آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الكلمة.. أفق فكري جديد

محمد المحفوظ *

منذ اللقاء الأول الذي عقدناه في عام 1993 م، لتدارس شأن وضرورة إصدار مجلة فكرية - ثقافية تعنى بقضايا العصر والتجدد الحضاري، ونحن ندرك أن هذه المهمة، ليست سهلة أو يسيرة، وإنما مهمة تكتنفها الكثير من الصعوبات، إلا أن وضوح الرؤية وتوفر الإرادة للعطاء الثقافي المميز، الذي يكسر الرؤية النمطية عن منطقتنا وبيئتنا، ووجود فعاليات دينية وثقافية واجتماعية، احتضنت المشروع وقدمت إليه كل أشكال الدعم والإسناد، كل هذه العوامل ساهمت في استمرار هذا المشروع الطموح، بدون توقف أو انقطاع خلال عقدين كاملين، في وقت توقفت فيه العديد من المجلات والإصدارات الثقافية..

أقول منذ تلك اللحظة التأسيسية للمشروع ونحن كفريق مؤسس للمجلة نستند في عملنا الثقافي هذا على الخطوط الفكرية التالية:

1. إن مجتمعنا الخاص يحتضن الكثير من الطاقات الفكرية والثقافية، وإن من الظلم التاريخي بحق هذا المجتمع، النظر إليه بوصفه نفطا وثروة فحسب.. بينما هناك حياة ثقافية وأدبية صاعدة وجادة، وجاءت مجلة الكلمة لتعزيز خيار إننا نتمكن بإمكاناتنا الثقافية والفكرية، أن نؤسس مجلة فكرية متميزة، قادرة على شق طريق معرفي لها، وبناء نخبة تلتف حولها، وتحمل آمالها وطموحاتها الثقافية والمعرفية..

وخلال هذين العقدين، أثبت القائمون على المجلة، أنهم جادون في مشروعهم الثقافي، وأنهم يمتلكون كل العزم للاستمرار مهما كانت المثبطات، ومهما كانت الصعوبات..

2. إن المشروع الإسلامي الحضاري، إذا لم يواكب صعوده السياسي والاجتماعي، صعودا ثقافيا وفكريا متميزا، فإن عوامل الانكفاء والتراجع ستصبح قوية وفعالة في آن.. فدائما المشروعات التاريخية الكبرى، تحتاج إلى عمليات فتح معرفي وفكري، تستجيب للتحديات، وتواكب المستجدات، وتملئ الساحة بالمزيد من الوعي والمعرفة، الذي تزيل الغبش، وتعبأ الإرادة المجتمعية صوب الخيارات الحضارية للأمة..

ومجلة الكلمة هي أحد الروافع الفكرية والثقافية للمشروع الإسلامي الحضاري.. لذلك فإن هذه المجلة ومنذ انطلاقتها الأولى، لم تنخرط في مشروعات الفتنة بكل أشكالها في الأمة، ولم تخضع لمقتضيات السلطان السياسي في أي بلد عربي أو مسلم، وتمسكت بوحدة الأمة وحريتها وعزتها وكرامتها، وتحملت في سبيل ذلك الكثير من الآلام والصعوبات.. فمشروع المجلة لم يكن فئويا أو طائفيا أو مناطقيا، بل كان مشروعا إسلاميا، تجاوز كل الإحن الطائفية واستوعب كل التنوعات الثقافية في الأمة وحارب كل العصبيات المقيتة التي تضعف الأمة، وتدخلها في أتون الصراعات العبثية.. وعليه فإن مجلة الكلمة خلال العقدين المنصرمين، التزمت بوعي بوحدة الأمة، وتنسكت بحضارية المعركة التي تخوضها الأمة على أكثر من صعيد، ودافعت باستمرار عن حق الأمة في الحرية والكرامة والتعددية وصيانة حقوق الإنسان.. ومنذ انطلاقة المجلة وصياغة مشروعها الفكري والثقافي، تحكمت في مسيرتها ومشروعها الأسئلة التالية:

1. سؤال الثقافة والمعرفة..

2. سؤال الوحدة والتعددية..

3. سؤال التجديد والإصلاح..

4. سؤال الحضارة والمجال الإسلامي..

سؤال الثقافة والمعرفة:

لاعتبارات عديدة ذاتية وموضوعية، ثمة حاجة دائمة للإعلاء من شأن الثقافة والمعرفة، لأنه لا تغيير حقيقي في أي فضاء اجتماعي، بدون تغيير ثقافي، ولا تغيير ثقافي فعال، بدون وجود فضاءات اجتماعية وثقافية، تعمل من أجل الثقافة وتنشط في حقل المعرفة..

وفي الدائرة الإسلامية تتأكد الحاجة إلى الاهتمام بالثقافة، والتركيز على العمل الثقافي والفكري.. وعلى ضوء هذه الخلفية فإن مجلة الكلمة، انطلقت في مشروعها الفكري، وهي تدرك موقع الثقافة في عملية التغيير الاجتماعي، وإن العمل الفكري من الأعمال الهامة، الذي يتطلب الإخلاص له والتركيز فيه..

لذلك نستطيع القول، أنه قد لا يخلو عدد من أعداد المجلة خلال العشرين سنة، من التركيز على المسألة الثقافية، والتركيز على موقع الفكر والعمل الفكري في إحداث تحولات اجتماعية وحضارية في بيئاتنا الاجتماعية.. من هنا فإن مجلة الكلمة اعتنت على هذا الصعيد بالعناصر التالية:

1. ضرورة تدشين وتطوير مرحلة الخطاب الفكري الإسلامي، الذي يتجاوز النزعة الوعظية، ويعتني بكل الشروط المهنية والعلمية، لتأسيس خطاب فكري - إسلامي يتجاوز عيوب النزعات الشعاراتية، البعيدة عن المضمون وصناعة البديل الحضاري انطلاقا من قيم الإسلام وهديه..

