المؤمن والحكمة
وردت في المرويات الحديثية وتكررت عبارة: «الحكمة ضالة المؤمن»، منها ما روي عن النبي الأكرم ﷺ أنه قال: «كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها»، من ناقش في هذه الرواية من جهة السند وتحفظ عليها من هذه الجهة، مع ذلك اعتبر أن الرواية من ناحية المعنى فهي صحيحة، لكونها دالة على أن المؤمن لا يزال طالبا للحق حريصا عليه.
من يتأمل في هذا القول يرى فيه قولا ينبض بالحكمة التي مثلت فاتحة له وعنوانا، ولأهميته وقيمته فهو بحاجة إلى نوع من الاستكشاف أو باصطلاح العلوم الاجتماعية الحديثة بحاجة إلى حفريات معرفية، لكونه من الأقوال التي تتسم بالغنى في ناحية المعنى، والثراء في حقله الدلالي.
وعند الفحص والنظر يمكن استكشاف العناصر والأبعاد الآتية:
أولا: جاء هذا القول ليقيم علاقة فاعلة ومستمرة بين المؤمن والحكمة، فلا تنافر بين الإيمان والحكمة ولا تخاصم ولا تخالف، لكون أن الإيمان لا يحجب عن المؤمن البحث عن الحكمة وتحصيلها، ولا يردعه عن السير في هذا الدرب، وإنما يدعوه لطلبها، ويفتح له طريق الوصول إليها، كما لا خشية على الإيمان من الحكمة ولا خوف ولا وهم، فالحكمة لا تنقص من إيمان المرء ولا تضعضعه أو تحط منه.
وليس من الصواب أن يتصور المرء أنه ما دام مؤمنا فلا حاجة له إلى الحكمة، وبذريعة الإيمان والاستعلاء بالإيمان يتعالى على الحكمة، ويترفع عنها، ويتكبر عليها، ويقطع على نفسه طريق العبور إليها، والصواب أن المؤمن هو من يتخذ الحكمة ضالة له، يعرف وينطق بها، ويرى فيها ضالة وليس ضلالا، ضالة يتبصر بها ويتنور، وليست ضلالا يتيه بها ويعمى.
ثانيا: إن الحكمة التي هي ضالة المؤمن لا تأتي بنفسها إليه طوعا، وإنما عليه أن يطلبها ويفتش عنها، بل ويتواضع لها، ويسعى سعيه للاقتراب منها، فالخطوة الأولى تأتي من المؤمن حين يكون متنبها للحكمة واعيا بها، ومدركا لها.
ومن يطلب الحكمة ويتوق إليها، فإنه سيصل إلى معقلها، وهكذا من ينقب عنها ويفتش، أما من لا يطلبها ولا ينقب عنها فإنه لا يصل إليها، ولا يرتقي خطوات في سلمها.
وبحس الإيمان يطلب المؤمن الحكمة، وبهذا الحس يرى في الحكمة ضالة له، وأنه أولى بها وأحق، ويفترض أنه كلما قوي هذا الحس وانتعش ازداد المؤمن تبصرا بالحاجة إلى الحكمة، جاعلا منها ضالة له، يطلبها ويسعى لتحصيلها، والمؤمن هو عنوان من تلبس بصفة الإيمان انتسابا وتحققا، ويظهر متجليا في حس يجعل من الحكمة وبشكل مستمر ضالة المؤمن.
ثالثا: لا قيد على الحكمة ولا حصر لها لا من جهة الزمان، ولا من جهة المكان، ولا من جهة الحال، فالحكمة تطلب في كل الأزمنة ولا تتقيد بزمان معين، لا بالأزمنة القديمة ولا بالأزمنة الوسيطة ولا بالأزمنة الحديثة على اختلاف أحوال هذه الأزمنة ووضعياتها، ولن يأتي وقت تتوقف فيه الحاجة إلى الحكمة أو تنقص أو تتلاشى، بل ستظل الحكمة ظالة المؤمن في كل الأزمنة والعصور، وذلك لكون أن الحاجة إلى الحكمة هي حاجة مستمرة لا تتوقف ولا تنتهي، لا تضعف ولا تتراجع، لا اكتمال لها ولا خاتمة.
