العرب والبحث عن دولة الإنسان
على المستوى المعرفي والسياسي ثمة ذاكرة عميقة وجهد وكفاح متواصل لدى العرب عبر حركاتهم السياسية ونخبهم الثقافية وتجمعاتهم النضالية، لتغيير واقعهم السياسي والاجتماعي، والانعتاق من ربقة الاستبداد بكل صنوفه ومستوياته. ودفعت الشعوب العربية في هذا السبيل الكثير من التضحيات، وعانت العديد من الآلام. ولا زال مشروع المطالبة بالإصلاح والحرية والديمقراطية قائما، ولازال الشوق التاريخي لدى العرب بكل فئاتهم وشرائحهم لبناء دولة، تحترم الإنسان، وتصون كرامته، وتحافظ على استقلاله، وتمنع هيمنة الأجنبي عليه، وتوفر للمواطن العربي في القرى قبل المدن وفي الريف قبل الحواضر مقتضيات العيش والحياة الكريمة.
وفي التاريخ العربي الحديث والمعاصر، هناك الكثير من المحطات السياسية والثورية والاجتماعية، التي أبان العرب فيها شوقهم إلى الكرامة والديمقراطية وبناء دولة وفق معاييرهما.
وآخر هذه المحطات، هي محطة الربيع العربي حيث عبرت بعض الشعوب العربية عن كفاحها في سبيل حريتها، واستعدادها التام للتضحية في سبيل الانعتاق من الديكتاتورية وإعادة صياغة دولتهم الوطنية على أسس ديمقراطية - تداولية.
وثمة مناخات اجتماعية وسياسية تولدها تحولات الربيع العربي، تدفع بضرورة أن يعتني كل مجتمع بتطوير واقعه وإنهاء أزماته ومعالجة أمراضه، لأن إصلاح الجزء مقدمة لإصلاح الكل. لذلك هناك حاجة وطنية وقومية عربية للاستدارة نحو الداخل، لا للانحباس فيه، والتخلي عن القضايا القومية. وإنما ما تعلمنا إياه التجارب السياسية، أن أحد الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تضييع القضايا القومية لدى العرب، هو فشل وإخفاق أنظمتهم السياسية وخضوعها إلى معادلات إقليمية ودولية، ليست بالضرورة منسجمة وتطلعات وطموحات الشعوب العربية.
لذلك فإن الاستدارة نحو الداخل، هو بوابة إصلاح الأوضاع العربية، عن طريق أن يكافح كل شعب عربي بإصلاح أوضاعه وتطوير نظامه السياسي.
في كل الأزمات والتحديات التي تواجه الواقع العربي، تتجه النخب السياسية والثقافية والإعلامية للخارج، للبحث عن المؤامرات والمخططات الأجنبية التي صنعت تلك الأزمة أو خلقت تلك التحديات التي تواجه الواقع العربي.. ودائما كانت الأنظار والتحليلات والتصورات، تتجه إلى رصد دور التأثيرات الخارجية في التأثير والضغط السلبي على العالم العربي.. ونظرة واحدة وسريعة للكثير من الأزمات والمشاكل التي واجهت العالم العربي، تجعلنا نكتشف وبشكل سريع صدق هذه الحقيقة. وإننا هنا لا ننفي دور العامل الخارجي في إجهاض الكثير من المشروعات والآمال، ولا نغمض أعيننا أمام حقيقة اشتراك القوى الأجنبية في الكثير من الحقب في تعويق النهوض العربي. ولكن رمي كل الأخطاء على العوامل الخارجية، يساهم في تزييف الوعي العربي ولا يوفر لنا القدرة على تجاوز هذه المحن التي تصيبنا وتجهض الكثير من مشروعاتنا وطموحاتنا. لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع وقف الانحدار العربي هو أن نستدير ونلتفت إلى الداخل، لمعالجة المشاكل والأزمات التي تؤثر حتما على الأداء العام، ولتلبية الطموحات والتطلعات المشروعة التي تحملها قوى الداخل..
أما سياسة الهروب من استحقاقات ومتطلبات الداخل واتهام الخارج بكل سيئاتنا ومصيباتنا وأخطائنا، فإنه لا يعالج المشاكل بل يفاقمها ويزيدها أوارا واستفحالا.. ولقد آن الأوان بالنسبة لنا نحن في العالم العربي أن نستدير إلى داخلنا، ونساهم في اكتشاف العوامل والأسباب الحقيقية التي أنتجت ولا زالت الواقع السيئ الذي يعيشه العرب اليوم على أكثر من صعيد ومستوى. والتوجيه القرآني يحثنا إلى سياسة الاستدارة نحو الداخل واكتشاف أخطائنا قبل اتهام الآخرين بها.. إذ يقول تبارك وتعالى [ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم].. فالخطوة الأولى التي ينبغي أن نقوم بها إزاء كل ظاهرة ومشكلة وأزمة، هي البحث والفحص الجاد عن الأسباب الذاتية التي أدت إلى هذه الظاهرة أو المشكلة والأزمة، فلا بد أن نوجه الاتهام أولا إلى أنفسنا، قبل أن نوجهه إلى غيرنا. وهذه المنهجية تلخصها الآية القرآنية [قل هو من عند أنفسكم] فإزاء كل هزيمة، إزاء كل مرض وظاهرة سيئة، كل مصيبة على رؤوسنا، ينبغي أن نلتفت قبل كل شيء إلى نصيبنا، إلى دورنا، إلى ما كسبته أيدينا..
إن واقع العرب الراهن هو أسوأ واقع، والانهيار في حياتهم يهدد وجودهم نفسه. واتهام الخارج وحده وتبرئة الذات والتعامل معها بنرجسية واستعلاء يزيد من تدهورنا وضعفنا وضياعنا..
ونحن هنا لا ندعو إلى جلد الذات واتهامها بكل السيئات والإخفاقات. وإنما ندعو إلى معرفة العلل والأسباب الكامنة في فضائنا السياسي والثقافي والاجتماعي، والتي أفضت بشكل أو بآخر إلى الواقع السيئ الذي نعيشه. كما أن الخارج في علاقته معنا في العالم العربي، ليس بريئا من أزماتنا ومشاكلنا المزمنة، بل هو شريك وفاعل حقيقي للكثير من المشاكل والأزمات..
ولكن الرؤية المتزنة التي ندعو إليها، هي التي تبدأ بالاستدارة إلى الداخل، واكتشاف الواقع ومعرفة مستوى مساهمتنا في هذه المشكلة أو تلك الأزمة.. فلا يمكن أن نواجه تحديات المرحلة، وهي تحديات صعبة ومعقدة باتهام الخارج وتبرئة الذات. إن هذا النهج هو الذي أدام الكثير من عناصر وحقائق التخلف السياسي والثقافي في العالم العربي، وهو الذي برأ الكثير من النخب التي كان لها دورا سيئا في تطور الأحداث التي جرت في حقب زمنية مختلفة..
فالباري عز وجل لم يخلق الإنسان خلقا جامدا خاضعا للقوانين الحتمية التي تتحكم به فتدبره وتصوغه بطريقة مستقرة ثابتة، لا يملك فيها لنفسه أية فرصة للتغيير وللتبديل، بل خلقه خلقا متحركا من مواقع الإرادة المتحركة التي تتنوع فيها الأفكار والمواقف والأفعال، مما يجعل حركة مصيره تابعة لحركة إرادته، فهو الذي يصنع تاريخه من طبيعة قراره المنطلق من موقع إرادته الحرة، وهو الذي يملك تغيير واقعه من خلال تغييره للأفكار والمفاهيم والمشاعر التي تتحرك في واقعه الداخلي لتحرك الحياة من حوله..
وهكذا أراد الله للإنسان أن يملك حريته، فيتحمل مسؤوليته من موقع الحرية. ويدفعه إلى أن يواجه عملية التغيير في الخارج بواسطة التغيير في الداخل، فهو الذي يستطيع أن يتحكم بالظروف المحيطة به، بقدر علاقتها به، وليس من الضروري أن تتحكم به. فالإنسان هو صانع الظروف، وليست الظروف هي التي تصنعه..
