرق بعض أجزاء التاريخ النضالي لهذه التيارات والجماعات.

الإسلام السياسي والدولة الحديثة

حين التأمل العميق في طبيعة المشكلات والأزمات التي يعاني منها الواقع الإسلامي المعاصر. تتأكد الحاجة إلى ضرورة العمل على بناء دولة حديثة حاضنة لشعبها ومعبرة عن ذاته وخصائصه، وتعمل بكل إمكاناتها من أجل حمايته من المخاطر وتحقيق مصالحة الراهنة والمستقبلية.

لأن أم المشاكل إذا جاز التعبير الذي يعاني منها المجال الإسلامي هو في طبيعة الدولة القائمة التي تلتهم كل ما عداها، وتتعامل مع شعبها وكأنه خصمها الذي يجب إضعافه وإشعاله بأمور وقضايا أقل ما يقال عنها أنها تافهة. وقدمت الجماعات الإسلامية نفسها في الفضاء السياسي والثقافي الإسلامي بوصفها هي التي تمتلك الحلول والمعالجات لأزمة الدولة المعاصرة من المنظور الإسلامي.

ومع صعود بعض الجماعات ووصولها إلى الحكم، أبانت هذه الجماعات عن ضعف حقيقي على مستوى اللياقة والفهم والتسيير لشؤون الدولة، ولم تقدم خلال هذه الفترة أي منجز يكون شفيعها سواء لدى شعبها أو النخب السياسية المنافسة. بل في بعض الأحيان قدمت نماذج عكسية على هذا الصعيد.

فالخطابات الدعوية والوعظية بوحدها، لا تعكس قدرة على تسيير شؤون الدولة بطريقة مغايرة للطريقة التي سارت عليها النخب السياسية الفاشلة أو التي أخفقت لاعتبارات عديدة في إدارة مؤسسة الدولة بطريقة تنسجم والرؤى الأيدلوجية والفكرية التي تحملها وتتبناها.

فبعض هذه النخب تعاملت مع مؤسسة الدولة بعقلية حزبية ضيقة، بحيث طردت من فضاء الدولة كل الكفاءات والقدرات التي لا تنسجم ومنطقها الأيدلوجي والحزبي، ومن جراء هذه الممارسة الاستئصالية، أفقرت مؤسسة الدولة من الكثير من الطاقات النوعية القادرة على تسيير شؤون الدولة. ولكون مؤسسة الدولة لا تتحمل الفراغ فقد قامت هذه النخب بتقديم أهل الثقة على أهل الكفاءة، مما أسهم بشكل مباشر في إخفاق مؤسسة الدولة في الكثير من خياراتها ومشروعاتها.

لأن هذه النخب تعاملت مع مؤسسات الدولة بوصفها غنيمة لكل أتباع هذا الحزب أو الأيدلوجيا.

ولعل الكثير من الأزمات التي عاناها المجال الإسلامي خلال العقود الماضية، يعود في أحد أسبابه إلى عدم قدرة تلك النخب من الفصل بين فضائها الأيدلوجي والحزبي وفضاء الدولة والمصالح العليا للشعب.

فأضحت مصالح الحزب هي ذاتها مصالح الدولة، وأصبحت كل المناصب والمسؤوليات من نصيب أولئك النفر الذي يتزلف أيدلوجيا أو سياسيا لتلك النخب الحاكمة.

ومن جراء هذه الخطايا تحولت تجربة هذه الجماعات الأيدلوجية في الحكم وإدارة الدولة، إلى أحد الأسباب المباشرة للمزيد من التراجع والإخفاق.

فهذه الجماعات الأيدلوجية لم تكتف بنهب الثروات وقمع وقتل العقول ووأد الكفاءات والإبداعات، وإنما عملت على تجويف كل مؤسسات الدولة من الداخل، عبر التعامل معها بوصفها من أملاك هذا الحزب أو أمينه العام وزبانيته المباشرين.

إخفاق هذه التجارب والمحاولات الأيدلوجية في إدارة وتطوير مؤسسة الدولة، جعل جميع الأنظار والآمال تتجه صوب الجماعات التي تحمل شعار الإسلام وتتبنى مقولاته ومعاييره.

ولا شك أن طبيعة الخطاب الدعوي والمثالي الذي حملته جماعات الإسلام السياسي ساهم بشكل مباشر في حصر أمل الشعوب للتخلص من التخلف والاستبداد في هذه الجماعات والتيارات.

ولكن ولأسباب سياسية ومجتمعية عديدة، ساهمت التجربة البسيطة والقصيرة زمنيا لجماعات الإسلام السياسي في إدارة الحكم في بعض الدول التي اصطلح على تسميتها بدول الربيع العربي في وأد هذا الأمل.. فبعض جماعات الإسلام السياسي أدارت مرحلة الربيع العربي بالكثير من التسرع والعجلة واللهث للوصول إلى السلطة السياسية، مع إدراكهم النظري والثقافي، أنه ثمة صعوبات جوهرية تواجههم تحول دون قدرتهم على تنفيذ مشروعهم أو برنامجهم السياسي.