2. لا يمكن أن يتطور العمل الثقافي والفكري في أي بيئة اجتماعية إلا بالاهتمام بالخطاب المكتوب، لما لهذا الخطاب من قدرة على التأصيل والتأسيس..

فالخطابات الشفهية مع أهميتها الاجتماعية ودورها التوعوي والدعوي، إلا أنها بوحدها، لا تتمكن من تأسيس خطاب إسلامي - حضاري، يستجيب لحاجات العصر ومستجداته..

3. إن العمل الثقافي والفكري لن يأتي بثماره المرجوة، إلا بفعل تراكمي - معرفي، يساهم في إنضاج الأفكار والخيارات الثقافية.

لكل هذه الاعتبارات فإننا في المجلة، أولينا أهمية للمسألة الثقافية والفكرية، ولا زلنا نعتبر أن الاهتمام العميق بهذه المسألة ومتطلباتها المختلفة من أولوياتنا في مشروعنا الفكري والبحثي.. لذلك فإن مجلة الكلمة من المجلات الفكرية الأهلية التي انتظمت بالصدور خلال عقدين كاملين بدون انقطاع..

وعلى ضوء هذا الاهتمام، فإننا نعتقد أن مجلتنا تمكنت بعطاءها الفكري المتواصل في بلورة الإشكاليات الفكرية الأساسية في الفكر الإسلامي المعاصر، وقدمت مشروعات إجابة حولها، كما أنها ساهمت بأبحاثها ودراساتها وملفاتها المتخصصة في إثراء المشهد الثقافي وزيادة وتيرة حراكه الإيجابي..

سؤال الوحدة والتعددية:

ثمة أفكار ونظريات ومشروعات عديدة، تستهدف إنجاز مفهوم الوحدة بين المسلمين.. ولاعتبارات عديدة لسنا بصدد ذكرها الآن، فإن أغلب هذه النظريات والمشروعات، تتعامل مع حقيقة التعددية بكل حمولتها الثقافية والاجتماعية، بوصفها مضادة إلى مشروع الوحدة والإتحاد بين المسلمين. ونحن في المجلة انطلقنا من قناعة مركزية، مفادها إن صيانة حقائق التعددية في الاجتماع الإسلامي المعاصر، وإدارتها على نحو سليم، هو الخطوة الأولى في مشروع بناء الوحدة بين المسلمين.. فلا بداية حقيقية لمشروع الوحدة والائتلاف بين المسلمين، بدون احترام مدارسهم الفقهية واجتهاداتهم المذهبية..

لأن النبز والتنابز والاضطهاد وكل عناوين ومفردات التضليل والإخراج من الملة، لا تفضي إلى وحدة، بل إلى تحاجز وتصادم بكل صنوفه..

فالوحدة السليمة هي التي تبدأ من الاعتراف بالآخر وجودا وفكرا، لا للانحباس المتبادل، وإنما لانطلاق فعل تواصلي - حواري، ينمي المشتركات، ويحدد نقاط المغايرة، ويسعى نحو مراكمة مستوى الفهم والاعتراف..

كما أن الاختلاف المشروع، هو الذي لا ينقطع أو ينفصل عن مفهوم الوحدة، وإنما يجعل من الاختلاف في المواقع والقناعات، وسيلة لانجاز المفهوم الحضاري للوحدة، القائم على احترام التنوع ومراكمة قيم التسامح وحقوق الإنسان في المحيط الاجتماعي.. فحضور الوحدة مستمد من غياب التشرذم والتشتت، وأي محاولة لمساواة الاختلاف مع التشرذم والتشتت، لا تفضي إلا إلى المزيد من بعدنا جميعا عن التطلع الوحدوي بمستوياته المتعددة..

ومن هنا ندرك أن من الأخطاء الفادحة، والتي دفع الجميع ثمن باهضا بسببها هو النظر إلى مفهوم الوحدة، على أساس أنه يعني غياب أو تغييب التنوعات والتعددية والآخر.. إذ عملت بعض قوى الوحدة وسلطاتها، على إفناء كل التنوعات، وممارسة القهر والاستبداد تجاه كل مستويات التعدد، مما أدى إلى اهتراء حياتنا المدنية والسياسية، وبعدنا كل البعد عن إنجاز مفهوم الوحدة السليمة القائمة على مشاركة الجميع في اجتراح وقائعها وحقائقها.. وإن الوحدة الحقيقية تتجسد، حينما نخرج من سجن أنانيتنا، ونعترف بحقوق الآخرين، ونبدأ بتجسيد مبدأ «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»..

وإن القهر لا ينتج وحدة، وإنما تشتتا واحتقانا وتوترا، كما أن التعدد والتنوع المعرفي والسياسي المنضبط بضوابط القيم الإسلامية العليا، هو الذي يؤسس لحالة وحدوية فعالة ومستديمة، وذلك لأنها مفتوحة ومتواصلة مع جميع القوى والتعبيرات السياسية والمجتمعية..

وإن إبطال تأثيرات التجزئة التي يعاني منها الواقع الإسلامي المعاصر، بحاجة إلى جهود مكثفة وأنشطة متواصلة، تؤسس لقيم الوحدة، وتعمق في الواقع حقائق التضامن والاتحاد، وتزيل كل الرواسب التي تحول دون تراكم الفعل الوحدوي في الأمة..

من هنا فإننا نرى، أن مشروع الوحدة في الدائرتين العربية والإسلامية، لا يعني نفي الاختلافات القومية والأثنية والمذهبية، وإنما يعني احترامها وتوفير الأسباب الموضوعية لمشاركتها الإيجابية في هذا المشروع الحضاري الكبير، الذي يستوعب الجميع، كما أنه بحاجة إلى مشاركة الجميع في إرساء قواعد المشروع الوحدوي في الأمة..