لذلك فإنه لا يجوز ولا يصح التضحية بحريات ومتطلبات الداخل العربي تحت مبرر معارك الخارج وتحدياته الحاسمة. إذ أنه لا يمكن أن نواجه تحديات ومؤامرات الخارج بشكل فعال، إلا إذا وفرنا متطلبات وحقوق وتطلعات الداخل.. ولعلنا لا نجانب الصواب، حين القول: إننا في العالم العربي وخلال الخمسة العقود الماضية قد قلبنا المعادلة. إذ سعت النخب السائدة، إلى إقصاء كل القوى والمكونات تحت دعوى ومسوغ أن متطلبات المعركة مع العدو الصهيوني تتطلب ذلك. وأصبح شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» هو السائد. ولكن النتيجة النهائية التي وصلنا إليها جميعا، حاكما ومحكوما، أن هذا الخيار السياسي والثقافي لم يوصلنا إلا إلى المزيد من التدهور والانحطاط. وبفعل هذه العقلية أصبح العدو الصهيوني أكثر قوة ومنعة، ودخلنا جميعا في الزمن الإسرائيلي بكل تداعياته الدبلوماسية والسياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية..
فتصحير الحياة السياسية والمدنية العربية، لم يزدنا إلا ضياعا وتشتتا وضعفا. ولقد دفع الجميع ثمن هذه الخطيئة التاريخية. لذلك آن الأوان بالنسبة لنا جميعا أن نعيد صياغة المعادلة. فلا انتصار تاريخي على العدو الصهيوني، إلا بارتقاء حقيقي ونوعي لحياتنا السياسية والمدنية. فإرساء دعائم الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان وتعميم وتعميق ثقافة الحوار والتعايش السلمي، كل هذه القيم والممارسات والمتطلبات من صميم معركتنا التاريخية والحضارية. وانتصارنا على العدو الخارجي، مرهون إلى قدرتنا على إنجاز هذه المتطلبات في الداخل العربي..
فالإكراه الديني والسياسي، لا يصنع منجزات تاريخية، وإن صنعت سرعان ما يتلاشى تأثيرها من جراء متواليات الإكراه وامتهان كرامة الإنسان..
لهذا كله فإننا ندعو كل الدول العربية، وفي هذه اللحظة التاريخية الحساسة والمصيرية إلى الاستدارة والاهتمام بالداخل. فالقوة الحقيقية هي التي تستمد من الشعب والمجتمع، والخطر الحقيقي هو الذي ينبع من الذات. فلا مناص أمامنا اليوم حيث المؤامرات والتطورات والتحولات، إلا الالتحام والالتصاق بشعوبنا. فهي عنوان العزة والقوة، وهي سبيلنا لتعزيز أمننا ووحدتنا وهي القادرة على إجهاض كل المشروعات والمؤامرات. فلتتجه كل مبادراتنا نحو شعوبنا، ولنعد الاعتبار لكل القوى الحية والفاعلة في المجتمع العربي..
إنها لحظة تاريخية حاسمة، وتتطلب بلا شك خطوات نوعية وحكيمة..
وفي هذا السياق نلتفت ونؤكد على النقاط التالية:
1 - ضرورة بلورة مبادرات وطنية حقيقية، تزيل الالتباسات، وتؤكد خيار المصالحة، وتعمق من أسباب وعوامل الثقة بين السلطة والمجتمع..
فالاستدارة نحو الداخل تقتضي بشكل أساسي، العمل على تعميق خيار المصالحة والانسجام بين خيارات المجتمع وتطلعاته المتعددة، والسلطة وخياراتها السياسية والاقتصادية.
2 - إن القوة الحقيقية التي تملكها الدول في مواجهة المخاطر والتحديات، ليس في حجم الأسلحة والترسانة العسكرية، وإنما في الرضا الشعبي عنها. لهذا فإننا نؤكد على أهمية أن تعمل الحكومات في العالم العربي، على صياغة الأطر والمؤسسات، التي تهتم بحاجات المواطنين، وتنصت إلى أحوالهم وأوضاعهم، وتعمل وفق آليات واضحة لتعميق خيار الرضا الشعبي عن الأداء والخيارات السياسية للحكومات..
3 - إن التطلعات والطموحات، سواء كانت خاصة أو عامة، لا يمكن تحقيقها دفعة واحدة، وإنما هي بحاجة إلى مدى زمني تتحرك فيه وتقترب شيئا فشيئا صوب الهدف والتطلع المرسوم.
لهذا فإننا ندعو كل الأطراف في العالم العربي، إلى الأخذ بعين الاعتبار الظرف الزمني الحساس الذي تعيشه المنطقة.
إننا نشعر بأهمية جدولة مشروعات التطوير والإصلاح، وذلك من أجل أن تتجه كل الطاقات والكفاءات صوب الأهداف والغايات الوطنية المشتركة.
لا ريب أن ما شهدته بعض البلدان العربية من تحول دراماتيكي وسريع في نظامها السياسي سواء على مستوى الزعامات السياسية الأولى، أو في بعض هياكلها الإدارية والسياسية وخياراتها الداخلية والخارجية، وما تعيشه بلدانا عربية أخرى من إرهاصات تتجه بشكل حثيث نحو التغيير والانتقال إلى طور سياسي آخر، يختلف في حدوده الدنيا جزئيا عن الواقع السياسي القائم.. أقول إن ما تشهده هذه البلدان من تحولات لم تكن في الحسبان، ولم تكن متوقعه لدى أغلب المحللين والمهتمين بمصائر العالم العربي..
وإن هذه التحولات والتطورات المتسارعة تثير الكثير من الأسئلة حول طبيعة ما يجري في العالم العربي، ولماذا عبر الشارع العربي عن نفسه بهذه الكيفية؟، وكيف ستتعامل الأنظمة السياسية مع طموحات شعوبها وحراكها نحو التغيير؟.. إنها أسئلة محورية تتعلق بما يجري في العالم العربي من تحول وتغيير.. وحتى لا نقع في عملية الاجتزاء والاختزال، من المهم هنا التفريق بين الموقف من هذه الأحداث والتطورات وبين تفسيرها.. فإننا كشعوب عربية من المحيط إلى الخليج، تفاعلنا بأشكال ومستويات متفاوتة، مع ما يجري في العالم العربي من تغير وتحول في السياسات والخيارات، وإن هذه التطورات أزالت الركام التاريخي عن عقل ونفس الإنسان العربي الذي ألف اليأس والسكون وإنه ليس بمقدور أحد تغيير ما هو قائم.. فجاءت هذه الأحداث والتطورات، وأزالت كل هذا الركام والرين، وأوضحت بشكل صريح أن الشعوب العربية قد تمرض إلا أنها لا تموت. وإن القوة الاجتماعية الجديدة الصاعدة هي التي حركت المياه الراكدة، وإنها هي التي زحزحت ما هو قائم بإرادتها السلمية وصبرها على المكاره والشدائد..
لهذا فإن العمل على تفسير ما يجري، هو في تقديري أهم من طبيعة الموقف الذي نتخذه تجاه ما يجري.. لأن صياغة تفسير دقيق وواقعي لما يجري في العالم العربي، سيساعدنا على أن تكون مواقفنا ورؤيتنا إلى مآلات حركة التغيير دقيقة وموضوعية..
فالعالم العربي بعد زمن طويل من السكون والخمول يتحرك ويتغير، ويعيد صياغة المعادلات المحلية والإقليمية على أسس جديدة.. لهذا فإننا نعتقد وببساطة شديدة، إن هذه الأحداث والتطورات مهما كانت نتائجها النهائية، فإنها أدخلت العالم العربي بأسره في مرحلة جديدة وستكون مختلفة عن الحقبة الماضية..
فالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تنشدها الشعوب العربية، تحولت عناوينها وأولوياتها لدى الشعوب التي تحركت ونالت ما تريده من عملية التغيير إلى حقائق قائمة وبدأت عجلة التنفيذ بالحركة مهما كانت الصعوبات والعقبات.. فالشعب التونسي بحركته السلمية المذهلة، نقل مطالبه في الديمقراطية والإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى حيز التنفيذ، وبدأت قوى المجتمع المختلفة تتلمس السبل المناسبة لعملية التحول نحو الديمقراطية..
