الراقصة
يستطيع العمل السينمائي منح نسبة قد لا تكون قليلة من المشاهدين، قِيَمًا علميةً وأدبيةً رفيعةً، كما يستطيع فعل العكس في أحيانٍ كثيرة، حتى مع وجود ما يمكن وصفه بالمناعة الأخلاقية والقيمية.
السبب هو أنَّ السينما عمومًا استطاعت أن تخطو خطوات متقدمة في الإخراج والتصوير والديكور وفنون الصوت والمؤثرات الموسيقية، بذلك فإنَّ مشروع قلب الحق باطلًا والباطل حقًا ليس بالأمر الصعب، في ظل تلك التكنولوجيا والإمكانيات المتقدمة، وذلك الإبداع التمثيلي الكبير، هكذا لفت نظري - وكثيرًا ما كان - تلك الصور الأخلاقية المشوهة التي دأبت نسبة من الأعمال الدرامية على خلق تبريرات واهية لها، كالفقر والعوز والحب، وخلاف ذلك.
صورة الراقصة بائعة الهوى التي امتهنت هذه المهنة لتساعد أسرتها بعملها نموذج شائع، وكذا تجارة المخدرات وما يشبهها بداعي انسداد جميع أبواب الرزق في وجه الشاب، أما الخيانات الزوجية بداعي العشق فهي من أكثر ما يتداول، والأدهى والأَمَرّ هي الجرائم التي تصل في أسوأ صورها إلى القتل بداعي الانتقام.
كل تلك الأمثلة وأمثلة كثيرة أخرى، تصنع في عقل الإنسان الباطن مشاعر من الرضا والقبول والتبرير للانحرافات الأخلاقية عمومًا، ما يجعله أكثر تهاونًا في التعامل معها.
الصورة شبه الغائبة عن الأخلاق السامية، هي رسالة الآية الكريمة «ومن يتق الله يجعل له مخرجا»، وهي التي تؤكد أكثر ما تؤكد أن الملتزم بالأخلاق والقيم هو من سينتصر لا محالة أخيرًا.
هذا الأمر يعيدنا لمشكلة صُنَّاع السينما والذين لم تستطع نسبة منهم الاستفادة من الإرث الروائي الكبير والراقي المتوفر في شتى الثقافات العالمية، لمنحنا دراما تحمل رسالة أدبية وأخلاقية عالية، بل لا غرو إن ادعيت أن هناك ما يشبه تعمد اختيار أسوأ النصوص الأخلاقية، لتحويلها لسيناريوهات درامية تتعمد الإثارة فقط، لجذب المزيد من المشاهدين والإعلانات التجارية على حساب القيم والأخلاق والعادات والتقاليد.
في اعتقادي، أن رسالة السينما الأخلاقية، هي - مع الأسف - في انحدار وتراجع مستمرين، هكذا أصبحت نسبة من صُنَّاعها تجَّارا لجميع رذائل الأخلاق، وهكذا استطاعوا - مع الأسف - الإسهام في خلق جيل أكثر قبولًا لشتى أنواع الانحرافات، وأكثر إيمانًا بمنطقية أسبابها، ولا أجد أملًا يمكن أن يكون لعلاج هذا الواقع، في ظل حالة من الجشع المادي الكبير والسعي إلى الربح من صنَّاعها.
لذا فالإنسان وحده من يستطيع التحكم في اختياراته واختيارات أسرته، بحيث يتفادى تلك المسلسلات والأفلام الهابطة، ويتجه إلى أعمال تنمي الجانب الأخلاقي والإنساني والقيمي فيه، وفيما عدا ذلك ستبقى تلك السينما التي تدخل بيوتنا دون استئذان، هي معول هدم حقيقي لكل الصفات الأخلاقية الحميدة التي نتمناها ونسعى لها في أجيالنا.