العولمة والوحدة الوطنية.. أفكار لزمن قادم
ثمة ضرورات وطنية واستراتيجية باستمرار، لتظهير العناصر الأساسية في قوة الاجتماع الوطني، وسبل تجاوز الأخطاء والثغرات التي تعرقل بناء المستقبل على أسس ومبادئ، تزيد من فرص التطور الوطني، وتشحذ همم المواطنين نحو الأهداف العليا والتطلعات الكبرى للاجتماع الوطني. والتفتيش الجاد عن إمكانيات وشروط نجاح المستقبل.
وإن الوحدة الوطنية في أوطان العالم، مرهونة في كثير من أبعادها وآفاقها، على إمكانية وجود فضاء سياسي وثقافي واقتصادي مشترك، وهذا الفضاء نتاج مشترك ومتراكم. إذ أن جميع المكونات الثقافية والاجتماعية، تساهم في تشكيله، وتعمل على تقعيد أسسه ومبانيه الاجتماعية والثقافية.
فالوحدة الوطنية ليست مقولة ناجزة، وإنما هي عبارة عن فضاء مفتوح لكل الجهود والإمكانات والمكونات لتعبر عن دورها ووظيفتها ومسؤوليتها في إطار وسياق تعميق موجبات الوحدة الوطنية. وإن تجاوز التراتبيات الماقبل الوطنية إذا جاز التعبير، يعتمد اعتماداً رئيسياً على قدرة الفضاء المشترك على فسح المجال الفعلي لكل المكونات للمشاركة في صياغة هذا الفضاء وإثرائه بالمضامين الوطنية والحضارية. المضامين التي تتجاوز الخصوصيات، ليس عن طريق القفز عليها، وإنما عبر استيعابها وامتصاص إيجابياتها والعمل الموضوعي والبعيد عن نزعات الصدام والتهميش لتهذيبها على المستويين الاجتماعي والثقافي.
فالجوامع المجردة في الكثير من الأمم والشعوب والأوطان، لم تتمكن من ضبط خصوصياتها وصياغة فضاء وهوية مشتركة حقيقية. لذلك فإن المطلوب: ليس الاكتفاء والركون المجرد إلى الجوامع والقيم المجردة التي عادة الناس لا يختلفون حولها. وإنما الأمم والشعوب دائماً، هي بحاجة إلى تنمية المصالح المشتركة وربطها بواقع الحياة اليومية. حتى يتسنى للجهد الفردي والجمعي المبذول يومياً، أن يعمق ويجذر أسس تشابك المصالح ووحدة المصير.
فالمثل والمبادئ العامة، بحاجة دائماً في الإطار الاجتماعي أن تتسرب إلى تفاصيل الحياة الاجتماعية، وتكون جزءاً من النسيج الاجتماعي. ولاشك أن عملية تنزيل هذه المثل والمبادئ على الوقائع الاجتماعية المتحركة والمتغيرة دوماً، لا يمكن أن تتم بدون وجود مصالح مشتركة حقيقية، تربط بين كل أطراف المجتمع الواحد.
فالوحدات الاجتماعية والوطنية، لا تصنع بالمجردات من الدوافع والبواعث والمسوغات، وإنما هي تصنع بالحياة المشتركة على الصعد كافة. وهذا بدوره بحاجة إلى تنمية كل العلائق والروابط الاجتماعية بدوائرها المتعددة، والاقتصادية بمستوياتها المختلفة، والإنسانية بآفاقها الرحبة، والثقافية بتفاصيلها ووقائعها اليومية والرمزية. وكل هذا أيضاً بحاجة إلى سياج أخلاقي يتحصن به أفراد المجتمع، قوامه العفو والتسامح واللين والرفق وحسن الظن وما أشبه. وهي قيم ومثل أخلاقية وسلوكية قادرة على امتصاص أخطاء البشر وتشنجاتهم، كما أنها كفيلة بضبط النزعات النفسية والاجتماعية التي قد تساهم في تدمير الحياة المشتركة.
لذلك نجد أن القرآن الحكيم، يؤكد على هذه القيم، ويعتبرها أنها قادرة على تحويل المواقف وضبط العداوات كمقدمة لإنهائها. إذ يقول تبارك وتعالى: ﴿ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم﴾ «فصلت 34».
فالأخلاق الفاضلة والتعامل الحسن والحضاري مع الآخرين، يساهم بشكل مباشر، في نزع الغل والأحقاد من النفوس، وغرس قيم المحبة والاحترام. وقال عز من قائل ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾ «آل عمران 103».
وبإمكاننا أن نكثف هذا السياج الأخلاقي المطلوب، بكلمة واحدة وهي «الرحمة». إذ هي جوهر المحبة والألفة وضد التنافر والكراهية. فهي الأصل النفسي والأخلاقي الذي يفيض بالخير بمختلف أبعاده.
