شهر العافية: 18 - طغيان اللاشعور «هـ»
بسم الله الرحمن الرحيم -... «46» وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ «47»... - صدق الله العظيم - الحجر.
في مدينة كوين في ولاية نيويورك وفي 13 مارس 1964م في الساعة 2:30 بعد منتصف الليل لاقت الشابة البيضاء كيتي جينوڨيز «Kitty Genovese» مصرعها بصورة بشعة على يد قاتل أسود. أصبحت هذه الحادثة من أهم القضايا في ذلك الحين وخضعت لتحقيقات ودراسات ليس لأنها قُتِلَت بعنف أو بسبب رجل أسود، ولكن لأن 38 شخص شهدوا الجريمة ولم يبلغ أي منهم الشرطة أو الإسعاف؛ فلماذا؟ درس علماء النفس القضية وأطلقوا مصطلح جديد باسم ”تأثير المتفرج“ «Bystander Effect» والذي أطلق عليه أيضا ”متلازمة جينوڨيز“ «Genovese Syndrome». السبب في عدم تدخل هؤلاء أو اتصالهم هو اعتقاد كل منهم أن غيره سيقوم بالمهمة، لذلك ظن أن الاتصال لا يلزم وضن به على الضحية. هذه الدراسة لاقت أبحاثا ميدانية مع قراءات متعددة لأحداث مشابهة؛ ليس بالضرورة قتل، ولكن شخص تعطلت سيارته في شارع مزدحم لا يقف إليه أحد، بينما من يتعطل في شارع نائي يقف له أول من يراه. هذه حالة نفسية منبعها اللاشعور التي تقرأ الأحداث وتستنتج محصلة خاطئة؛ قد تكون مميتة.
في سلسلة ”طغيان اللاشعور“ نضيف رأي داوود مكراني «David McRaney» الذي يتفق مع ذكرناه من قبل مع تجارب جديدة لا يسع ذكرها، ولكنه ركز على أن الإنسان لا يعلم ماذا يفعل به لاشعوره الذي يغذيه بالكثير من الأوهام ومن ثم يصدقها ويبني عليها الكثير من الأحكام. وبعدها يبدو الإنسان غبيا بسبب الرضوخ إلى قوة دماغه اللاشعورية. بالطبع الإنسان لا يشعر بغبائه ولا يلاحظ ذلك إلا من حام مع الأَبْوُز «جمع باز» ليرى ما يدور من الأعلى بدلا من الالتصاق بالأرض.
كتبت سيلڨيا نصر «ربما ناصر أو نصار» سيرة ذاتية عن أحد عمالقة الرياضيات «جان ناش» الذي حصل على جائزة نوبل، حيث حُوِّل الكتاب إلى فيلم مرموق مثله النجم المشهور رسل كرو «Russell Crowe». في بداياته، ناش كان انعزاليا ويعيش عالمه الخاص به إلى أن انتهى به المطاف إلى أمراض نفسية تتعلق بالفصام والپارانويا. بقدرة قادر وبإصراره، عاد ناش لطبيعته بعد أن كان أن يقضي على إنجازاته المرض.
يقول ليونارد ملوديناو إن لاشعورنا يقودنا نحو الصداقات والارتباطات الاجتماعية والاختلاط مع الناس وإن الانعزال يعني مرض؛ إما عضوي أو عقلي. الناس بطبيعتها تحب الشخص الودود وتنفر من العدائي. من خلال تجارب علمية، اتضح أن الأطفال لهم شفافية خاصة حيث يحاولون لمس الوجوه الطيبة والإعراض عن الوجوه الشريرة. هذا دليل على أننا كائنات اجتماعية تحب الأنس وأن دماغنا مجهز لهذه الخاصية. القشرة المخية الحديثة «neocortex» أحدث جزء في دماغ الكائنات ويتميز به الإنسان على الرئيسيات والثدييات وهذا الجزء من الدماغ مسؤول عن العلاقات المعقدة بين الناس وهذا يساعد حب التعامل والتعاطي معهم. حجم هذه القشرة يتناسب طرديا مع أقصى عدد لفريق يعمل في مهمة مشتركة أو تكوين صداقات؛ الغوريلا لا يزيد عن عشرة، بينما يصل الإنسان إلى 150 من الأشخاص المقربين.
لكن عندما يتم عزل الفرد عن مجتمعه فإنه يعيش حياة مزرية وعذاب من الآلام النفسية والجسدية حتى. العزل يؤثر سلبيا على الكثير من الأشياء ومن ضمنها الأحاسيس والمشاعر التي تضطرب وتهيج. الملفت للنظر أن الجزء الدماغي المسؤول عن المشاعر «anterior cingulate cortex» هو نفسه المسؤول عن الآلام الاجتماعية التي يمكن تهدئتها باستخدام أدوية الآلام الجسدية. عادة ما يتعرض المنعزلون لأمراض أكثر من غيرهم ومن ضمنها الضغط والسمنة ومعدل حياة أقصر من غيرهم.
في سبيل الحصول على الانخراط الاجتماعي ومن ثم الدفء يتنازل البعض عن قناعاتهم أو يؤثرون السكوت وذلك لأنهم لا يتحملون العزلة، والبعض منهم يتظاهر بالمدافع عن المجتمع وأفكاره من أجل الحصول على مقعد دائم في الدائرة الاجتماعية. ليس كل الناس سواء، على العموم، ولكن هناك من يفضل أن تكون صحبته مع الكتب والأبحاث والدراسات لأن عبئها شبه معدوم وفائدتها أكبر بكثير من الاختلاط الذي قد يضر ولا ينفع.
بعد انقضاء النصف من شهر رمضان، نذكركم أيضا بالمعزولين والانطوائيين. إنْ كنت تعرف أيا منهم، رجاء امسك بيده وخذه إلى أي مناسبة. بيّن له أنه شخص مهم وأنّ المجتمع بحاجة إليه، وشيئا فشيئا، يعود إلى مكانه بين ناسه ومحبيه. وما حدث لناش من تحسن من قبل يمكن أن يحدث لأي فرد آخر.