شهر العافية: 16 - طغيان اللاشعور «د»
بسم الله الرحمن الرحيم -... «37» وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ «38»... - صدق الله العظيم - القصص.
تكلمنا في المقال السابق عن حمل شخصيتين متضاربتين؛ الوعي والذي يتصرف كعالِم يَزِنُ الأمور بموضوعية، واللاشعور والذي يعمل كالمحامي، يتخذ القرار أولا ثم يقوم بالدفاع المستميت لاحقا حتى وإن لم تخدمه الأدلة والظروف. الأمر لا يقتصر على الجاهلين من كفار قريش فقط ولا من عاند الأنبياء، ولكنه يسرى أيضا حتى على العلماء. بين 1950م و1960م، انقسم العلماء إلى فريقين: أحدهما يعتقد بثبات الكون حجما، بلا بداية أو نهاية؛ والثاني يؤمن بوجود بداية مماثلة لمفهومنا للانفجار العظيم. في عام 1964م، اتضح أن الكون يتوسع ومن خلال أدلة مقنعة جدا وذلك ميول الكون للون الأحمر، وهذا يعني أن الكون يتوسع وذلك رجوعا لقانون دوپلر «Doppler Effect». الفريق الأول ولمدة ثلاثين سنة ظل متمسكا برأيه بسكون الكون وثباته رغم الأدلة القطعية بالنسبة للعلماء الذين يعرفون معنى تأثير دوپلر. الفريق الأول قام بتفسيرات مختلفة لما يطابق القناعات المسبقة التي لم يتنازل عنها رغم وجود البيانات والقوانين التي تدحض تصورهم الأول.
الكثير منا يظن أنه مميز بما يكفي ليضخم الأنا أكثر مما تستحق. طبعا، إلا من اجتباهم الله سبحانه من الناس الذين لا يزكون أنفسهم رغم الملكات الخاصة التي حباهم الله بها: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. في عام 1959م «وهذا ليست أول أو آخر حالة»، ظن ثلاثة أشخاص أنهم عيسى بن مريم . وُضع الثلاثة في حجرة واحدة ليناقشوا الأمر فيما بينهم. أحدهم رجع إلى صوابه وانسحب وعاد لحياته الطبيعية. أصر الاثنان الباقيان على أنهما عيسى وكل منها وجه إصبع الاتهام للآخر. ربما هذه حالة مفرطة في العُجب لأن عيسى يمثل دور الإله على الأرض عندهم، ولكن حتى في الحالات الطبيعية، الكثيرون يعطون أنفسهم أكثر مما يستحقون، وهذا يتضارب مع تصور الآخرين لهم، مما يصنع خلافات بين هؤلاء الناس. الأمر لا يقتضي النفس فقط، ولكن كل من نحب حيث لا نستطيع أن نقبل حتى أنه يسهو ناهيك أن يخطئ أو تميل نفسه مع الهوى، وهنا لا نتكلم عن المنتجبين الأخيار، ولكن عموم الناس.
في دراسة تمت لطلاب الثانوية وسُئِلوا إن كانت قدراتهم فوق المعدل في فن التعامل مع الناس، وأتت النتيجة بالإجماع بنسبة 100% إذ لم يظن أي منهم أنه أقل من المعدل. 25% كانوا يظنون أنهم من أفضل 1% من الطلاب تحصيلا، وهذه طبعا لا تركب لأن واحد من مئة فقط يحظى بهذا اللقب لا 25. هذا الواحد ربما تكثر الشكوك في نفسه ويتنازل عن اللقب إلى غيره ولا يرشح نفسه. وهذا وَهْمٌ لا يتخلص منه الإنسان حتى وإن تعلم وكبر حيث يعتقد 95% من أساتذة الجامعات أن أبحاثهم وأفكارهم تفوق المتوسط. هذا للأسف تضخيم لا يتلاءم مع الواقع. وبسبب الثقة العمياء التي يوليها البعض لأنفسهم، تفشل الكثير من المشاريع، على الأقل من ناحية الوقت والميزانية أو نسبة النجاح.
مثال ذلك ما ظنه المخترع الأمريكي دين كامِن «Dean Kamen» الذي ابتكر جهاز السيگواي «Segway» والذي قدّر أنه سيكون جهاز العصر وأنه أهم من الإنترنت،... الخ، وترقبت الناس هذا الاختراع الذي لم يصمد كثيرا حتى باع كامن شركته إلى جيم هِسِلدِن «Jim Heselden» عام 2009م. هِسِلدِن رجل أعمال بريطاني مات بسبب الجهاز الذي اشتراه عندما قذف به إلى نهر وارف «Wharfe»، ما يقارب 225 كلم شمال لندن!
هذه الصفة ليست ذميمة كما نتصور لأن التطور حابى أصحاب هذه الروح الذين أتوا بقوة وفرضوا ذواتهم على الآخرين «بشيمة لو بقيمة». وهذا ساعد على تأقلمنا وتطبعنا مع الاختلافات التي تطرأ فجأة بسبب المهووسين بأنفسهم. مثل هذه الأمور، تغير نمط التفكير وتطور تَبَصُّرِ وقدرات الإنسان. وبدون هذه الظاهرة سنبقى ”محلك سر“ حيث ربما لا نزال نشعل نارنا بالقداحات. على سبيل المثال، الفراعنة أجبروا قدماء المصريين على العلم والإنتاج وبناء صروح لا تزال قائمة إلى يومنا هذا حيث لا ننفك نتعلم تلك الأسرار التي بنى بها المصريون الأهرامات وحنطوا فراعنتهم لتبقى أجسادهم إلى هذا اليوم. الفرعنة أدت إلى تطور الطب والهندسة والعمارة؛ أملا من هؤلاء بأن يحظوا على رضا الفرعون تعبدا أو طمعا.