كما أن الشعب المصري الذي برزت فيه قوى اجتماعية وسياسية جديدة، بدأت تتضح معالم حياته السياسية الجديدة، حيث الحريات الإعلامية والسياسية والتجديد البنيوي في أسس النظام السياسي المصري، وانخراط متعاظم لكل القوى السياسية والاجتماعية في الحياة العامة.. ويبدو من طبيعة الأحداث والتطورات التي تجري في بلدان عربية أخرى، أن ربيع العرب لا زال قائما، وإن إرادة العرب المتجهة صوب التغيير لا زالت قائمة وحيوية وستصل إلى أهدافها في بلدان عربية جديدة..
وتظهر الوقائع الراهنة في البلدان العربية، أن لكل بلد عربي ظروفه وخصوصياته وأولوياته، ولكن تظهر هذه الوقائع والتطورات، أن طبيعة المشاكل الجوهرية التي تواجه الشعوب العربية واحدة أو متشابهة.. فكل هذه الشعوب تنشد الإصلاح والتغيير، وإنها بنسب متفاوتة تعاني التغييب عن الحياة العامة وصناعة المصير.. لذلك نجد أن الشعارات والأهداف التي حملتها الشعوب العربية، وهي تجوب الشوارع وتعتصم في الميادين واحدة أو متطابقة إلى حد بعيد..
وإن الشعوب العربية تستحق واقعا سياسيا واقتصاديا أحسن وأفضل مما تعيشه.. وإن مقولة الشعوب العربية ليست مؤهلة للانتقال نحو الإصلاح والديمقراطية سقطت، لأن هذه الشعوب عبرت عن نفسها بطريقة سلمية - حضارية، وأبانت بأجيالها المختلفة عن شوقها التاريخي إلى الحرية والعدالة..
فالشباب العربي الذي كان يتهم بالضمور والميوعة واللامبالاة، سطر أروع ملحمة سياسية في التاريخ العربي المعاصر.. فهم الذين تحركوا وحركوا الشارع العربي، وهم الذين بمبادراتهم وخطواتهم المتلاحقة، تجاوزوا جميع النخب، وأبانوا أن البطن العربي ولاد، وأن بإمكانه أن ينجب كفاءات وطاقات جديدة، قادرة على تصحيح الاعوجاج وترك بصمات نوعية في مسيرة العالم العربي..
صحيح أن هناك قوى وأطراف عربية، تعمل بوسائل مختلفة لإدامة الشتاء العربي، ولكن وعي الشباب وإصرارهم بوسائل سلمية - حضارية على الإصلاح والتغيير هو الذي أفشل ولا زال تلك المحاولات التي تعمل على تأبيد العالم العربي وإبقاءه في مرحلة السكون والخمول..
وهذا لا يعني بطبيعة الحال أن طريق التغيير والإصلاح في العالم العربي معبدا، وإنما تعمل القوى المضادة لإدخال المجتمعات العربية في أتون الطائفية والمذهبية والعصبيات المناطقية والجهوية، لكي تعرقل حركة الإصلاح والتغيير.. فالقوى الدافعة على التغيير تعمل على تجاوز هذه الحفر والعقبات، والقوى المضادة تعمل على إدخال حراك الشارع العربي في نفق هذه العناوين، وهي عناوين تعرقل الإصلاح والتغيير، وتجعل المجتمعات العربية بين خيارين مرين: إما استمرار الكبت والاستبداد والفساد، أو الحروب الأهلية، التي تبرز فيها كل التناقضات الأفقية والعمودية في المجتمعات العربية، فينشغل الجميع بالجميع، وتتحول حركة الإصلاح والتغيير من حركة سلمية تستهدف إصلاح الأوضاع السياسة والاقتصادية والاجتماعية العامة، إلى حركة تتصارع مع بعضها البعض إما لاعتبارات طائفية أو مذهبية أو قبلية أو جهوية..
ويبدو أن دفع المجتمعات العربية إلى الاحتراب الداخلي، هو السلاح الأخير الذي تمتلكه القوى المضادة لحركة التغيير والإصلاح في العالم العربي..
لهذا فإن إصرار قوى المجتمع العربي الحية ووعيها، بهذه المخاطر والمزالق، هو الذي سيفشل آخر العقبات التي تحول دون تدفق حركة التغيير في المجتمعات العربية.. لأن الإصلاح والتغيير في العالم العربي هو ضرورة ملحة لكل الفئات والشرائح والمكونات.. وإن جميع المكونات والتعبيرات قد اشتركت في عملية التغيير التي جرت في تونس ومصر، كما أن جميع قوى وفئات المجتمع اليمني والليبي، هي التي تطالب بالإصلاح وتقاوم يدا بيد كل محاولات إجهاض عملية التغيير في هذين البلدين..
ولعل من أهم الثمار الذي سيجنيها العالم العربي، من حركة التغيير والإصلاح التي جابت العديد من الدول، أنها ستعيد تنظيم حقل السياسة، بحيث ستتمكن هذه التحولات من خلق مجال سياسي جديد، يتواصل مع جميع المكونات، ويستفيد من جميع الطاقات والكفاءات.. لأنه حينما [يغيب «على حد تعبير الأستاذ عبد الإله بلقزيز» المجال السياسي المفتوح على كل الإرادات، فإن تناقضات المجتمع وهي - طبيعية وموضوعية - لا تعبر عن نفسها تعبيرا سياسيا بالمعنى الحديث للكلمة، أي لا تجد لنفسها قنوات تصريف ضرورية تحفظ للمجتمع والكيان حقوقه وتوازنه في الآن نفسه..
لذلك عادة ما تميل التناقضات الاجتماعية إلى الإفصاح عن نفسها في أشكال تضع المجتمع الوطني برمته أمام انقسام داخلي حاد، يدمر كل الجوامع والوشائج بين فئاته وقواه المختلفة.. والمشكلة الأبرز لغياب المجال السياسي، هو التعبير عن التناقضات والمشاكل بوسائل عنفية، تدمر الاستقرار السياسي والاجتماعي، تدخل الجميع في أتون العنف والعنف المضاد] «راجع كتاب في الاجتماع السياسي والتنمية والاقتصاد وفقه الإصلاح - مدخل لتكوين طالب العلم في عصر العولمة - ص204»..
وعلى كل حال، ما نود أن نقوله في هذا الإطار هو أن العرب ومنذ اللحظة التي أحرق فيها «محمد البو عزيزي» نفسه في تونس، دخلت مرحلة جديدة، حيث تحولت فكرة الإصلاح والتغيير في بلدان عربية عديدة، من رغبة وشوق تاريخي، إلى حقيقة ملموسة، صنعها الشباب العربي بإرادته وعزمه على بناء مستقبل أفضل للعرب..
ثمة أسئلة مركزية تطرحها وتثيرها الأحداث والتطورات المتسارعة التي تجري في أكثر من بلد عربي.. فما جرى في بعض الدول العربية من انهيارات اجتماعية وسياسية، وسقوط لنظريات وخيارات سياسية بسرعة مذهلة وغير متوقعة، تدفعنا إلى ضرورة طرح هذه الأسئلة والبحث عن أجوبة حقيقية وواقعية لها.. ولعل من أهم هذه الأسئلة هو: لماذا جرت في بعض الدول العربية هذه الأحداث؟، ما هي أسبابها وموجباتها؟، ولماذا وصلت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلى ما وصلت إليه؟.. حين التأمل في هذه الأسئلة المركزية ومآلاتها المختلفة نكتشف أن توقف عجلة الإصلاح والتطوير، هو الذي يقود عبر ديناميات ومتواليات معينة إلى ما وصلت إليه الأوضاع في العديد من الدول العربية.. فالدول التي تتوقف عن تطوير نفسها وإصلاح أوضاعها، ستصل إلى طريق مسدود، وذلك لأنها لم تستجب إلى مقتضيات العصر وحاجتها إلى التطوير والإصلاح.. وحين نتحدث عن حاجة الدول إلى الإصلاح، هذا لا يتجه فقط إلى الدول التي ترتكب أخطاء أو تقوم بممارسات سلبية بحق نفسها وحق مجتمعها.. وإنما حتى الدول التي لم تقع في خطأ أو لم ترتكب خطيئة بحق شعبها ومجتمعها، هي بحاجة إلى إصلاح وتطوير، يعني يتوقف عن التطور الطبيعي، مما يفضي إلى مراكمة المشاكل واستفحال الأزمات، وتصل إلى لحظة الانفجار السياسي والاجتماعي التي حدثت في العديد من الدول خلال حقبة ما سميت بالربيع العربي..