وهي الروحية التي تقدر الآخرين وتحترمهم، فتحبهم وتشفق عليهم، وتتمثل كلمة طيبة حانية، ولمسة رقيقة، وعوناً في الشدائد، وحسنا في الجوار، وما لا يحصى في الأقوال والأفعال، لتعكس على كل ذرة في هذا الوجود، وعلى كل شكل من أشكال العلاقة مع الإنسان الفرد والجماعة.
فتكون بذلك أصيلة في النفس بدون ضغط أو تكلف، ودخيلة في صياغة كل علاقة مهما كانت بسيطة.
لذلك نجد أن الرحمة في المنظور الإسلامي، هي أهم صفة وصف الله تعالى بها نفسه، وهي ركن في التشريع، وهي جميع الأخلاق، وهي التي يجب أن تسود حتى في حال الحرب والقسوة، لأن غاية الحرب الوصول إلى الهدى إلى الله ورحمته.
وهي مطلوبة مع الجماد عناية به وتصرفاً سليماً به. ومطلوبة مع البهائم رفقاً بها حية، وعدم القسوة عليها ذبيحة.
ومطلوبة إنسانياً بتجلياتها محبة ورفقاً وشفقة ومساعدة ونصيحة ونحوها. كما تقف ضد كل تجليات القسوة والشدة كالتباغض والتنافر والجريمة والظلم.
فالرحمة بكل تجلياتها وآفاقها، هي السياج الذي يحفظ الوحدات الاجتماعية من الانزلاق إلى مهاوي الصدام والشقاق.
فالاختلافات الفكرية والسياسية والثقافية والاجتماعية، ليست مبرراً كافياً للخروج من سياق العدالة وممارسة الظلم بحق الآخرين تحت مبرر وعنوان الاختلاف العقدي أو السياسي.
فالقيم العليا للإنسان، لا تبرر بأي شكل من الأشكال ممارسة العسف بحق الآخرين لكونهم مختلفين معك في الرؤية أو الفكرة. فقيم العدالة واحترام الآخرين في ذواتهم وأموالهم وأعراضهم، حاكمة على كل قيم الاختلاف ومبررات العداء تجاه الآخرين. لذلك يقول تبارك وتعالى ﴿يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾ «المائدة 8».
والعدل في جوهره إعطاء كل ذي حق حقه، ويقابله الظلم الذي يعني تجاوز حقوق الآخرين والاعتداء عليها. وهو بذلك يشمل كل مستويات الحياة من قبيل المحافظة على كرامته وحرمته من البهتان والغيبة والشتم، والحرية في العيش، والسلامة في الجسد من القتل والجرح ونحوها من مستويات الحياة.
وهو على المستوى النفسي «الذاتي» ينتج عن خلو النفس من الأحقاد الناتجة من الحسد والكراهية والقسوة، ومن خلوها من المطامع الدنيوية الزائلة. فيكون العدل نتاج المحبة والرحمة واحترام الآخرين.
فالعدل بكل تجلياته وعناوينه ولوازمه، هو أساس العلاقات الإنسانية السليمة في مختلف الدوائر الاجتماعية.
ونحن هنا لا نتحدث في سياق الرؤية المثالية، وإنما نحن نعتبر أن العدل والرحمة بكل تجلياتهما هما جسر الوصول إلى الأمن الشامل في أي مجتمع، وهما اللذان يعمقان أسباب الوحدة بكل صورها ومستوياتها، وهما اللذان يطردان كل نوازع وبواعث التفتت والانقسام بكل صوره.
وبناء الأمم والأوطان، بحاجة دائماً إلى مشروع وطني، يجمع الطاقات والكفاءات، ويعمل على تنمية الجوامع المشتركة، وسد الثغرات ونقاط الضعف، ويوفر جملة العوامل المفضية إلى الإضافة والإبداع بما يعزز البناء الوطني ويشد من عضد أبناء الوطن في سبيل عزة الوطن ورقيه.
فالمشروعات الوطنية المرحلية والاستراتيجية ضرورة قصوى من ضرورات بناء الوطن، لأنها هي التي تبرز عناصر الإجماع الوطني، وتدفعها نحو العمل المتواصل لتأكيد خيار العيش الواحد وتجاوز كل الصعوبات التي تعترض هذا الطريق.
وإن توكيد الحاجة اليوم إلى مشروع وطني، نجدد به ذاتنا الوطنية ونضيف إليها عناصر جديدة تؤهلنا للعطاء النوعي والإبداع المتواصل لصالح عزة وطننا. ليس فقط من أجل توفير القوة اللازمة للدفاع عن مصيرنا وخياراتنا الاستراتيجية، وإنما هو أيضاً من أجل ذات وطنية سوية وسليمة، تتعامل مع تحديات عصرها بعقلية جديدة، تتجاوز من خلالها كل العصبيات التي قد تحول دون تطوير مفهوم الانتماء الوطني.