وذلك لأنه في زمن التخلف والانحطاط، تنمو الانقسامات وتزرع الأحقاد وتربى الإحن.

فالاختلافات المعرفية والفقهية والاجتماعية والسياسية، ينبغي أن لا تدفعنا إلى القطيعة واصطناع الحواجز التي تحول دون التواصل والتعاون والحوار.. وذلك لأن الوحدة الداخلية للعرب والمسلمين، بحاجة دائما إلى منهجية حضارية في التعامل مع الاختلافات والتنوعات، حتى يؤتي هذا التنوع ثماره على مستوى التعاون والتعاضد والوحدة..

والمنهجية الأخلاقية والحضارية الناظمة والضابطة للاختلافات الداخلية، قوامها الحوار والتسامح وتنمية المشتركات وحسن الظن والإعذار والاحترام المتبادل ومساواة الآخر بالذات..

هذه المنهجية هي التي تطور مساحات التعاون وحقائق الوحدة في الواقع الخارجي.. فالوحدة لا تفرض فرضا ولا تنجز بقرار أو رغبة مجردة، وإنما باكتشاف مساحات التلاقي، والعمل على تطويرها، ودمج وتوحيد أنظمة المصالح الاقتصادية والسياسية..

ومن الأهمية بمكان أن ندرك، أن وحدة مصادر العقيدة والأحكام، لم يلغ الاختلافات بين المسلمين، وذلك لاختلافهم في مناهج النظر والاستنباط..

وفي هذا التعدد والتنوع في مناهج النظر إثراء للمسلمين في مختلف الجوانب، ولا ضرر نوعي لهذا التنوع على المستوى النظري أو العملي. ولكن الضير كل الضير، حينما يفضي الاختلاف خلافا وقطيعة وخروجا عن كل مقتضيات الأخوة الدينية والوطنية، وسيادة هوس التعصب الأعمى.. قال تعالى «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين» «سورة الأنفال، آية 46»..

فالإنسان الوحدوي حقا، هو ذلك الإنسان الذي يحترم خصوصيات التعبيرات الثقافية والسياسية، ويسعى نحو توفير الأسباب الموضوعية لمشاركتها في بناء الأمة وتطوير الوطن..

فدحر التنوعات والتعدديات، لا يؤدي إلى وحدة، وإنما إلى شرذمة وتفتت متواصل، يغذي كل النزعات الانفصالية والكانتونية بكل عنفها وعقدها وتشابكاتها.. فالوحدة بين المسلمين، لا تبنى على أنقاض مبدأ الاجتهاد وتنوع الآراء والقناعات، وتعدد اطر الاستنباط واستنطاق النصوص الشرعية. وإنما تبنى على أسس صلبة، إذا تم احترام مبدأ الاجتهاد ومقتضياته ومتوالياته الشرعية والمعرفية، وإذا تمت إدارة التنوع والتعدد على أسس ضمان حق الاختلاف مع ضرورة المساواة. فالوحدة لا تساوي تصحير الحياة الاجتماعية والعلمية، وإنما تبنى بعملية استمرار الثراء العلمي والمعرفي. فالعلاقة بين التعددية والوحدة، هي علاقة عميقة. ولا يمكن أن ينجز مشروع الوحدة بين المسلمين بعيدا عن حقائق التعددية وضرورة احترامها وصيانتها. فلا سبيل إلى وحدة المسلمين، إلا بحماية واقع التعددية المذهبية والفكرية في الاجتماع الإسلامي المعاصر.

وعلى المستوى الواقعي الإنسان بطبعه «أي إنسان» نزاع إلى تعميم أيدلوجيته، وتوسيع دائرة قناعاته وأفكاره، ويشعر بالاطمئنان النفسي والاجتماعي حين يعيش بين أشباهه ومماثليه سواء على مستوى الأيدلوجيا أو الانتماء الفكري والسياسي والاجتماعي سواء من عائلة واحدة أو قبيلة واحدة أو عشيرة واحدة..

وهذه النزعة لا تموت لدى الإنسان، وإنما قد تخبو لعوامل ذاتية أو موضوعية، ولكنها تبدأ بالبروز حين تكون الظروف مؤاتية لإبراز هذه النزعة.. ونزعة التعميم والتبشير والإقناع، ليست خاصة بإنسان دون آخر. فالإنسان الذي ينتمي إلى دين سماوي، يعمل عبر إمكاناته لتعميم قناعاته الدينية على محيطه الخاص أو العام.. كما أن الإنسان الذي ينتمي إلى دين وضعي يمارس ذلك الدور.. والإنسان الذي ينتمي إلى مدرسة فكرية ما أو مدرسة سياسية ما، هو أيضا يتطلع إلى تعميم قناعات مدرسته الفكرية أو السياسية، ويشعر بالنجاح والتفوق حينما يتمكن من إدخال وإقناع آخرين في منظومته الفكرية أو السياسية.. ولو تأملنا في الخريطة الدينية أو الثقافية في العالم، سنكتشف حجم الجهود والإمكانات التي تبذل في هذا السبيل، وطبيعة التنافسات بين العاملين في سبيل تعميم دينهم أو توسيع رقعة المؤمنين بأفكارهم.. لذلك فإن الجميع يؤهل علميا ونفسيا واجتماعيا بعض أفراده للقيام بعملية التبليغ والدعوة أو التبشير وتوسعة دائرة المؤمنين.. كما أن الجميع يبذل الكثير من الإمكانات البشرية والمادية في هذا السياق..

وكل هذه الجهود والمنافسات والعمل المحموم، يعود إلى تلك النزعة الكامنة لدى كل إنسان، والتي تتغذى ثقافيا واجتماعيا من عناصر وقيم المنظومة العقدية والفكرية التي يؤمن بها ويتحلق حول مقتضياتها..