كما أن الحكمة تطلب في كل الأمكنة ولا تتقيد بمكان معين، فلا تتقيد بأمكنة المسلمين فحسب وإنما تمتد إلى أمكنة جميع البشر على اختلاف وتعدد مذاهبهم وأديانهم، أممهم ومجتمعاتهم، لغاتهم وألسنتهم، قومياتهم وأعراقهم، على تباين أحوالهم ووضعياتهم في درجات الحضارة والمدنية قوة وضعفا، ومن يطلب الحكمة سيجد لها أثرا في كل هذه الأمكنة، فالحكمة التي هي مفتوحة على كل الأزمنة هي مفتوحة كذلك على كل الأمكنة.
وهكذا فإن الحكمة تطلب في كل حال ولا تتقيد بحال معين، تطلب في حالة القوة وفي حالة الضعف، في حالة الغنى وفي حالة الفقر، في حالة الصحة وفي حالة المرض، في حالة السلم وفي حالة الحرب، وفي جميع الحالات الأخرى على اختلاف صورها وأنماطها، وليس هناك حال تتوقف فيه الحاجة إلى الحكمة، ولن نصل يوما إلى حال تتلاشى فيه الحاجة إلى الحكمة، أو نصل فيه لحد الاكتمال.
وبهذا المعنى وبهذا الأفق تبني الحكمة ذهنية الانفتاح والتواصل مع الآخر المؤتلف والمختلف، ومع كل البشر، باعتبار أن الحكمة لا حصر لها ولا قيد، فلا أحد يستطيع أن يدعي امتلاك الحكمة وسلبها عن الآخرين، ومن الحكمة يبدأ الانفتاح والتواصل، وبهذه الحكمة يستمر الانفتاح والتواصل بلا توقف وبلا نهاية، الأمر الذي يعني أن الحكمة في حقيقتها هي فلسفة تواصلية، تخلق التواصل، وتنتعش بهذا التواصل، وتكون على تعارض مع ذهنية القطيعة والانغلاق.
رابعا: كيف تصبح الحكمة ضالة المؤمن؟ تصبح الحكمة ضالة حين يتعرف المؤمن عليها أولا، وحين يصل إليها ثانيا، الشرط الأول له علاقة بالمعرفة، والشرط الثاني له علاقة بالطريقة. من دون المعرفة لا تتكشف الحكمة ولا تكتسب هذه الصفة، وبالمعرفة نميز كذلك ما يدخل في عنوان الحكمة وما يخرج منه، ما يدخل في عنوان الحكمة يمثل ضالة للمؤمن، وما يخرج من عنوان الحكمة يكون من النوع الذي لا حاجة له.
ولكي تصبح الحكمة ضالة، يتطلب من المؤمن أن يتسم بحس الحكمة ممتزجا بحس الإيمان، وبهذين الحسين يتعرف على الحكمة، ويمايز بين الحكمة واللاحكمة ويفارق، وبهذين الحسين كذلك يجري التعامل مع الحكمة بصفتها ضالة تضيء وتنير، ومع دوام هذا الفعل يتنامى عند المؤمن وينتعش حس الحكمة، وبهذه العلاقة المستمرة مع الحكمة يصبح المؤمن حكيما، ويعرف بالمؤمن الحكيم مرتقيا أعلى الدرجات.
خامسا: ما هي الحكمة التي تعد ضالة المؤمن؟ عرف الراغب الأصفهاني الحكمة في كتابه «مفردات غريب القرآن» بأنها إصابة الحق بالعلم والعقل، والحكمة من الإنسان هي معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وعرفها الشريف الجرجاني في كتابه «التعريفات» بأنها كل كلام وافق الحق فهو حكمة.
والحكمة بهذا العنوان لا تكون إلا موافقة للحق، سواء كانت قولا أم عملا، قد تجلب نفعا أو قد تمنع ضررا، لهذا فهي ضالة بالنسبة للمؤمن، فكل ما وافق الحق من أي مصدر كان فعلى المؤمن أن يطلبه، ويسعى في تحصيله والوصول إليه، جلبا للنفع أو دفعا للضرر.
وجاء إطلاق لفظ الحكمة على الشيء الذي يطلب، بقصد التحفيز عليه من جهة، وبقصد رفع الحرج من جهة أخرى، التحفيز لتكوين الداعي، والحرج لرفع المانع.