فالانتماء الوطني، لا يعني فقط أن أحمل الأوراق الرسمية الثبوتية، كما أنه لا يعني أن أحفظ النشيد الوطني وأقوم بتحية العلم. وإنما هو قبل كل ذلك، هو شعور عميق بالعيش الواحد مع كل أبناء الوطن، ومصير مشترك يربطني معهم. وهذا الشعور الصادق يدفعني للعمل بكل ما أملك من طاقة وقدرة لتعزيز هذا الشعور وتحويله إلى حقائق قائمة على الصعد كافة.
والإسلام بما يشكل من مخزون روحي وقيمي وأخلاقي، هو طاقة توحيدية ووحدوية في آن. حيث أن الدين الإسلامي يحارب التمزقات بين البشر على قاعدة ترابية أو طبقية أو عنصرية حيث يقول الذكر الحكيم ﴿إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾.. كما أن الدين يخلق الروحية العالية، التي تسمح للفكر أن يمارس دوره، وللاجتهاد أن يأخذ مداه. لذلك ينبغي أن لا تضيّق سعة الإسلام وتسامحه بضيق تفكيرنا واهتماماتنا، كما أننا ينبغي أن لا نحوّل الدين إلى طاقة تقسيمية وانشقاقية في الأمة والمجتمع. لأن رسالة الدين الكبرى هي توحيد الأمة ووحدة الناس. فلنرقَ جميعاً إلى قيم الإسلام، ونرتفع عن كل التصرفات والقناعات التي تحبسنا وتحجزنا عن رؤية الإسلام الذي يسع العالم كله.
والوحدة هي المعادل الموضوعي للتوحيد. وهي لا تعني وحدة قسرية أو شكلية، وإنما هي وحدة نصل إليها عن طريق احترام الخصوصيات والتنوعات الطبيعية والتاريخية والمعاصرة، وتنمية المصالح الاقتصادية والمجتمعية بين مختلف المكونات، والعمل على تجاوز كل رواسب عصور الانحطاط والتخلف، والعمل على قاعدة أننا جميعاً ومن مختلف مواقعنا مسؤولون عن إنجاز وحدتنا وتجربتنا الاجتماعية والوطنية الجديدة.
وحتى لا يفضي احترام الخصوصيات، إلى تشظي وانقسامات مجتمعية، نحن بحاجة إلى إرساء وتجديد مفهوم التعاقد الوطني والاجتماعي، لأنه هو المفهوم الذي يضبط الخصوصيات، ويوفر حركية دائمة وتلائم مستمر مع المحيط والعالم.
وعليه فإن من الخطأ التوجه إلى تركيز الخصوصية إلى حدود التنافر مع الآخرين هذا من جهة، ومن جهة أخرى تضخيم الخصوصيات والاستقواء بالآخرين من أجل ذلك..
وذلك لأن هذه التوجهات، تفضي إلى ازدهار مشاريع التفتيت والتشتيت الأفقية والعمودية.
وجماع القول: إن التطوير الوطني والاجتماعي، ينبغي أن يتم ضمن الشروط التاريخية والتحديات الجديدة التي نواجهها. وإن الوطن في المحصلة النهائية هو إرادتنا جميعاً في العيش المشترك.
تنبع أهمية الحوار بين البشر، باعتباره هو الوسيلة المثلى للتعارف، وإضاءة النقاط المظلمة في العلاقات بين البشر.
لذلك أكد القرآن الحكيم على هذه القيمة، وأعتبر أن التعدد والاختلاف الموجود بين البشر، ليس من أجل الاستعلاء والانحباس والانزواء، وإنما هو من أجل التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل وصولاً إلى تعميق عوامل وأواصر التفكير الحر والسليم. قال تعالى ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ «الحجرات 13».
فالحوار يعيدنا جميعاً إلى اكتشاف ذواتنا، ويقوي خيارات التواصل والتعارف في الدائرتين الاجتماعية والإنسانية، ويدفعنا جميعاً إلى التخلي عن تلك القناعات والخيارات التي تمارس النبذ والإقصاء. لذلك فإن مقولة الحوار، تتجاوز السجالات والمجادلات العقيمة والمماحكات، التي لا توفر للجميع فرصة التعارف المباشر.
من هنا فإننا حينما ندعو إلى الحوار، ونعتبره هو وسيلة الإنسان الحضارية للتعرف على بني جنسه، فإننا نؤسس لغائية ينبغي ألا تحيد عنها عملية الحوار. فهو من أجل كسر حواجز الجهل، وتعميق عوامل المعرفة المباشرة والتفصيلية عن الآخر، حتى يتوفر المناخ النفسي والمعرفي والاجتماعي لخلق نمط إنساني وحضاري للعلاقة بين مجموع الأطراف المتحاورة. وذلك لأنه وسيلتنا وخيارنا لتحجيم هواجس بعضنا البعض ومحاصرة سوء الفهم والظن وموروثات الماضي، كما أنه يبلور وبفعالية عوامل الثقة المتبادلة وأسباب التعاون والتضامن على قاعدة «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».