ولو أعملنا العقل والفكر وتأملنا بعمق حول هذه النزعة التي تلازم الإنسان بمستوى من المستويات، لاكتشفنا أن كل إنسان بصرف النظر عن دينه أو منظومته الفكرية أو السياسية، يعتقد أن ما هو عليه هو طوق النجاة وهو سبيل الفلاح في الدارين «الدنيا والآخرة» وأنه هو وأشباهه هم القابضون وحدهم على الحقيقة، وإن ما دونهم يعيشون الغبش في الرؤية والمصير، وإنهم بمستوى من المستويات بعيدون عن الطريق المستقيم.. وثمة تعابير ومصطلحات مستخدمة لدى كل المنظومات والعقائد والأفكار تعكس هذه الحقيقة والقناعة من قبيل الاستقامة - الضلال - الرجعية - ماضوي - شمولي - الهرطقة - الضياع - فقدان البوصلة وغيرها من التعابير والمصطلحات المتداولة، التي تعكس بطريقة أو بأخرى موقفا قدحيا من الآخر المختلف والمغاير..

ولكن هذه المنظومات تتفاوت لعوامل ثقافية وحضارية واجتماعية في مستوى القدح والذم للآخر المختلف والمغاير..

ولكن الجميع لا يساوي بين ذاته والآخرين المختلفين، ويتعامل معهم وفق ثنائية: نحن وهم، حتى ولو كان هذا ال «هم» هو من دائرته الوطنية أو ما أشبه ذلك..

ولكن هذه النزعة الدفينة لدى كل إنسان، قد تتجاوز الحدود الطبيعية في النظرة والموقف من المختلف والمغاير، نجد أن جميع هذه المنظومات تعمل بطريقة أو أخرى على تهذيب هذه النزعة والحد من غلوائها، والحؤول دون تمددها العنفي والوحشي ضد الآخرين..

فالحروب الدينية التي سادت العالم الأوروبي في القرون السابقة، هي التي دفعت أهل الإصلاح والتنوير من كل المواقع الفكرية والمذهبية والقومية في أوروبا، إلى تهذيب وإصلاح هذه النزعة، التي أفضت ضمن تداعياتها النفسية والسلوكية إلى تلك الحروب التي راح ضحيتها الملايين واستمرت ما يقارب «130» عاما.. أقول أن وقائع الحرب وتداعياتها على النسيج الاجتماعي ومخاطرها الكبرى على راهن الإنسان ومستقبله، هي التي حفزت أولئك أي أهل الإصلاح والتنوير إلى تهذيب وضبط هذه النزعة بقيم الحرية والتسامح والمحبة والعقد الاجتماعي وبقية شجرة القيم، التي نقلت في مدى زمني محدد العالم الأوروبي من فضاء للنزاعات والحروب الدينية والقومية والسياسية، إلى فضاء لصناعة التقدم وبناء دولهم على أسس جديدة تحول دون إنتاج الحروب الدينية في أوساطهم، وأعادت صياغة العقل الأوروبي باتجاه التعايش والاحترام المتبادل وصيانة حقوق الجميع وضمان حرية التعبير والضمير والحرية الدينية..

وفي الدائرة العربية والإسلامية اليوم، حيث أشكال الاستقطابات الطائفية والقومية والمذهبية الحادة، والتي تحولت في بعض البلدان إلى صدامات دموية، وإذا استمرت هذه الاستقطابات الحادة بدون معالجة حقيقية تنذر بالكثير من المخاطر التي قد تصل إلى مستوى الكوارث على المستويين السياسي والاجتماعي.. لهذا فإنه ثمة حاجة قصوى في فضائنا العربي والإسلامي، لتظافر جميع الجهود وصياغة رؤى فكرية ومبادرات سياسية واجتماعية، تتجه إلى إخراج المنطقة العربية والإسلامية من احتمالات الانزلاق والتشظي على قاعدة طائفية أو مذهبية..

ولا يمكن إخراج المنطقة العربية والإسلامية من هذه الاحتمالات الكارثية إلا بخريطة الطريق التالية:

1. تجديد الخطاب الديني وإبراز مضمونه الإنساني، الذي يحترم الإنسان ويعتبر نفسه وماله وعرضه حرام، وإعادة صياغة دور المؤسسات والمعاهد الدينية والشرعية، بحيث تكون حامية للجميع وبعيدة قولا وعملا عن كل النزعات الطائفية والمذهبية والفئوية، وترفع الغطاء الديني عن كل الخطابات التي تبث الكراهية والتحريض ضد المختلف، وعن كل الممارسات العنفية التي تمارس القتل والتدمير باسم الدين..

لأننا نعتقد أن صمت المؤسسات الدينية عن هذه الممارسات الشائنة والبعيدة عن نهج الإسلام وتعاليمه الأخلاقية سيدخل المنطقة في أتون الحروب العبثية والنزاعات الغوغائية..

فمن أجل الأمة ووحدتها، ومن أجل الوفاء بقيم الإسلام الخالدة، من الضروري أن تمارس هذه المؤسسات دورها في محاربة نزعات الكراهية والعنف والتحريض الطائفي والمذهبي..

2. إن جميع الدول العربية والإسلامية معنية بصيانة قيم العدالة والمساواة في مجتمعاتها، وتجريم كل الممارسات التي تفرق بين المواطنين تحت يافطات قومية أو مذهبية أو عرقية أو ما أشبه ذلك..

فالدول العربية والإسلامية، هي المسئولة عن صيانة وحماية كل مقتضيات المواطنة بعيدا عن انتماءات ما دون المواطنة..

3. ضرورة أن يتعاون أهل الوسطية والاعتدال والتسامح مع بعضهم البعض، لتعزيز هذه القيم في الفضاء العربي والإسلامي، ومحاصرة كل الخطابات والممارسات المتطرفة، ومعالجة المشاكل التي قد تساهم بشكل أو بآخر في توتير الأوضاع أو تأزيم العلاقة بين مكونات وتعبيرات العرب والمسلمين..