لهذا فإننا نرى أن المشكلة الأساسية على هذا الصعيد التي تواجه العالم العربي، هي تجمد حركة الإصلاح وغياب الإرادة السياسية والاجتماعية التي تدفع نحو التغيير والتطوير والإصلاح.. مما يؤدي إلى تضخم المشاكل وعدم الإنصات إلى الحاجات الأساسية للناس، فتتباعد الهموم والاهتمامات بين الناس والنخب السياسية، وتزداد الفجوات، وتتراكم الإخفاقات، مما يجعل الإصلاح والتطوير ضرورة واقعية وملحة، حتى ولو تغافلت عنها النخبة السياسية، أو تعاملت مع هذه الضرورة بنزعة التأجيل والتبرير.. فالذي جرى في بعض الدول العربية هو نتاج صم الآذان عن حاجات الناس الحقيقية.. ولهذا كانت هذه الأحداث لمن تعود إغماض عينه أو سد آذانه، مفاجئا وخارج نطاق المسيرة الطبيعية..
أما من كان يتأمل في الوقائع والحقائق التي تجري في هذه الدول العربية، وينصت إلى أشواق الناس الحقيقية، فإن ما جرى لا يعد مفاجئا إليه، «في المقال السابق تذكر بأن أحدا لم يتوقع أن تحصل أحداث الربيع العربي» لأن هذا هو السياق الطبيعي والمآل الأخير لمن يوقف عجلة الإصلاح أو يتغافل عن أشواق الناس الحقيقية.. فالإصلاح في العالم العربي وهذا ما تثبته أحداث الدول العربية خلال الشهور القليلة الماضية، هو ضرورة قصوى، وليست قابلة للتأجيل أو التسويف.. فتعميم التعليم وانفتاح المجتمعات العربية على العصر والحضارة الحديثة بكل زخمها وتفاعل أبناء الدول العربية مع أحدث التقنيات ومكاسب العصر، كلها تفضي إلى ضرورة استيعاب المتغيرات التي تجري في هذه الدول بشكل متسارع.. وإن عمليات التأجيل أو التسويف، أو استخدام القهر والقوة والعنف لمنع استحقاقات الإصلاح والتطوير، فإنها مهما كانت سطوتها وفعالياتها، لا تنهي من نفوس الناس تعلقهم بالإصلاح والتطوير، ولا تميت من عقولهم ووجدانهم حاجتهم الماسة إلى التغيير وتجاوز عقبات وكوابح التقدم والتطور والنهضة.. فالإصلاح بكل مضمونه وخطواته الضرورية، أضحى مطلبا أسياسيا، وهو حاجة للحكومات العربية قبل أن يكون ضرورة للشعوب العربية..
والذي لا يستجيب إلى هذه الحاجة والضرورة، فإنه يهدد استقرار وأمن بلاده، ويوفر كل المبررات والمسوغات لتدخلات أجنبية تزيد من أزماتنا، وتفاقم من مشكلاتنا على مختلف الصعد والمستويات..
فتسويف الرئيس اليمني وتراجعه عن خيار الإصلاح والتطوير وعدم الانسجام مع رغبات شعبه، هو المسئول إلى حد بعيد إلى وصول الأمور في اليمن إلى ما وصلت إليه..
فالقتل والقمع وتنمية الفوارق والتناقضات الأفقية والعمودية في المجتمعات العربية، لن ينهي حاجة هذه المجتمعات إلى إصلاح أوضاعها وتطوير أحوالها.. لأن منطق التاريخ يقول: إن الذي يوقف عجلة الإصلاح لا يحقق الأمن والاستقرار، وإنما يعمق في النفوس والعقول الحاجة إلى الإصلاح.. وإن هذه الحاجة العميقة والمتجذرة في النفوس والعقول، ستبرز على السطح في لحظة ما من لحظات الزمن ومسيرة المجتمعات..
فالدول التي تحجم عن ممارسة الإصلاح والتطوير مهما كانت المبررات، فإنها تؤسس بطريقة أو بأخرى عوامل إخفاقها وسقوطها.. لأن النخبة التي تسقط من نفوس وعقول شعبها، ستسقط في الواقع الخارجي سواء قصر الزمن أو طال.. لهذا فإن الإصلاح هو الذي يطيل من عمر الدول والحكومات ويعمر الأمم والمجتمعات..
وكل التجارب تثبت هذه الحقيقة.. فالدول المستقرة اليوم، هي الدول التي لم تتوقف عن إصلاح أوضاعها وأحوالها، والمجتمعات التي تعيش الأمن العميق، هي المجتمعات التي تطور من ذاتها، وتعمل عبر فعالياتها المختلفة ودينامياتها المدنية من معالجة إخفاقاتها وحل مشكلاتها.. فخريطة طريق الأمن والاستقرار في كل الدول والمجتمعات، هو استمرار فعل الإصلاح، وعدم إيقاف عجلته مهما كانت الصعوبات والعقبات.. ولا بد أن ندرك ومن خلال التجارب العديدة التي مرت على دولنا ومجتمعاتنا، أن الثمن الذي تقدمه الحكومات والنخب السياسية للإصلاح والتطوير، أقل بكثير من الثمن الذي يقدم من جراء توقف عجلة الإصلاح ومنع المجتمعات من التعبير عن آمالها أو نيل حقوقها المختلفة..
فالحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وغيرها من القيم والمبادئ، هي التي تعزز الأمن والاستقرار في كل الدول والمجتمعات.. وكل القيم والمبادئ المضادة لها، هي التي تفكك الدول وتضعف من قوتها وتعجل من انهيارها أو انهياراتها.. وتنمية الغرائز والعصبيات لا يحمي أحدا، وإنما يوفر إمكانية الانهيار الشامل..
فالعرب اليوم هم أحوج ما يكونون إلى مشروع الإصلاح، الذي يوقف عملية الانحدار والتشظي ويعزز من فرص الحرية والوحدة معا، وينهي المخاطر العديدة التي تحاصر العرب من كل الاتجاهات، ويعيد بناء القوة العربية على أسس أكثر منعة وصلابة..
وحيوية الإصلاح وفعاليته في كل الدول والتجارب، حينما يأتي في وقته، أما إذا تأخر لسبب ذاتي أو موضوعي أو هما معا، فإن القيام به، لن يقنع المجتمع، ولن يتمكن من إيقاف عجلة الانحدار والتداعي.. فحينما تأخر الإصلاح في الاتحاد السوفيتي السابق، كانت النتيجة في خطوات غورباتشوف التي سميت بالبريسترويط والفلاسنوست، هي المزيد من الانحدار والتلاشي والتشظي.. وهذا هو الذي جرى في الدول العربية التي توقفت عن الإصلاح أو تأخرت عنه، فكانت النتيجة هي السقوط.. فالإصلاح ليس مناورة لكسب الوقت أو تهدئة الخواطر، بل هو ضرورة قصوى لدولنا ومجتمعاتنا.. فبه نزداد قوة ومنعة، وبه نطرد نقاط ضعفنا، وننهي ترهلنا، ونحمي استقرارنا وأمننا السياسي والاجتماعي..
وهو جسر العبور إلى المستقبل الآتي، وبدونه لا مستقبل حقيقي لشعوبنا العربية والإسلامية..
والذي يجري في ليبيا، يجعلنا نعتقد أن عسكرة المجتمع واحتكار مصادر القوة وقمع الناس ومنعهم بكل الوسائل من التعبير عن ذواتهم وحقوقهم وآمالهم، لم يفض إلى استقرار عميق، بل كل هذه الممارسات، ساهمت في تأزيم الأوضاع واستفحال المشكلات وأصبح المطلب الأساسي الذي لا يحيد عنه الناس في ليبيا هو رحيل نظام القذافي بكل شخوصه ومؤسساته..
فالعالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، بحاجة إلى الإصلاح والتطوير.. ومن الضروري أن تتعامل كل الدول مع هذه الحاجة بوصفها حاجة داخلية تقتضيها وقائع الحال والراهن ومقتضيات القبض على أسباب التقدم والتحكم بمصائر الحاضر والمستقبل..