والقرآن الحكيم يعلمنا، أن الحوار يستهدف الانطلاق من القواسم المشتركة ويسعى عبر آلياته وأطره إلى تنمية المساحات المشتركة والعمل على تفعيلها. قال تعالى ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾ «آل عمران 64».
فالحوار لا يستهدف بالدرجة الأولى إقناع الآخرين بقناعات الذات، وإنما تعريفها إلى الطرف الآخر. وبالتالي فإنه حوار لا يستهدف الإفحام والقطيعة، وإنما التواصل والتعايش.
لذلك ينهي القرآن الحكيم عن المراء والجدال الذي لا يفضي إلى نتيجة، بل قد يزعزع المشتركات، ويوجد مناخاً نفسياً يحول دون تنمية القواسم المشتركة.. قال تعالى ﴿إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون﴾ «الأنعام 159».
فإننا مطالبون جميعاً، أن نمارس فعاليتنا الفكرية وحيويتنا الثقافية، لتوطيد أركان وعوامل المنهج الحواري، حتى نكون جميعاً بمستوى المشاركة النوعية في صنع حقائقنا وصياغة راهننا وإنضاج خيارات غدنا ومستقبلنا.
والحوار لا يلغي ضرورات الاعتزاز بالذات، ولكنه اعتزاز لا يصل إلى مستوى العصبية المذمومة أو يكرس نظرة شوفينية واستعلائية للذات ضد الآخرين.
إنه اعتزاز بالذات لا يلغي متطلبات الوحدة وشروطها النفسية والأخلاقية ولقد جاء في المأثور «العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكنه من العصبية أن يعين قومه على الظلم».
كما أن الحب ينبغي ألا يخرج الإنسان عن ضرورات التواصل مع الآخرين، وتحكيم المثل الأخلاقية في طريقة التعامل معهم.
ومن الأهمية بمكان في هذا الإطار، إيجاد مسافة موضوعية بين الآراء والمعتقدات. فليس كل رأي عقيدة، وان أي محاولة للدمج بين الآراء والمعتقدات، يفضي في المحصلة النهائية إلى سيادة التعصب الأعمى بكل أشكاله وصنوفه. لذلك فإنه ويل لأمة تتحول فيها الآراء إلى معتقدات.
فالالتزام بالفكرة، لا يشرع للتعصب لها، وإنما هو يدفعك ويحركك نحو التجسيد العملي لكل جوانب الفكرة مجالاتها وآفاقها. والمغاير لنا في الالتزام والقناعات والمواقف، نعترف بوجوده، وننظم علاقاتنا وتواصلنا معه، ونتحاور معه حول كل القضايا والأمور، من أجل أن تتراكم أسباب المعرفة، وتتوطد عوامل العلاقة. وبهذه العلاقة والروحية، تتجذر مفاهيم وقيم التسامح والتعاون والتضامن.
والحوار قبل أن يكون أطراً وهياكل، هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بوجداننا وقيمنا الإسلامية، التي أسست لهذا الخيار في كل جوانب وشؤون حياتنا.
والحوار لا يستهدف شيوع حالة الفوضى في الآراء والمواقف، وإنما تضييق مساحات الخلاف والنزاع، وإبراز عناصر الوحدة والاتفاق. فمن ساحة الحوار تنتج الوحدة، وبالحوار تضمحل الخلافات، وتزول أسباب الصراع العنفي. وبدون إرساء دعائم الحوار المتواصل مع تعبيرات الأمة ومؤسساتها وفعالياتها المتعددة، يتم التعامل مع العديد من القيم والمبادئ كتهويمات أيدلوجية مجردة عن وظيفتها الحضارية، وبعيدة كل البعد عن النسيج المجتمعي.
وهكذا فإن الإنسان، لا يجسد قيمه إلا بالمزيد من الحوار. حوار الإنسان مع ذاته، وحواره مع دوائره الاجتماعية المتعددة، وحواره مع ظواهر الطبيعة لمعرفة أسرارها لتسخيرها بما يخدم العمران والتقدم الإنساني.
وفعالية الحوار تنبع من أنه يجعل كل الآراء والقناعات والمواقف في ساحة التداول لتقويمها وتمحيصها وتطويرها. ولا ريب أن لهذه العملية التداولية تأثيرات إيجابية على الصعيد المجتمعي، حيث إنها تحرك الراكد، وتسائل السائد، وتبحث في آفاق وفرص جديدة ممكنة، وفي الأخير تكون عملية الحوار فعالية مجتمعية متميزة. ونستطيع القول وبقناعة تامة، ان النص القرآني، نص حواري بامتياز. فتحدث عن كل الموضوعات والقضايا بدون موانع وعقبات واستخدم في ذلك أدق التعبيرات وأبلغها دلالة ومعنى، وأكد في آياته على ضرورة التفكر والتعقل والتدبر والنظر والتأمل، ووبخ أولئك النفر الذين يسيرون بغير هدى وبصيرة، أو يقلدون الآخرين بدون علم ومعرفة. إذ قال تعالى ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون﴾ «الأعراف 179».