فلا يكفي أن نلعن جميعا الظلام، وإنما نحن بحاجة إلى التكاتف والتعاون والتعاضد لإشعال شموع الوسطية والتسامح والاعتدال في كل أرجاء حياتنا ووجودنا العربي والإسلامي.

ونحن نعتبر أنفسنا في مجلة الكلمة أن كل جهودنا الثقافية والفكرية والبحثية، تأتي في سياق تعزيز قيم الوحدة القائمة على احترام التعدد بكل مستوياته، والدعوة إلى تبني مقولات الحوار والتسامح وصيانة حقوق الانسان بعيدا عن نزعات الإلغاء والاستئصال والعنف.

سؤال التجديد والإصلاح:

على المستوى المنهجي والمعياري، ثمة نظريات وأفكار عديدة حول آليات التجديد في الفكر الديني وطرق وصل الدين بوصفه منهج حياة بالعصر.. ولكن جميع هذه الأفكار والنظريات تتفق أن ثمة حاجة ذاتية وموضوعية لوصل الدين بالعصر، والعصر بالدين.. وإن هناك عوامل وحاجات عديدة في الاجتماع الإسلامي المعاصر سواء على مستوى الأفراد وحاجاته المتعددة، أو على مستوى المجتمعات الإسلامية وأنماط حياتها المعاصرة ونظام علائقها الداخلية والخارجية، كل هذه العوامل تدفع باتجاه ضرورة تفعيل حركة الاجتهاد والتجديد في الفهم الديني وذلك حتى يتسنى للإنسان المسلم المعاصر، أن يعيش دينه عبر الالتزام بقيمه وتشريعاته، كما يعيش عصره وراهنه بدون عقد أو انزواء عن متطلباته الضرورية..

لهذا فإن الإنسان المسلم اليوم، بحاجة إلى رؤية دينية تؤهله للعيش على قاعدة التزامه الديني في العصر.. بحيث لا تكون حركة انخراطه في العصر ابتعادا عن التزامه الديني، كما لا تكون حركة التزامه الديني انزواءا وانطواءا عن حركة العصر بكل زخمها العلمي والتقني والحضاري..

وهذا بطبيعة لا يتأتى إلا بتأسيس حركة اجتهادية وتجديدية في الرؤى والأفهام الدينية، بحيث يتم تجاوز كل الأنماط التفسيرية لقيم الدين التي تساهم في إبعاد الإنسان عن التزامه العميق والحضاري بقيم الدين وتشريعاته المتعددة..

وحينما ندرك أهمية الاجتهاد والتجديد الإسلامي المعاصر، ندرك في ذات الوقت أهمية وضرورة أن نبقى مسلمين فكرا ومنهجا وطريقة حياة..

فالتجديد ليس نافذة للتهرب من الالتزام بقيم الدين، وإنما هو طوق نجاة لكي تتمكن عملية الاجتهاد من توفير إجابات إسلامية أصيلة على مستجدات العصر وتطوراته المتلاحقة..

وإن الدين بقيمه ومعارفه المتنوعة، ليس صندوقا مغلقا، وإنما هو فضاء مفتوح، بحيث يتحمل الناس بكل فئاتهم ومستوياتهم مشروع حمل وفهم وتطبيق قيم الدين.

والمعارف الدينية لا يمكن أن تتطور، بدون تطور واقع الناس والمجتمع.

لذلك فإن الجهود الفكرية والسياسية والاقتصادية والإبداعية، التي تستهدف ترقية المجتمع، وتطور وقائعه المختلفة، لها الدور الأساسي في تطوير وعي الناس بقيمهم الدينية والثقافية. بمعنى أن هناك علاقة سببية بين تطور واقع الناس والمجتمع، وتطور رؤيتهم ومعارفهم الدينية.

وعديدة هي المقاربات التي تستهدف فهم الدين وقيمه وشعائره وشعاراته، ولكن السائد في مجتمعنا ولدى فئات عديدة منه، المقاربة الفقهية، التي لا تتعدى فهم الفتوى الشرعية على الموضوع الخارجي المتعلق دائما بحركة الفرد في المجتمع.

وفي تقديرنا أن سيادة المسار الواحد في فهم قيم الدين ومعارفه، لا يؤدي بنا إلى اكتشاف كنوز الدين الإسلامي وثراءه المعرفي. لهذا فإننا بحاجة إلى الانفتاح والتواصل مع كل المسارات والمقاربات الفقهية والفلسفية والعرفانية والمقاصدية والشاملة، التي تستهدف فهم الدين وتظهير معارفه الأساسية..

وإن قيم الدين ومعارفه الأساسية، هي منظومة متفاعلة مع قضايا الواقع والعصر. وأية محاولة لبناء الحواجز والعوازل بين قيم الدين وحركة الواقع، ستنعكس سلبا على فهمنا وإدراكنا لمعارف الدين وقيمه الأساسية. لهذا فإننا نعتقد أن عملية التفاعل والتواصل بين قيم الدين والواقع بكل حمولاته وأطواره وتحولاته، يؤدي إلى تطور وإنضاج الرؤى والمعارف الدينية.. لهذا نجد باستمرار تحولات على مستوى الأحكام الشرعية والمعارف الدينية بتغيرات الزمان والمكان.

لهذا فإننا نستهدف باستمرار خلق التفاعل بين المعرفة الدينية وحركة الواقع، وإدراك مقتضيات الزمان والمكان، لأنها من المداخل الأساسية لفهم قيم الدين ورصد عملية التطور في المعارف الدينية، انطلاقا من تحولات الزمان والمكان.

ومن يبحث عن تطور المعارف الدينية، بعيدا عن حركة الواقع والتفاعل مع مقتضياته، فإنه لن يجني إلا الضحالة المعرفية والبعد الجوهري عن معارف الدين ومقاصده الأساسية.