وجماع القول: إن الاستبداد بكل صنوفه، يضر بالاستقرار، ويهدد النسيج المجتمعي ويعمق الفجوات بين المواطنين، ويزيد المحن على كل المستويات، ولا معالجة لكل هذه الأمراض والظواهر السلبية إلا بالتشبث بخيار الإصلاح والعمل على الوفاء بكل حاجاته ومستلزماته..
يعيش العالم العربي بكل دوله وشعوبه اليوم، الكثير من التحولات والتطورات المتسارعة. حيث دشنت لحظة سقوط نظام بن علي في تونس عملية التغييرات والتحولات التي لا زال تأثيرها ممتدا ومتواصلا في كل أرجاء العالم العربي بمستويات وأشكال متفاوتة ومختلفة. ولا ريب أن ما يجري من أحداث وتطورات في بعض البلدان العربية، هو مذهل وغير متوقع وكل المعطيات السابقة، لا تؤشر أن ما حدث سيكون قريبا.. «يناقض ما سبقه.»
لهذا فإن كل هذه التطورات والتحولات هي بمستوى من المستويات مفاجئة للجميع..
فالفكر السياسي العربي وخلال العقود الثلاثة الماضية، كان يبشر بأن الثورات والانتفاضات الشعبية لم تعد هي وسيلة التغيير السياسي في المنطقة.. وإن ثورة 1979 م في إيران هي آخر الثورات الشعبية في المنطقة..
لذلك فإن النخب السياسية في العالم العربي بكل أيدلوجياتها وخلفياتها الفكرية، كانت تعيش حالة من اليأس تجاه قدرة الشعب أو الشعوب العربية من إحداث تحولات دراماتيكية في واقعها السياسي وواقع المنطقة بشكل عام.. ولكن جاءت أحداث وتطورات وتحولات تونس ومن بعدها مصر، لكي تثبت عكس ما كانت تروجه بعض الأيدلوجيات والنخب تجاه الجماهير وقدرتها على إحداث تغيير سياسي في واقعها العام.. والملفت للنظر والذي يحتاج إلى الكثير من التأمل العميق هو أن جيل الشباب، أي جيل الإعلام الجديد من الفيسبوك وتوتير ويوتيوب هو الذي قاد عملية التغيير، وهو الذي تمكن من تحريك الشارع العام في تونس ومصر.. فالجيل الجديد الذي كانت تصفه بعض النخب والجماعات، بأنه جيل ترعرع بدون قضية عامة يسعى من أجلها ويناضل في الدفاع عنها عكس أجيال الخمسينيات والستينيات، هو الذي قاد عملية التغيير، وبوسائله السلمية استطاع أن يحرك كل النخب وكل شرائح وفئات المجتمع الأخرى..
لهذا فإن ما حدث ويحدث في العالم العربي اليوم هو مذهل، وقد أنهى حقبة وتداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر حيث كان الغرب ينظر إلى شرائح المجتمعات العربية المختلفة بوصفها مشروع قائم أو محتمل للإنسان الإرهابي الذي يفجر نفسه ويقوم بأعمال عنفية لا تنسجم وقيم الدين وأعراف العالم العربي وتقاليده الراسخة..
فما جرى في تونس ومصر، حيث حضر الشباب، ومارسوا حقهم بالتعبير عن الرأي، أنهى على المستوى الاستراتيجي حقبة بقاء الشباب العربي تحت تهمة وتداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر..
فالنموذج الجديد الذي قدمه الشباب العربي في تونس ومصر وغيرها من الدول العربية التي تشهد حراكا اجتماعيا وسياسيا ومطلبيا هو أنه جيل يستحق أن يعيش حياة كريمة وأن تعاطيه الشأن العام عبر عنه خارج الأطر والأحزاب الأيدلوجية، وإنما مارسه بطريقته الخاصة، والمذهل في الأمر أن هذه الطريقة غير المتوقعة هي التي أتت أكلها، ونجحت في إحداث تغييرات وتحولات سياسية واجتماعية كبرى في أكثر من بلد عربي.. لهذا فإننا نعتقد أن المنطقة العربي بأسرها، تعيش مرحلة جديدة على أكثر من صعيد.. وما نود أن نؤكد عليه في هذا السياق هي النقاط التالية:
1 - إن المجتمعات والشعوب العربية تستحق حكومات وأنظمة سياسية متطورة ومدنية، وتفسح المجال للكفاءات الوطنية المختلفة للمشاركة في تنمية الأوطان العربية وتطويرها على مختلف الصعد والمستويات..
والذي يلاحظ أن الدول العربية التي كانت أو لا زالت في منأى من موجة المطالبة بالإصلاحات والتغييرات، هي تلك الدول التي تعيش في ظل أنظمة وحكومات فيها بعض اللمسات أو الحقائق الديمقراطية، أو تمكنت من حل بعض مشاكل شعبها الاقتصادية والاجتماعية.. ومع ذلك فإننا نعتقد أن هذه الموجة ستطال بشكل أو بآخر كل الدول والشعوب العربية..
ونحن نعتقد أن مسارعة الدول العربية في القيام بإصلاحات سياسية ودستورية واقتصادية، سيقلل من فرص خروج الناس إلى الشارع إلى المطالبة بحقوقهم.. وما جرى في تونس ومصر، يوضح بشكل لا لبس فيه أن المجتمعات العربية تستحق أوضاعا سياسية واقتصادية وقانونية أفضل مما تعيشه الآن..
2 - إن التحولات السياسية الكبرى التي تحققت في تونس ومصر، وموجاتهما الارتدادية في أكثر من بلد عربي، تجعلنا نعتقد وبعمق أن المشاكل الكبرى وبالذات على الصعيد السياسي متشابهة في أغلب الدول العربية.. فالحكومات والأنظمة السياسية في هذه الدول، هي أنظمة ذات قاعدة اجتماعية ضيقة، مع تضخم في أجهزتها الأمنية التي تمارس الإرهاب والقمع بكل صوره وأشكاله، مما زاد من الاحتقانات، وراكم من المشكلات البنيوية التي يعيشها المجتمع والدولة في هذا البلد العربي أو ذاك..
وبفعل هذه الحقيقة تمكنت هذه الدول التسلطية من إفراغ كل الأشكال والحقائق الديمقراطية الموجودة في أكثر من بلد عربي من مضمونها الحقيقي، حتى أضحت نموذجا صارخا للمقولة التي أطلقها المفكر المصري «عصمت سيف الدولة» بالاستبداد الديمقراطي.. فالأشكال الديمقراطية أصبحت عبئا حقيقيا على المجتمعات العربية ونخبها السياسية والاجتماعية والثقافية، لأنه باسم الديمقراطية يتم تأبيد السلطة واحتكار عناصر القوة وتستفحل من جراء هذا كل أمراض الاستبداد والديكتاتورية..
3 - إن الإصلاح السياسي الذي نراه أنه جسر عبور لكل الدول العربية إلى مرحلة جديدة، تؤهلها لتجاوز بعض مشكلاتها، ومعالجة أزماتها الداخلية، ويحصنها من خلال تطوير علاقة الدولة بمجتمعها تجاه كل التحديات والمخاطر.. أقول أن هذا الإصلاح السياسي هو ضرورة حكومية - رسمية، كما هو حاجة وضرورة مجتمعية..
فهو «الإصلاح» ضرورة للحكومات العربية لتجديد شرعيتها الوطنية وتوسيع قاعدتها الاجتماعية ولكي تتمكن من مواجهة التحديات المختلفة.. كما هو «أي الإصلاح» ضرورة وحاجة للمجتمعات العربية، لأنه هو الذي يخرج الجميع من أتون التناقضات الأفقية والعمودية الكامنة في قاع المجتمعات العربية، وهو الذي يصيغ العلاقة بين مختلف المكونات على أسس الاحترام المتبادل والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات..
ومن المعلوم أن الانغلاق في السلطة سمة من سمات الدولة التسلطية «على حد تعبير خلدون النقيب في كتابه: الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر - دراسة بنائية مقارنة»..
وهو يعبر عن حالة غير طبيعية في مسيرة الدولة الحديثة، هي حالة التماهي بين السلطة والدولة.. لهذا فإن العالم العربي بحاجة إلى أنظمة سياسية حديثة تستجيب لشروط العصر وتتناسب والدينامية الاجتماعية المتدفقة..