لذلك من الضروري أن نؤمن إيماناً عميقاً، أن الحوار هو سبيلنا جميعاً لحل مشكلاتنا وتجاوز موروث الضغينة وسوء الظن.
ولكي نصل إلى المستوى الأخلاقي لممارسة الحوار بعيداً عن المسبقات الفكرية أو المواقف الجاهزة، نحن بحاجة إلى مجاهدة النفس، والتغلب على الأهواء والنوازع الضيقة، والانعتاق من كل أشكال التعصب الأعمى للذات أو لأفكارها وقناعاتها، والسعي الحثيث نحو الاقتراب من الآخر، ومحاولة فهمه بشكل مباشر. ويقول في هذا الإطار المفكر المغربي «طه عبد الرحمن»: إن تواصل الحوار بين الأطراف المختلفة، فئات أو أفراداً، يفضي مع مرور الزمن إلى تقلص شقة الخلاف بينهم، وذلك لدخول هذه الأطراف في استفادة بعضها من بعض، حيث ان هذا الطرف أو ذاك قد يأخذ في الانصراف عن رأيه متى تبين له عند مقارنة الحجة بالحجة، ضعف أدلته عليه، ثم يتجه تدريجياً إلى القول برأي من يخالفه، أو يأخذه، على العكس من ذلك، في تقوية أدلته متى تبينت له قوة رأيه مستجلباً مزيد الاهتمام به من لدن مخالفه، حتى ينتهي هذا المخالف إلى قبوله والتسليم به، وهكذا، فإذا أنزل الخلاف منزلة الداء الذي يفرق، فإن الحوار ينزل منزلة الداء الذي يشفي منه.
وعلى كل حال من الأهمية بمكان على جميع المستويات، ان لا تدفعنا اختلافاتنا إلى القطيعة والجفاء والتباعد، وإنما ينبغي أن تكون هذه الاختلافات مدعاة إلى الحوارات العميقة، وذلك من أجل أن نتعرف على وجهات نظر بعضنا البعض، ومن أجل إزالة الاحتقانات النفسية المصاحبة للاختلافات، ولكي يتم تنشيط دور القواسم المشتركة بين الجميع، بحيث لا تلغي المشتركات وتحول دون ممارسة دورها ووظيفتها في الحوار والتعاون والتضامن.
لذلك نجد في الحقبة التاريخية المجيدة لعالمنا العربي والإسلامي، كانت تزدهر المحاورات والمناظرات والاحتجاجات، ولم يكن الاختلاف بكل صوره سبباً للقطيعة والجفاء، لذلك تعددت علاقات الصداقة والجيرة بين المختلفين، وجمعت حلقات الحوار والمناظرة المتباينين.
والحوار لا يمنع النقد، وإنما يؤسس للمعرفة المتبادلة العميقة، التي تجعل النقد بناءً وبعيداً عن التصفية والتحطيم.
فالنقد هنا لا يتجه إلى الدحض والنقض، وإنما لتوليد رؤى وأفكار وصيغ جديدة، تحرك الراكد، وتستفز الساكن، وتدفع الجميع نحو المزيد من الحوار والتلاقي.
وذلك لأن النقد «على حد تعبير علي حرب» هو اجتراح ممكنات للتفكير، بتشكيل موضوعات جديدة أو افتتاح حقول جديدة تتغير معها علاقتنا بالمسائل المطروحة، بقدر ما تفضي إلى فتح علاقات مغايرة مع الحقيقة أو إلى استخدام أدوات معرفية تغير تعاملنا مع المعرفة بالذات. بهذا المعنى إن النقد هو أبعد ما يكون عن النفي، إنه لا يقوم على دحض المقولات واكتشاف الأخطاء، بقدر ما هو فاعلية فكرية تتيح، عبر استنطاق الخطابات وتأويلها، أو عبر الحفر في طبقات النصوص وتفكيك أبنيتها، تجديد القول ومضاعفة النص، بإشعال بؤرة للأسئلة، أو بافتتاح منطقة لعمل الفكر، أو بانتهاج منحى مغاير في التفكير، أو بابتداع ممارسة فكرية جديدة.
وهكذا لا يتحول النقد إلى ممارسة عشوائية، قوامها النقض والاستفزاز، وإنما هو عملية قصدية وواعية، تتجه إلى اكتشاف مساحات جديدة للنظر والتفكير، وحقول مميزة للنشاط والعمل، وآفاق راهنة للتطلع وبلورة الطموح.