ومن خلال التفاعل والتواصل مع حركة الواقع والعصر، نتمكن من إضفاء قيمة دينية على الأعمال والأنشطة والمبادرات الخاصة والعامة، التي تستهدف رقي وتقدم الأفراد والجماعات.

فالقيم الدينية ليست خاصة بعبادة الأفراد، وإنما تتسع للكثير من الأنشطة والمبادرات السياسية والثقافية والإبداعية والاجتماعية والاقتصادية، التي تساهم في تطور المجتمعات، ونقلها من مستوى إلى مستوى آخر أكثر تقدما وعدالة وحرية.

لهذا فإننا بحاجة باستمرار إلى تظهير القيم الدينية، التي تستوعب أنشطة الإنسان الجديدة. فلا فصل بين قيم الدين وحركة الإنسان والمجتمع، وكلما عملنا من أجل تظهير قيم الدين ومعارفه، القادرة على استيعاب وتسويغ أنشطة الإنسان الجديدة والهادفة إلى الرقي والتقدم، ساهمنا في تطوير وعي الناس بقيم الدين، وفتحنا الباب واسعا تجاه تطور معارف الدين الأساسية.

ومن الضروري في هذا السياق أيضا تظهير العلاقة العميقة بين عملية التجديد الديني والثقافي ومشروع الإصلاح الاجتماعي. فلا يمكن أن يتحقق مشروع الإصلاح الاجتماعي في مجتمعنا ووطننا، بدون إطلاق عملية التجديد الديني والثقافي.

لأن هناك الكثير من العقبات الموجودة في فضائنا وبيئتنا الثقافية والاجتماعية، لا يمكن تجاوزها بدون الانخراط في مشروع التجديد الديني والثقافي. فتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه. المعرفة الدينية لا تتجدد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة.

وعلى المستوى المعرفي والروحي والأخلاقي، يشكل الدين الإسلامي بكل أنظمته وتشريعاته، ثروة هائلة وغنية بالمضامين التي تساهم في رقي الإنسان مادة وروحا، ولكن هذه الثروة المتميزة، تحتاج باستمرار لمواكبة العصر ومستجداته، والإجابة على أسئلة الراهن وتطوراته، إلى إعمال العقل واستفراغ الجهد الفكري والمعرفي، لتظهير هذه الكنوز المعرفية والروحية والأخلاقية..

ودون عملية الاجتهاد الفكري والمعرفي والفقهي، ستبقى هذه الكنوز في كليات القيم والخطوط التشريعية الكبرى في الإسلام دون قدرة إنسانية على الاستفادة منها حق الاستفادة.

لهذا فإننا نعتقد أن عملية الاجتهاد الفكري في هذه اللحظة الراهنة، ضرورة إسلامية، وحاجة مجتمعية وجسر عبور للشهود الحضاري في هذا العصر..

وتجدد المعرفة الدينية في أي مجتمع، هو رهن بحضور المجتمع وتفاعله مع واقعه. فالمعرفة الدينية لا تتجدد وهي حبيسة الجدران، وإنما تتجدد حينما تستجيب إلى حاجات المجتمع، وتتفاعل مع همومه وشؤونه المختلفة. والمهمة الملقاة اليوم على الفقهاء والمفكرين والدعاة، هو صياغة تصوراتهم ونظرياتهم ومشروعاتهم الفكرية والمجتمعية على قاعدة إن مهمتهم الأساسية هي المشاركة في تحرير الإنسان فردا وجماعة، من كل الأغلال والعقبات التي تحول دون عبادة الله سبحانه وتعالى، وتسعى نحو أن تكون تصرفات الإنسان متطابقة ومنسجمة وقيم الإسلام ومثله العليا.

وكما يقرر الباحثون في التجارب الإصلاحية الدينية والسياسية: إن التجربة الدينية والفكرية لأغلب المصلحين والعلماء والجماعات الدينية، تنطلق من قناعة مركزية ومحورية وهي: إن العامل أو المكون الذي يكون هو مصدر القوة لدى أمة من الأمم في زمن حضاري ما، قد يكون لعوامل تاريخية متعلقة بالفهم والركام التاريخي هو عامل تراجع وانحطاط وتخلف.

لهذا فإن إحياء قيم الإسلام وإزالة الركام التاريخي وبيان أنه «الإسلام» صالح لكل زمان ومكان، وضرورة خلق الفاعلية الحضارية للمسلمين عن طريق تفسير نهضوي لقيم الإسلام ومبادئه.. إن هذه العملية هي مرتكز مشروع الإصلاح، وهي الإطار النظري له.. وحين التأمل في الواقع السياسي والاجتماعي للمسلمين، نجد أن هذا الواقع يعاني من تاءات أربع «التخلف - التجزئة - الاستعمار بمرحلتيه المباشرة وغير المباشرة - الاستبداد» والعلاقة بين هذه الوقائع متداخلة وعميقة.. فلولا التخلف لما كانت هناك تجزئة واستعمار وديكتاتورية.. ولكي يديم الاستعمار هيمنته، هو بحاجة لإدامة التخلف والتجزئة والاستبداد..

فكل حقيقة تتغذى من الأخرى، ولكن جذر المشكلة هو التخلف.. ويمكن مواجهة هذه المعضلة الأساسية من خلال التقاط التالية:

1. صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف وإحياء قيم الإسلام في نفوس وعقول المسلمين..

2. العمل على بناء نخبة واعية، تأخذ على عاتقها صناعة الوعي والحقائق المضادة للتخلف في المجتمع..

3. المساهمة في بناء وقائع وحقائق مجتمعية تتبنى مشروع الإسلام وتعمل من أجل تمكينه في الأرض..

وعليه فإننا نعتقد أن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري في أي تجربة إنسانية، هي عبارة عن عملية تفاعل وجدل بين العناصر الثلاثة «النص والفكرة - الواقع بكل مستوياته - الإنسان الذي يقوم بعملية الربط والتفاعل والاستنباط»..