4 - إن التجارب والتحولات السياسية الكبرى، تجعلنا نعتقد أن الشيء الأساسي الذي يجعل عمر الدول طويلا وممتدا عبر التاريخ، ليس هو ترسانتها العسكرية وموقعها الجغرافي والاستراتيجي، وإنما هو قبول ورضا الناس بها.. إذ أن كل تجارب الدول عبر التاريخ الطويل تثبت بشكل لا لبس فيه أن حكم الناس بالإكراه، قد يطول، إلا أنه لا يدوم.. وإن عمر الدول واستمرارها مرهون بقدرة هذه الدول على تحقيق رضا وقبول الناس بها. بمعنى أن الدول حتى ولو كانت إمكاناتها البشرية محدودة وثرواتها الطبيعية والاقتصادية متواضعة، إلا أن رضا الناس بها، وقبول الشعب بأدائها وخياراتها، فإن هذا الرضا والقبول يجبر الكثير من نواقص الدولة الذاتية أو الموضوعية، ويمدها بأسباب الاستمرار والديمومة.. «فكرة ذكرت في العنوان السابق.»
فالذي يديم الدول ويوفر لها إمكانية الاستمرار، هو مشاركة الناس في شؤونها المختلفة، واحتضانهم إلى مشروعها، وشعورهم بأنها «أي الدولة» هي التعبير الأمثل لآمالهم وطموحاتهم المختلفة..
وما جرى في تونس ومصر من أحداث وتحولات سياسية سريعة، يؤكد هذه الحقيقة.. فكل المؤسسات والأجهزة العسكرية، لم تستطع أن تدافع عن مؤسسة السلطة التي يرفضها الناس ويعتبرونها معادية لهم في حياتهم اليومية وتصوراتهم لذاتهم الجمعية والمستقبلية. لهذا فإننا نعتقد إن إسراع الدول في إصلاح أوضاعها وتطوير أنظمتها القانونية والدستورية وتوسيع قاعدتها الاجتماعية وتجديد شرعيتها السياسية، كل هذه العناصر تساهم في إعطاء عمر جديد لهذه الدول..
فتحريك عجلة الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي في دولنا العربية، أضحى اليوم من الضرورات والأولويات، التي تحول دون دخول دولنا العربية في أتون المشكلات والأزمات التي تعوق من مسيرتها ودورها في الحياة الوطنية والقومية والدولية..
ومن المؤكد أن اقتراب الدول العربية من قيم ومعايير الحكم الرشيد، هو الذي سيعيد الاعتبار إلى المنطقة العربية، وهو السبيل المتاح والممكن اليوم للخروج من العديد من الأزمات والمآزق على الصعيدين الداخلي والخارجي..
وحده الحكم الرشيد بكل قيمه ومضامينه ومقتضياته، هو الذي سيعيد العالم العربي إلى حركة التاريخ، ودون ذلك ستبقى المنطقة بكل ثرواتها البشرية والاقتصادية بعيدا عن القبض على أسباب التقدم والاستمرار الحضاري..
حين التأمل في التجارب الإنسانية والمجتمعية، التي خاضت ثورة أو تحولات جماهيرية، أفضت إلى تحول سياسي في نظام الحكم ومؤسسات الدولة، نجد أن جميع هذه التجارب، خاضت بعد تغيير نظام وشكل الحكم، سجالات وصدامات اجتماعية وسياسية، تحولت في بعض اللحظات إلى ممارسة العنف وسفك الدم.. وهذا المقال «ونحن هنا» لا يستهدف تبرير وتسويغ ما يجري في أكثر من بلد عربي، تغيرت فيه أنظمة الحكم، ودخلت نخبة جديدة في مسؤولية إدارة الدولة ومؤسسة الحكم، وإنما غاية هذه المقالة «وإنما غايتنا»، هو الوصول إلى تفسير علمي - اجتماعي - سياسي لهذه الظاهرة.. لأن هذه الظاهرة تكررت في كل الفضاءات الإنسانية التي شهدت تحولات اجتماعية وسياسية كبرى.. بصرف النظر عن أيدلوجية النخبة الجديدة، وطبيعة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي يعيشها الشعب، ونوعية الخيارات الثقافية السائدة في البيئة الاجتماعية والسياسية..
ولا ريب أن تكرر هذه الظاهرة بتفاوت بسيط في كل التجارب، يثير الكثير من علامات الاستفهام والأسئلة، التي تبحث عن تفسيرات علمية لهذه الظاهرة..
والشعوب العربية بكل خصوصياتها، ليست استثناءا من هذه الشعوب والمجتمعات.. فما جرى في تحولات دول أمريكا اللاتينية وبعض الدول في آسيا وأفريقيا، بدأت ملامحه بالبروز في المشهد العربي.. إلى درجة أنه تم نحت شعار في كل التحولات والثورات مؤداة أن الثورات تأكل أبناءها.. بمعنى أن النخبة التي قادت التحول والتغيير بعد وصولها إلى هدفها السياسي المباشر، تنقلب على نفسها، وتبرز تناقضاتها الأفقية والعمودية، وتتوسل بالعنف ووسائل المكايدة السياسية المختلفة للتسقيط والتسقيط المتبادل.. فيتم القتل والتدمير إلى أن يصل في بعض الحالات والنماذج إلى أفظع من ممارسات النظام السابق.. فتبرز في الفضاء الاجتماعي والسياسي ظاهرة ما نسميه التأسف على المرحلة السابقة.. بمعنى أن النخبة الجديدة وفي فترة زمنية وجيزة، استطاعت بعنفها الثوري وخياراتها المتسرعة، واستهتارها بحياة الناس وأوضاعهم المعيشية، تنسي مجتمعها عنف النظام السابق وخياراته المميتة والكارثية.. أقول إن هذه الظاهرة، تكررت في أغلب التجارب، مع تعدد خيارات النخب، واختلاف أيدلوجياتها وطبيعة الظروف السياسية والاقتصادية التي يعيشها مجتمعها.. ويبدو من كل المعطيات أن هذه الظاهرة، ستتكرر في كل الدول والمجتمعات العربية التي خاضت تجربة التحول السياسي والاجتماعي في الفترة الأخيرة..
وبطبيعة الحال فإن الظواهر الاجتماعية والسياسية، تحتاج بالدرجة الأولى إلى فهمها ومعرفة ميكانيزمات تأسيسها وتحولها إلى ظاهرة مجتمعية تتكرر في أغلب البيئات الاجتماعية والسياسية.. فالمطلوب أولا ليس إطلاق أحكام قيمة ومواقف نهائية من هذه الظاهرة، وإنما المطلوب بالدرجة الأولى: بناء رؤية وتفسير علمي ودقيق ومتكامل لهذه الظاهرة..
وفي سياق المساهمة في تفسير هذه الظاهرة الاجتماعية - السياسية نذكر النقاط التالية:
1 - إن النخب السياسية والاجتماعية التي قادت عملية التحول، تنتمي إلى خيارات وأيدلوجيات متعددة ومختلفة.. إلا أن هذا الاختلاف والتباين لا يبرز بحدة في زمن ما يسمى بمرحلة النضال السلبي، وإنما يبرز في اللحظات الأولى لعملية التحول الاجتماعي والسياسي.. بمعنى أن هذه النخب بصرف النظر عن دوافعها في الاشتراك في عملية التحول والتغيير، هي تعرف وتتفق إلى حدود عليا وقصوى ما لا تريد سواء على المستوى الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي إلا أن هذه النخب ليست متفقة ومنسجمة حول ما الذي تريده ولعل هذا التباين الصارخ في بعض اللحظات بين ما لا تريده والذي تريده هذه النخب، هو الذي يقود إلى التوتر والصدام..
فالنخبة السياسية والاجتماعية، التي قادت واشتركت في صناعة التحول في مصر أو تونس، هي متوحدة ومنسجمة مع بعضها البعض في ما لا تريده، ولكن حينما تغيرت الظروف السياسية والاجتماعية، وأصبح المطلوب هو ماذا تريد النخبة أو النخب.. ومن جراء الاختلاف والتباين على هذا الصعيد، تدخل هذه النخب مع بعضها البعض في صدام وتوتر وتباين صريح.. ولكون القوى الاجتماعية تعيش مرحلة السيولة، فإن أغلب هذه القوى تنزلق في مشروع الصدام والتوتر، لضمان موقعها في الوضع الجديد وتقزيم بعض القوى المنافسة..