وبهذا فإن الحوار والنقد يتكاملان، فلا نقد بناء بدون حوارات مستديمة ومتواصلة، تتجه إلى تبديد الجهل المتبادل، وتعميق أسباب الفهم والمعرفة. كما أنه لا حوار جاداً ومفضياً إلى الحيوية والفعالية، بدون عملية نقد، تسائل السائد، وتناقش الموروث، وتبدد الرين النفسي والفكري.
فالحوار يكسب الإنسان التعدد والتنوع في القناعات والأفكار والخيارات، والنقد يؤسس لعملية انفتاح خصبة سواء على مستوى المعاملة أو التجربة. وكلاهما «الحوار والنقد» يفضيان إلى غنى الشخصية على مختلف المستويات.
وبالتالي فإن مفهوم الحوار، ينطوي على قدر من المراهنة على تأسيس لواقع جديد لحياتنا الاجتماعية والإنسانية. والإنسان الذي لا يحسن الحوار مع غيره المختلف أو المغاير، لن يستطيع أن يطور علاقاته وأنماط إنتاجه مع المتفقين معه. وذلك لأنه يفتقد للقدرة المؤهلة لترتيب علاقته مع كل الدوائر المحيطة به. مما يجعله فاقداً للإمكانية اللازمة لتنمية أسباب العلاقة وعوامل التعاون بينه وبين نظرائه على مستوى الفكر والمعرفة، وعلى مستوى الفعل والممارسة.
والحوار الذي نتطلع إليه، هو القادر على افتتاح مناطق جديدة للعلاقات، واجتراح صيغ متطورة للتعاون والتضامن.
إن التحصين الوطني ضد كل المخاطر التي قد تهدد الأمن الاجتماعي والوطني، يتطلب العمل الجاد على بلورة مشروع ثقافي وطني، يحتضن كل أطياف وتعبيرات الحياة الثقافية الوطنية
ثمة حقيقة أساسية ينبغي أن ننطلق منها في هذا السياق، وهي أن التطور والتقدم الاجتماعي، هو وليد تراكم تاريخي وإنساني، يوفر الظروف والعوامل الذاتية والموضوعية لعملية التطور والتقدم. وهذا بطبيعة الحال، لا يعني أن هذه العملية بعيدة عن الإرادة الإنسانية، وإنما هي تتكامل مع الإرادة الإنسانية التي تنشد التطور وتتطلع إلى التقدم. بمعنى أن إرادة التطور والتغيير، تتجه إلى إنضاج عملية التراكم، بحيث يبقى التقدم حاجة موضوعية ملحة.
فالإرادة الإنسانية مطلوبة، ولكنها ليس من أجل استخدام العنف والقوة الغاشمة للوصول إلى التقدم والتطور، وإنما بمعنى العمل على إنضاج الشروط الذاتية للتطور والتغيير. فالتقدم والتحديث لا يفرض على الناس بالقوة، ينبغي أن يقتنعوا به، أي بالفكرة التي تعبر عنه، وبالطريق والوسائل والأدوات لتحقيقه. والتقدم في كل مستوياته، يكون حقيقياً بقدر ما يكون نتيجة تراكم يرتقي مع ارتقاء وعي الناس بضروراته، وعندما تنضج الشروط الاجتماعية والمادية لحصول التقدم. والتراكم المطلوب لا يحصل من دون العمل والسعي إليه. لذلك فإن الجهد الإنساني بكل عناوينه، ينبغي أن يتجه لاستنفار الوعي وإنجازه الشامل والقادر على إنجاز مفهوم التغيير والتقدم بوسائل سلمية وحضارية.
وعلى هدى هذه الحقيقة نقول: أن القوة «بالمعنى المادي الغاشم» والعنف لا يفضيان إلى التقدم المطلوب، بل يؤديان إلى تحريف الوعي الاجتماعي وتنمية دور الغريزة في المجتمع. وذلك لأن عقلية العنف، تؤدي إلى الانخراط في مشاريع حروب وتقسيم وإلغاء للآخر، وكلها عناوين وحقائق ومسلكيات تفاقم من المشاكل والأزمات، ولا تحمي الاستقرار والأمن، وتدمر كل المكتسبات، وتنهي كل مشروعات التنمية. إضافة إلى الآثار النفسية المدمرة ليس فقط على صعيد الأفراد، وإنما على صعيد المجتمع كله أيضاً.
وجولات الحروب الداخلية في العديد من البلدان والمناطق، تثبت بشكل لا مجال فيه للشك، إلى أن العنف ثقافة وأدوات، تزيد من أوار الحروب وتعمق منطقها الاستئصالي في كل الاتجاهات. لذلك فإن الاستقرار الاجتماعي القائم على التراضي والمدعوم بمبادئ العيش المشترك والحوارات الوطنية المتواصلة والعميقة، وتكريس حالة الشفافية في كل الحقول، كلها هي التي تضمن الأمن والاستقرار.