ولا يمكن أن تتم عملية التجديد والإصلاح بدون العلاقة العضوية بين هذه العناصر.. ولكي لا نقع في اللبس وسوء الفهم، في تقديرنا أن عملية التجديد الديني والإصلاح الثقافي والفكري تعني:

1. تجديد الفهم والمعرفة للنصوص الشرعية والواقع..

2. إنهاء المفارقة التاريخية بين الإسلام والمسلمين، بين الشريعة وفهم الشريعة، بين الدين والتدين، بين الإسلام المعياري والإسلام التاريخي..

3. القدرة على استيعاب التفاصيل والجزئيات والمتغيرات في إطار الثوابت والكليات وذلك عبر عملية الاجتهاد..

4. تقديم تفسير جديد لمفاهيم الإسلام وقيمه.. فالتجديد يساهم بتقديم رؤية جديدة لقيم الإسلام التي صنعت أمجاد الحضارة الإسلامية.

واليوم وفي ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في المجالين العربي والإسلامي، لا يمكن أن تسود قيم الإسلام الحياة العامة، بدون التجديد الديني والإصلاح الثقافي..

لأن هناك حواجز وعقبات كثيرة، تحول دون انطلاقة الإسلام في الحياة العامة.. لهذا فإن التجديد والإصلاح هو جسر العبور نحو هذه الغاية..

فالتجديد وفق الرؤية المذكورة أعلاه، هو ضرورة دينية وحاجة إسلامية معاصرة، وجسر عبور المسلمين لكي يعيشوا الإسلام والعصر معا..

والتجارب الإسلامية الناجحة والمعاصرة اليوم، هي التي توسلت بطريق التجديد الديني والإصلاح الثقافي، لأنه لا يمكن أن تقوم نهضة إسلامية حقيقية في ظل سيادة ثقافة التبرير والتخلف وأنظمة اجتماعية وثقافية تلغي إنسانية الإنسان وتمتهن كرامته.. فحجر الزاوية في مشروع الإصلاح والتجديد هو بناء ثقافة المسلمين ووعيهم المعاصر لذواتهم ولمحيطهم وفضائهم الإنساني بعيدا عن نزعات الاستئصال والجمود وتكرار المقولات التي عمقت وعززت جذور التخلف بكل مستوياته في حياة المسلمين المعاصرة..

فالتجديد والإصلاح هو الذي يحررنا من ثقافة الاستبداد والتخلف.. لهذا لا يمكن أن تتأسس تجربة إصلاحية بعيدا عن هذه القيم ومتوالياتها العقلية والثقافية والاجتماعية.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن الالتزام بخيار التجديد الديني والإصلاح الثقافي، هي من أهم عناصر القوة في تجربة مجلة الكلمة وتجربة أي مجتمع إسلامي معاصر لأنه يوفر له إمكانات وآفاق عديدة للعمل وخدمة الإسلام والمسلمين من خلالها.. صحيح إن تبني خيار الإصلاح والتجديد له كلفته الاجتماعية والسياسية، ولكن من ينشد إصلاح أوضاع الأمة، وإعادة مجدها التاريخي، لا يمكن أن ينجز ما يتطلع إليه بعيدا عن خيار التجديد والإصلاح..

سؤال الحضارة:

لعلنا لا نجانب الصواب، حين القول: أن كل نزعة أيدلوجية منغلقة، هي بالضرورة صانعة أو حاضنة للتعصب، وطرد المختلف، ونبذ المغاير.. لأن النزعات الأيدلوجية المنغلقة بطبيعتها ووفق بنيتها الداخلية، لا ترى الحق والحقيقة إلا لديها، ولا يتسع عقلها وقلبها وحسها، إلى مشروعات أو نظريات مغايرة أو مختلفة معها.. لذلك ثمة صلة عميقة تربط النزعات الأيدلوجية المغلقة بصرف النظر عن مضمونها وآفة التعصب الأعمى وكل مخزونها العدائي والإقصائي للآخرين. وفق هذه القناعة الفكرية الراسخة تواصل مشروعنا الفكري في مجلة الكلمة مع كل الشخصيات الفكرية والمعرفية، وكذلك مع المشروعات الفكرية التي تبلورت في ساحة الأمة. وإن هذا التواصل لم يتوقف عند حدود الأمة، وإنما انفتح أيضا على الأفكار والمشروعات الفكرية والمعرفية الإنسانية. لأننا نعتقد أن النزعات الأيدلوجية المغلقة الدينية أو الوضعية، تكون ممهدة وراعية لكل النزعات التعصبية التي تنشأ إما من قلب هذه النزعات الأيدلوجية أو على ضفافها وهامشها.. لذلك نجد أن هذه النزعات الأيدلوجية حينما حكمت وسادت في الفضاء الاجتماعي والسياسي، فإنها استخدمت أدوات الدولة ومقدرات السلطة لتعميم قناعاتها ونظامها الفكري، ومارست كل أشكال الحيف والقهر والظلم بحق كل الوجودات الاجتماعية المغايرة لها أو غير المنسجمة معها سواء على مستوى الأصول أو مستوى الفروع.. وذات الممارسة والسلوك، مارست النزعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والدوغمائية، فإنها حولت الدين ومنظومته المعيارية كغطاء ومسوغ لطرد المختلفين معها ونبذ المتمايزين مع تفسيرها وقناعاتها المركزية والفرعية.. وما تمارسه الجماعات الأيدلوجية الدينية المغلقة والتعصبية من تكفير الناس وقتلهم والتفنن في إيذائهم المادي والمعنوي، ما هو إلا تجسيد عملي للقناعة الفكرية الآنفة الذكر، لأن كل منظومة أيدلوجية مغلقة بصرف النظر عن جوهرها الفكري، هي بالضرورة صانعة للتعصب، ومشجعة للمفاصلة الشعورية والعملية مع المختلفين مهما كانت درجة الاختلاف والتباين.. لأنها لا ترحب بالتعدد، وتنبذ الاختلاف، وتحارب ثقافة السؤال، وترفض النقد والمراجعة، وتغطي كل هذه الممارسات الشائنة بعقلية تعصبية، تظهرهم وكأنهم الأحرص على قيم المجتمع والأمة، وهم على المستوى العملي أول من ينتهك قولا وفعلا قيم الأمة والمجتمع.. لذلك فإننا نعتقد أن مواجهة ظاهرة التعصب الأعمى للذات وقناعاتها وتاريخها وأفكارها، يتطلب رفض كل النزعات الأيدلوجية المغلقة سواء كانت حاكمة أو محكومة، لأنها نزعات تستدعي كل أشكال التعصب، وتمدها باستمرار بكل أسباب الحيوية والفعالية والاشتغال..