وأود في هذا السياق أن أوضح هذه المسألة من خلال النقاط التالية:

1 في البدء من الضروري إدراك أنه ثمة فروقات جوهرية بين مرحلة الدعوة ومرحلة الدولة. في المرحلة الأولى المطلوب من هذه الجماعات تغذية المثال وما ينبغي أن يكون، مع استخفاف تام بطبيعة عمل الدول وآليات تسيير الشعوب في ظل أوضاع سياسية واقتصادية صعبة ومع وجود إرادات سياسية محلية وإقليمية ودولية متناقضة ومتصارعة.

وبين مرحلة الدولة التي لا تحتاج إلى مواعظ وخطب دعوية تدغدغ المشاعر، وإنما تحتاج إلى برامج ومشروعات عملية تحول التطلعات الفكرية والأيدلوجية إلى وقائع وحقائق في المجتمع والثقافة والاقتصاد.

ومن المؤكد أن الناس لا تنتظر منك في المرحلة الأولى إلا الخطاب الدعوي والوعظي. أما في مرحلة إدارة الدولة فالناس يطلبون أمنا واستقرارا سياسيا وأوضاع اقتصادية ومعيشية مناسبة.

فالاختلاف ليس بسيطا بين مرحلتي الدعوة والدولة. ولعل الخطيئة التاريخية التي ارتكبتها بعض جماعات الإسلام السياسي أنها أدارت مرحلة تمكنها السياسي بعقلية مرحلة الدعوة. فاكتفت بالشعارات والمثاليات، دون أن تحقق منجزات فعليه للناس.

هذه المفارقة وضحت للكثير من الناس، أن متطلبات إدارة الدول مختلفة تماما من مرحلة الدعوة والوعظ والإرشاد. وإن النجاح في مرحلة الدعوة، لا يعني القدرة على النجاح في مرحلة الدولة. لأن لكل مرحلة متطلباتها ولوازمها. فالدول لا تدار بالمواعظ، مصالح الشعب لا تصان بالخطب الرنانة.

2 الفوز في الانتخابات مهما كان حجمه، لا يبرر التعامل مع المنافسين بمنطق الغلبة والهيمنة. لأن هذا المنطق يقود على المستوى العملي إلى توسيع دائرة الخصوم، دون امتلاك القدرة الفعلية على تغيير المعادلات الفعلية القائمة.

ونعتقد أن الدول في العصر الراهن، لا تدار بمنطق الغلبة والهيمنة، لأن هذا المنطق سيحول الدول ككيان ثابت ومؤسسي، إلى عصي على الاستيعاب. وبالتالي فإن المعادلة تتحول من دائرة توسيع المشاركة السياسية في الحكم وإدارة الدولة، إلى دائرة الهيمنة على كل مصادر القرار في الدولة. والبون شائع بين هاتين الدائرتين.

فالدول المعاصرة تبنى وتدار وتحمى بتسويات ذات طابع تاريخي تحول الخصوم إلى شركاء في إدارة الدولة. وهذا ما لم تفعله بعض جماعات الإسلام السياسي، مع إدراكنا التام، أن بعض خصوم هذه الجماعات عمل ليل نهار على إفشال تجربتهم ومراكمة الضغوط السلبية عليهم.

3 من الضروري التفريق بين مسألة بناء نظام سياسي ديمقراطي، تداولي، وبين هيمنة بعض جماعات الإسلام السياسي على الحكم. ولعل من الملاحظات الملفتة أنه ثمة خلط غير مبرر بين هاتين المسألتين. فثمة إمكانية أن تبنى أنظمة سياسية، تعددية، وجماعات الإسلام السياسي في موقع المعارضة. كما أنه ثمة إمكانية لبناء أنظمة سياسية، تعددية وبعض جماعات الإسلام السياسي في موقع الإدارة والحكم..

فالهدف الأساسي ليس من يحكم، وإنما تذليل كل العقبات التي تحول وتمنع بناء أنظمة سياسية، تعددية متحولة نحو الديمقراطية، بصرف النظر عن الجماعة السياسية القادرة على إنجاز هذه المهمة التاريخية.

وخلاصة القول: أن تجربة بعض جماعات الإسلام السياسية القصيرة والأخيرة، أبانت عن بعض الأخطاء الذاتية والموضوعية، الذي فوت على المنطقة بأسرها، إمكانية الانطلاق الفعلي في مشروع التحول نحو الديمقراطية.

وإن مآلات بعض دول الربيع العربي، ينبغي أن تدفع جميع القوى نحو تجويد خطابها وتطوير برنامجها، بحيث تتحول إلى قوة اجتماعية، مدنية، تعمل من أجل بناء حقائق الديمقراطية في الفضاءات الثقافية والاجتماعية والسياسية.

كاتب وباحث سعودي «سيهات».