وإن العنف مهما كانت مبررات ومسوغات استخدامه، لا يفضي إلى الاستقرار، وإنما يؤدي إلى الحروب التي تتوالد باستمرار لأتفه الأسباب.
من هنا من الأهمية بمكان، التأكيد على ثقافة الحوار والتواصل، والعمل على تفعيل الجوامع المشتركة والكفاح الدائم لنبذ كل الثقافات التي تبرر لصاحبها إقصاء الآخر أو الاستعلاء عليه أو إخراجه من الدائرة المشتركة. وذلك لأن هذه الثقافة، لا تنتج مشاريع أمن واستقرار، بل تسقط مشاريع، ولا تنتج مشاريع بديلة وحقيقية. وهذه مسؤولية الجميع. إذ لا يمكن أن يأمن أي مجتمع، وهو يحتضن ثقافة وفكراً يبرر لصاحبه قتل الآخرين أو إقصاءهم.
إننا مطالبون، أن ننزع من نفوسنا وعقولنا كل أسباب الحرب والانقسام والتفتت، حتى نتمكن على المستوى الواقعي، من بناء السلم الأهلي والاجتماعي.
وفي هذا السياق من المهم التأكيد على المسائل التالية:
1 - من المهم إعادة النظر في مفهوم الوحدة، الذي يصل حد التطابق التام، ونفي الخصوصيات، كما نعيد النظر في مفهوم العدو ومتوالياته من التناحر والتقاتل والعداء المفتوح.
حيث إننا بحاجة أن نحدد «من نحن؟» و«من هم أعداؤنا؟»، وذلك حتى يتسنى لنا صياغة ذاتنا الوطنية، وتحديد أولوياتها، ومشروعات عملها.
وننطلق في تطوير مفهوم التعاون والتضامن الذي يصل إلى مستوى التكامل. فبقدر ما تنمو حالات التعاون والتضامن في المجتمع الواحد، يتعزز خيار الوحدة والاندماج. فالعلاقة مع الآخر، لا يمكن تحديد معالمها ومواصفاتها، بدون تحديد معنى الذات. فهو الذي يحدد الآخرين وعلاقتك معهم.
لذلك فإن الذات الثقافية والوطنية، ليست ذاتاً أحادية وبسيطة. وإنما هي ذات مركبة.. بمعنى أنها تحتضن العديد من الخصوصيات والحالات المتنوعة، التي تتعامل معها باعتبارها جزءاً أصيلاً من هذه الذات. وإن هذا التنوع الذي تحتضنه، يوفر خصوبة كبيرة للعطاء والإبداع. وإذا أحسنا التعامل معه، يكون أحد الروافد المهمة للاستقرار والأمن الاجتماعي. فحق التنوع لا ينافي ويناقض واجب الوحدة.
فالطريق إلى الوحدة، يمر عبر الاعتراف بكل الخصوصيات المتوفرة، والعمل معاً لصياغة رؤية أو ميثاق مشترك، يوفر حاجات الخصوصيات كما يلبي متطلبات الوحدة والعيش المشترك. وإن تهميش حالات التنوع، لا يفضي إلى استقرار وتقدم على المستوى المجتمعي. لذلك فنحن بحاجة إلى إعادة تأسيس مفهوم الوحدة الذي لا يعني التطابق والاندماج المطلق. كما أن حق الجميع في الاختلاف والتنوع الفكري والسياسي ينبغي ألاّ يقود إلى حالة العداء والتقاتل، وإنما إلى المزيد من الحوار والتلاقي والفهم والتفاهم.
وإن دائرة التعاون، كلما توسعت وتعمقت، تقدمنا باتجاه الوحدة الاجتماعية والوطنية المطلوبة. لذلك ينبغي أن نشجع كل مبادرات التعاون وحالات التضامن، لأنها طريقنا إلى البناء الحقيقي للذات. وأن نفهم بعضنا البعض بشكل مباشر وصريح، وبعيداً عن المسبقات.. كل هذا هو الخطوة الأولى في مشروع التعاون المفتوح على التحديات والآفاق كلها.
2 - إن السلم الأهلي، أضحى اليوم في ظل التطورات والتحولات الهائلة والمذهلة، التي تطال كل شيء، وتهدد العديد من الثوابت، ضرورة وطنية قصوى. لذلك من الأهمية العمل اليوم على تعزيز خيار السلم الأهلي الوطني، والابتعاد عن كل ما يسبب خرقاً أو اختراقاً لضرورات وموجبات السلم الأهلي.
والعنف واستخدام القوة، ليس سبيلاً لتحصيل الحقوق أو الدفاع عن الأفكار والآراء، فالإنسان الذي يستخدم القهر والسلطة للدفاع عن آرائه وأفكاره، لا ريب أنه يهدد السلم الأهلي، لأنه يخرق مبادئ التداول السلمي للأفكار والسلطات.