إننا نعتقد أن أحد الأسباب الرئيسية، التي تساهم في تفسير ظاهرة الصدام بين النخبة التي قادت التحول والتغيير في مجتمعها، هو أن هذه النخب تنتمي إلى أيدلوجيات مختلفة، وتتبنى خيارات سياسية مختلفة، وهذا الاختلاف والتباين يقود هذه النخب أن تعرف ما لا تريده، ولكنها لا تعرف حين بناء الوضع السياسي الجديد ما الذي تريده..
فالوحدة الشكلية والقشرية في مرحلة معرفة ما لا تريده، تتحول إلى تشظي وتشرذم وبناء تحالفات على القواعد وأسس جديدة في مرحلة التباين على الذي تريده هذه القوى والفعاليات..
2 - من المؤكد والطبيعي أن القوى المضادة للتحول والتغيير، تعمل بكل إمكاناتها لعرقلة أو إفشال عملية التحول والتغيير.. لهذا فإننا نعتقد أنه في كل التجارب الإنسانية والسياسية فإن القوى المضادة للتحول، لا تستسلم وترفع الراية البيضاء، وإنما تعمل على تجميع أطرافها وحشد طاقاتها لإفشال وعرقلة هذا التحول، ومعاقبة القوى الشعبية التي ساهمت في إسقاطها.. لهذا فإن القوى المضادة في كل هذه التجارب، تتحمل جزء من مسؤولية الانزلاق نحو العنف والتوتر المفتوح على كل الاحتمالات في الدول التي شهدت تحولا سياسيا قادته قوى الشعب المختلفة..
3 - لعل من أخطر المراحل التي يواجهها أي شعب من الشعوب، هي مرحلة السيولة السياسية والانسياب الأمني والتشظي الاجتماعي.. لأن هذه المرحلة لا راعي حقيقي وقانوني للمجتمع ومصالحه المتنوعة.. لأن في هذه المرحلة، تبرز كل الفئات المجرمة والغوغائية، والتي تعمل على استثمار هذه المرحلة في زيادة وتيرة جرائمها وحسم خلافاتها بالعنف واستخدام القوة العارية، وتصفية حساباتها مع قوى اجتماعية منافسة لها.. إضافة إلى هذا، انزلاق بعض القوى المجتمعية نحو ممارسة العنف ضد المخالفين لهم في الخيارات السياسية والأولويات.. وبالذات بعض تلك القوى التي تشعر بأنها لم تحصل على مكاسب سياسية بمستوى جهدها ونضالها وتضحياتها..
أحسب أن هذه النقاط الثلاث، هي أحد المداخل الرئيسة لتفسير ما يجري من أحداث وتطورات صدامية وعنفية باسم الثورة في بعض البلدان التي سميت دول الربيع العربي..
ومن الضروري أن لا نغفل في هذا الإطار عن ذكر الحقيقة التالية:
أن صدام النخبة مع بعضها البعض ليس قدرا مقدرا، وإنما هي نتاج ظروف سياسية واجتماعية، حاولنا أن نوضح بعضها في السطور السابقة، إلا أنها في كل الأحوال ليست حتمية.. بمعنى أن بإمكان شعب من الشعوب أن يتجاوز حالة الصدام العنفي، ويدير تناقضاته الأفقية والعمودية بوسائل سلمية، تراكم من مكاسب المرحلة الجديدة، ولا تدخل المجتمع بكل شرائحه وفئاته في أتون الصدامات العبثية..
وإن بناء أفق ومجال جديد للتنافس السياسي بين قوى المجتمع السياسية والمدنية والنقابية، يتطلب من الجميع الاهتمام ببناء تفاهمات دستورية عميقة، تحول دون الانقلاب عليه أو التلاعب به من قبل قوة نافذة.. إننا نعتقد أنه لا يمكن بناء حياة سياسية جديدة، خالية من ممارسة العنف، إلا ببناء منظومة قانونية متكاملة ولها سيادة على الجميع.. فهذا هو حجر الأساس في مشروع إنجاز الانتقال السياسي بأقل استخدام ممكن للعنف ومتوالياته السياسية والمجتمعية..
تعددت الأيدلوجيات والأفكار والمرجعيات المفاهيمية والفلسفية التي سادت في العالم العربي.. وتمكنت بعضها من الحكم وإدارة بعض الدول العربية على أسس ومبادئ تلك الأفكار والأيدلوجيات. فأصبحت في العالم العربي دولا تتبنى النظرية الماركسية وتعمل بإمكانات الدولة إلى تعميم الرؤية الماركسية وإخضاع كل الشرائح والفئات إلى تلك الرؤية الأيدلوجية. كما تشكلت دولا وفق النظرية القومية، حيث عمل أصحاب هذه النظرية إلى تسيير شؤون الدولة والمجتمع وفق الرؤية والمعايير القومية..
وتعددت في العالم العربي الدول التي تتبنى رؤية أيدلوجية، وعملت على إخضاع كل مؤسسات الدولة إلى الرؤية الأيدلوجية، التي تحملها وتتبناها النخب السياسية السائدة..
ودخلت هذه الأيدلوجيات في حروب وصراعات مفتوحة، ولقد شهد العالم العربي وعبر فترات زمنية مختلفة تلك الصراعات والحروب التي عمل كل طرف على إثبات أيدلوجيته ومصالحه بعيدا عن مصالح الأمة وأمن المجتمعات العربية.. ومع أن هذه الأيدلوجيات، دخلت في حروب وصراعات دامية مع بعضها، إلا أن بينها قواسم أيدلوجية وسلوكية وسياسية واحدة.. ولعل من أهم القواسم المشتركة بين أصحاب الأيدلوجيات التي سادت في العالم العربي، وسيطرت بشكل أو بآخر إما على الدولة ومؤسساتها أو المجتمع ومؤسساته، هو أن أصحاب هذه الأيدلوجيات، لا يعتنوا كثيرا بحاجات الإنسان العربي ومتطلباته الأساسية. فكل الجهود والإمكانات تصرف باتجاه تثبيت وتعميم ونشر المقولات الأيدلوجية، بعيدا عن الاهتمام بحاجات الإنسان أو الإنصات إلى مطالبه ومطامحه..
لذلك فإن الكثير من ثروات وإمكانات الدول الأيدلوجية، صرفت على نشر المقولات الأيدلوجية والحزبية، وكأن نشر هذه المقولات، هو الهدف الأسمى والغاية العليا.. ووفق هذا السلوك والتصرف الذي مارسته الدول الأيدلوجية، كما مارسته الجماعات الأيدلوجية، ضاعت حاجات الإنسان فردا وجماعة، واضمحلت حقوقه الأساسية، واعتبر الإنسان كقيمة وحقوق وكرامة في أدنى سلم الاهتمام. ولا نحتاج إلى كثير عناء لإثبات هذه الحقيقة الناصعة في الكثير من الدول والتجارب. فيكفي أن تذهب إلى أي دولة أيدلوجية أو تقدمية في العالم العربي، لاكتشاف هذه الحقيقة. حيث كل الامكانات تتجه إلى الشعارات وتخليد الزعيم واثبات صحة المقولات الأيدلوجية والحزبية التي قامت عليها الدولة. بينما الإنسان في هذه الدول يعيش العوز والضنك والصعوبات الحياتية المختلفة، كما يعاني من الكبت والقمع والخوف الدائم من زوار الفجر وأجهزة الاستخبارات..
فهذه التجارب والدول، تحارب وبشعارات ثورية وتقدمية حقوق الإنسان، وتعمل على إبقاء مواطنيها يلهثون ليل نهار من أجل لقمة العيش اليومية. لذلك فإن هذه الدول، لم تحقق أي إنجاز يذكر لمواطنيها، كما أنها لم تحقق وخلال سنين طويلة من الحكم والسيطرة على مقاليد الأمور الشعارات التي رفعتها، حينما وصلت إلى سدة الحكم.
فالدول التي رفعت شعار الوحدة لم تنجز إلا المزيد من التجزئة والتشظي. والدول التي رفعت لواء الدفاع عن الطبقات المحرومة في المجتمع، أضحت هذه الطبقات هي أول ضحايا هذه التجربة وهذه الدولة..