فلا يمكن محاربة ظاهرة التعصب، إلا بالوقوف بوعي ضد كل النزعات الأيدلوجية المغلقة، التي لا ترى إلا ذاتها وجماعتها ولا يتسع منطقها لمنطق التعدد والتنوع والانفتاح.. لذلك هي تحارب كل هذه القيم، لأنها قيما مضادة لنهجها ومسيرتها الأيدلوجية والاجتماعية..

وحينما نرفض النزعات الأيدلوجية المنغلقة، فإننا لا نرفض فكرة الالتزام الأيدلوجي، لأنها بشكل عام من الحاجات الضرورية للإنسان، بحيث من الصعوبة أن نجد إنسانا بدون منظومة أيدلوجية تشكل بالنسبة إليه هي معيار الخير والشر، ومرجعيته الأخلاقية والسلوكية في الحياة.. ولكن ما نرفضه هي النزعات الأيدلوجية، التي تتعامل مع قناعاتها وأفكارها بوصفها، هي طوق النجاة والنجاح الوحيد، وتمارس القهر والعسف لتعميم هذه القناعات والأفكار، وتتعامل معها أي الأفكار والقناعات بوصفها متعالية على الزمان والمكان وغير خاضعة لشروطهما ومقتضياتهما فيتم التعامل مع قناعات الذات وكأنها حقائق علمية نهائية، ليست قابلة للفحص والمراجعة والنقد..

والذي يتجاوز أو يرفض هذه القناعات فكأنه تجاوز الحق إلى الباطل، لذلك فهو سواء كان فردا أو جماعة، يحارب في وجوده وحقوقه المعنوية والمادية..

وعلى المستوى المعرفي والاجتماعي، العلاقة جد عميقة ووطيدة بين الأفكار والقناعات الدوغمائية المغلقة سواء كانت هذه الأفكار دينية أو دنيوية، سماوية أو وضعية وبين ظاهرة التعصب..

فالإنسان الذي يرى أن أفكاره تساوي الحق والحقيقة، فإنه سيتعصب لها ويحارب من أجلها، ويحدد موقفه من الآخرين انطلاقا من موقف هؤلاء من أفكاره وقناعاته.. ولا ريب أن هذه الممارسة التعصبية، تتجاوز قيمة الالتزام.. فالإنسان من حقه أن يلتزم بأي فكرة أو نظرية أو أيدلوجيا، ولكن ليس من حقه أن يتعامل مع أفكاره بوصفها هي الحقيقة الوجودية النهائية، والذي يخالفها، يخالف الحق، وينصر الباطل..

وإن الخيط الدقيق الذي يفصل بين الالتزام الأيدلوجي والتعصب الأيدلوجي المقيت، هو حينما يمارس الفرض والقهر والحرب لتعميم أفكاره وقناعاته. فحينما يمارس العنف بكل أشكاله، لتعميم قناعاته فهو يتجاوز حدود الالتزام الطبيعي، أما إذا اعتز الإنسان بأفكاره، وعمل على تعميمها بوسائل سلمية - طبيعية، وتعامل مع قناعاته بوصفها حقائق نسبية قابلة للصح وقابلة للخطأ في آن، فإنه يمارس التزامه الطبيعي، وهذا بطبيعة الحال من الحقوق الطبيعية لأي إنسان..

من هنا فإننا أحوج ما نكون اليوم، إلى خطاب ديني واجتماعي منفتح وإنساني وينبذ العنف ويحارب التعصب بكل أشكاله..

لأن هذا الخطاب هو القادر على تدوير الزوايا، وتنمية المساحات المشتركة بين جميع الأطراف والأطياف، ويحول دون عسكرة المجتمعات واندفاعها صوب العنف وممارسته..

وعليه فإننا نعتقد أن الخطاب الديني - الإنساني والمنفتح والمتسامح هو أحد ضرورات ومتطلبات انجاز وتعزيز الأمن الاجتماعي والسياسي للمجتمعات الإسلامية المعاصرة..

وخلاصة القول: إن طبيعة التطورات والتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية الكبرى، التي تجري في المنطقة، أبانت بشكل لا لبس فيه، صوابية خيارات المجلة الفكرية والثقافية.. وإن مستقبل واقعنا الإسلامي المعاصر، مرهون إلى حد بعيد على سيادة قيم الحوار والتسامح والقبول بالتعددية والوحدة القائمة على احترام التنوع وحماية حقوق الإنسان والتجديد والإصلاح، وهي ذاتها الخيارات التي تأسست مجلة الكلمة من أجلها، وبعد عقدين من التأسيس والعمل الثقافي المتواصل، لا زالت الحاجة ماسة لتعزيز هذه القيم وتعميمها في الفضاء الإسلامي العام.. ونحن عاقدون العزم على الاستمرار في مشروع البناء الثقافي والفكري الجديد، الذي عمل منبرنا على التأكيد عليه والدعوة إليه..

كاتب وباحث سعودي «سيهات».