فالفرض والقسر، يوجد في النفوس الأحن والأحقاد، ويغرس في الذات تصلباً وتشدداً يحول دون التعامل الحضاري مع المختلف والمغاير. والانزلاقات الوطنية والحروب الأهلية، التي حدثت في العديد من البلدان والمناطق، بدايتها والنواة التأسيسية لكل أشكال الحروب والتدمير، هو محاولة الأطراف والتعبيرات الفكرية والسياسية على قسر وقهر الآخرين. وإخضاعهم لشروطهم السياسية أو قناعاتهم الفكرية. فتتسلح الأفكار بالعنف، ويسود التشدد والتطرف الحياة الاجتماعية، فتتراكم أشكال الإقصاء والنبذ والقهر، وتفضي في المحصلة الأخيرة إلى الحروب الأهلية والداخلية التي يخسر فيها الجميع، وتدخلهم في أتون الحروب العبثية التي لا رابح فيها. لذلك كله على مستوى أوطاننا وبلداننا، من الأهمية أن نفك الارتباط بين الفكر والإكراه، والسياسة والعنف، والرأي والقهر. ونؤسس لثقافة سياسية ومجتمعية جديدة قوامها إرساء دعائم السلم الأهلي، والابتعاد عن كل أشكال النبذ والإقصاء والتهميش، والعمل على تجاوز كل موروثات الماضي التي تبقي الحقد والضغينة، واعتبار السلم الأهلي من الفرائض الاجتماعية والسياسة التي ينبغي أن نحافظ عليها من مواقعنا المختلفة.
وإن العنف ليس هو رهان الأفكار الحضاري، لأن الدفاع بالقهر والعنف عن الأفكار والقناعات، يزيد من ابتعاد الناس عنها، ومؤشر من مؤشرات ضعف هذه الأفكار، التي لا يمكن تثبيتها في الواقع الاجتماعي إلا بالقهر والإكراه.
إن مفهوم السلم الأهلي، يتطلب على الصعيد المجتمعي الوطني، نبذ العنف والإكراه، والقبول بالتنوع، والتعامل السلمي والحضاري مع المختلفين والمغايرين.
وإن تنمية الرابطة الوطنية الحديثة، يتطلب جهوداً حثيثة صوب صياغة الواقع الوطني بعيداً عن العصبويات التقليدية، وإلغاء كل أشكال العنف والنبذ والتهميش من حقل السياسة والفكر والاجتماع.
وهناك علاقة طردية بين مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي ومفهوم السلم الأهلي.. فالسلم الأهلي الوطني، هو الذي يجذر مفهوم الاستقرار السياسي، كما أن طريق الاستقرار يمر عبر إرساء دعائم السلم الأهلي. بينما في لحظات العنف، يغيب الاستقرار، وتتدمر أسس السلم الأهلي.
3 - إن التحصين الوطني ضد كل المخاطر التي قد تهدد الأمن الاجتماعي والوطني، يتطلب العمل الجاد على بلورة مشروع ثقافي وطني، يحتضن كل أطياف وتعبيرات الحياة الثقافية الوطنية، ويوظف كل إمكانات الوطن ويصبها في خدمة المشروع، وينفتح على كل الخصوصيات الثقافية، ويتفاعل ويستفيد من كل القوى والوسائط الثقافية والاجتماعية المتوفرة، ويتواصل مع منابع الفعل الثقافي بتنوعه ومستوياته ومجالاته وآلياته القائمة والممكنة.
وبكلمة: إن تحصين الوطن من المخاطر، يتطلب بلورة حياة ثقافية جديدة، تتجاوز سيئات الواقع، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد التواصل والحوار والانفتاح على كل مكونات الفعل الثقافي والإبداعي الوطني.
فالتحصين لا يتأتى بالمنع وزيادة قائمة الممنوعات، بل بغرس أسباب الحياة والحيوية في حياتنا الثقافية والاجتماعية. فالمجتمع الراكد، هو أقرب المجتمعات إلى الاختراق على المستويات كافة.
أما المجتمع الحي، والحيوي، فإنه يمتلك الدينامية الكافية التي تؤهله إلى مقاومة كل الأخطار ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدد أمنه الاجتماعي والوطني.. فوجود الحياة الثقافية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية في إرساء دعائم الأمن الاجتماعي والوطني. فحيوية المجتمع وديناميته، هو رهاننا لمجابهة كل التحديات والمخاطر.
لذلك فإن مفهوم الأمن الشامل، يتطلب منا جميعاً، تنمية الاستعدادات والإمكانات الثقافية الوطنية، التي تأخذ على عاتقها معالجة الظواهر المجتمعية واستيعاب أبناء الوطن بمختلف مستوياتهم في أطر ومؤسسات، تنمي كفاءتهم، وتصقل مواهبهم، وترفع من مستوياتهم وتشاركهم في صياغة غدهم ومستقبلهم.