ويشير إلى هذه المسألة الدكتور «برهان غليون» بقوله: أزمة الدولة أعمق إذن مما تبدو عليه عادة وكأنها أزمة نظام، إنها أزمة فكرتها ذاتها. وتلاشي روح الولاء للسلطة الوطنية والانتساب للمشروع الذي كانت تقترحه على المجتمع نابع بالضبط من انكشاف عجز السلطة هذه عن إنجازه، أي عن خيانتها له، وليس بسبب تحققه. وهذا يعني أيضا أنه نابع من تنامي الاقتناع بأن هذا المشروع بالصورة التي تبلور فيها لا يمكن أن يشكل مدخلا إلى التقدم الإنساني. وهكذا، وفي أقل من عقدين، أصبحت القيم التي كانت تغذي لدى الجمهور الواسع شعبية دولة التقدم وتثير حماسة للانخراط فيها والتماهي معها، هي نفسها القيم التي تدفع الجمهور إلى رفضها والتنكر لها. لقد كان يكفي أن تظهر لا فاعلية البرنامج الوطني أو عيوبه، عروبيا كان هذا البرنامج أم قطريا، حتى تفقد الدولة توازناتها المادية والمعنوية، وتضيع هي نفسها هويتها وتفقد مقدرتها على استقطاب الولاء وتحقيق الاندماج والإجماع.
فالدول الأيدلوجية والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيدلوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن. وهذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلعات.
لذلك فإن المطلوب اليوم، هو الخروج من هذه الشرنقة الأيدلوجية، التي تحيل كل شيء إلى قانون إما مع أو ضد وبناء دولة القانون والإنسان، التي تسعى لصياغة قانون لضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإلى تأهيل الإنسان، وإطلاق حرياته وتطلعاته.
فإننا كعرب لم نحصد من الدول الأيدلوجية، إلا المزيد من الصعاب والتراجع والتقهقر إلى الوراء. فالوحدة التي حلم بها الآباء، انتهت إلى دولة أيدلوجية مغلقة تكرس التجزئة وتنمي العصبيات، وباسم التنمية والعدالة الاجتماعية حصدنا نمو رأسمالية الدولة وتضخمت شريحة الانتهازيين والوصوليين.
ولقد علمتنا التجارب أن الدول التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظاما قهريا، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها. وهكذا وبفعل عوامل عديدة وعلى رأسها سيادة الدول الأيدلوجية التي لا ترى إلا مصالحها الضيقة، وتوظف كل الامكانات من أجل إثبات مقولاتها وأيدلوجيتها، وضيعت بفعل ذلك مصالح شعبها وامتهنت كرامته، اختلطت المعايير، واشتبكت القضايا، وسقطت الكثير من الشعارات المرفوعة. فالقتال أصبح داخليا، والحرب أضحت أهلية، والتطرف والإرهاب أصبح من نصيبنا جميعا. لهذا كله إننا أحوج ما نكون اليوم إلى تلك الدولة التي تعتبر أيدلوجيتها وشرعيتها هو في خدمة الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته بصرف النظر عن أصوله الأيدلوجية أو القومية أو العرقية..
إننا في العالم العربي بحاجة إلى تلك الدولة التي تحتضن الجميع وتصبح بحق وحقيقة دولة الجميع.
والوصول إلى دولة الإنسان والقانون في العالم العربي، ليس مستحيلا، وإنما هو بحاجة إلى الكثير من الجهد المتواصل لإنجاز هذا التطلع التاريخي.. وإن دولة الإنسان التي تصون حقوقه وتحفظ نواميسه وكرامته، ليست يوتيبيا تاريخية، وإنما هي حقيقة قائمة، ولقد تمكنت بعض المجتمعات الإنسانية من تحقيقها.. وإن شعوبنا العربية بطاقاتها العلمية وقدراتها الاقتصادية وطموحاتها الحضارية وأشواقها التاريخية، تستحق دولة تكون رافعة حقيقية لهذه الشعوب، لا قامعة وكابحة لطموحاتها وتطلعاتها الضاربة بجذورها في عمق التاريخ والإنسان.
وإنه بدون توجه العرب نحو بناء دولهم الوطنية على أسس القانون وحقوق الإنسان، فإن مشاكلهم ستتفاقم وأزماتهم ستستفحل وضغوطات الخارج ستؤثر على مصيرهم ومستقبلهم.
وإن التحول نحو دولة القانون والإنسان، بحاجة إلى الأمور التالية:
1 - الإرادة السياسية التي تتجه صوب تجاوز كل المعيقات والمشاكل التي تحول دون بناء دولة القانون والإنسان. حيث أنه لا يمكن بناء دولة جديدة في العالم العربي بدون إرادة سياسية تغير وتطور وتذلل العقبات وتواجه كل ما يدفع نحو إبقاء الأمور ساكنة وجامدة ومتخشبة. فالإرادة السياسية بما تعني من قرار صريح وعمل متواصل ومبادرات نوعية وتطوير للمناخ والبيئة الاجتماعية والثقافية، هي من العوامل الأساسية للتحول نحو دولة القانون والإنسان في الفضاء العربي.
2 - تحرير المجتمع المدني ورفع القيود عن حركته وفعاليته. حيث أن الدولة بوحدها، لا تتمكن من خلق كل شروط ومتطلبات التحول. وإنما هي بحاجة إلى جهد المجتمع المدني، الذي يستطيع القيام بالكثير من الخطوات والأعمال في هذا الاتجاه. لهذا فإن رفع القيود اليوم عن أنشطة مؤسسات المجتمع المدني، يعد من الأمور الهامة، التي تساهم في تعزيز الأمن الاجتماعي والمحافظة على الاستقرار السياسي. فالحاجة ماسة اليوم لتذليل كل العقبات التي تحول دون فعالية المجتمع المدني في العالم العربي. وإن الفرصة مؤاتية اليوم، لإنهاء تلك الحساسيات التي تحملها بعض النخب السياسية السائدة، تجاه مؤسسات المجتمع المدني ووظائفها وأدوارها. فإن هذه المؤسسات ليست بديلا عن الدولة، ولا تستهدف في أنشطتها تضعيف دور الدولة. بل هي مساند حقيقي ومؤسسي للدولة، كما أنه لا تقوم له قائمة بدون دولة مستقرة وثابتة.
فالدولة اليوم في العالم العربي، بحاجة إلى جهد مؤسسات المجتمع المدني، كما أن المجتمع المدني بمؤسساته وهياكله، هو بحاجة إلى الدولة الحاضنة والراعية والضامنة لعمل مؤسسات المجتمع المدني. فالحاجة متبادلة، والأدوار والوظائف متكاملة. وإن الظروف السياسية التي يواجهها العالم العربي، تتطلب بناء الدولة في الواقع العربي على أسس جديدة وبمضامين جديدة. فالدولة التي ألغت المجتمع وحاربت قواه الحية، هي أحد المسئولين الأساسيين عن الواقع المتردي الذي وصلنا إليه جميعا. وسنبقى نعيش القهقرى ما دامت الدولة العربية بمضمونها الأيدلوجي التي صحرت الحياة المدنية هي السائدة.. فثمة ضرورة ملحة اليوم لإعادة صياغة مفهوم ومضمون الدولة في التجربة العربية المعاصرة.
فالدولة التي لا تحترم حقوق الإنسان، وتتجاوز الدستور والقانون لأتفه الأسباب، هي الدولة التي أخفقت في مشروعات التنمية والبناء الاقتصادي، وهي التي انهزمت أمام التحديات والمخاطر الخارجية. والعلاقة جد عميقة بين إخفاق الدولة الداخلي وهزيمتها الخارجية. ولا سبيل أمام العرب اليوم، إلا بناء دولة الإنسان والقانون وصيانة الحقوق والنواميس، هذه الدولة حتى ولو امتلكت إمكانات محدودة وقدرات متواضعة، هي قادرة بتلاحمها مع شعبها وبتفاني شعبها في الدفاع عنها، على مواجهة كل التحديات والمخاطر.
فلتتجه كل الطاقات والقدرات والكفاءات، نحو إرساء مضامين دولة الإنسان في دنيا العرب..