العرب بين حروبهم الداخلية وتحدياتهم الخارجية
لو تأملنا في طبيعة التطورات والأحداث والتحولات التي تجري في العالم العربي على أكثر من صعيد، نكتشف أن هناك قوتين أساسيتين تتحكمان في مسار الأحداث، وتساهمان بطريقة أو بأخرى في دفع التطورات نحو مآلات محددة.
ويبدو أن فهم ميكانيزمات عمل هذه القوى، يجعلنا نفهم بشكل عميق طبيعة التطورات واتجاهاتها المستقبلية. وهذه القوى هي الآتي:
القوى الأولى يمكن تسميتها بقوى التنابذ في العالم العربي. وهي القوى التي لا تفكر إلا في ذاتها ومصالحها الضيقة، وهي القوى التي تسعى نحو تضييق مسار المشاركة في الشأن العام، وهي التي تبحث عن الفروقات مع غيرها دون المشتركات، وهي التي تبحث عن وطن ومجتمع على مقاسها، وتسعى بكل إمكاناتها وقواتها صوب أن يكون العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه وفق رؤية أحاديةضيقة.
ويمكن أن نحدد سمات هذه القوى النابذة في السمات التالية:
1 إن هذه القوى سواء كانت دينية أم سياسية، لا تعترف بالتعدد والتنوع في المجتمع الإنساني، وتعمل على طمس كل معالم وحقائق التعدد، وتحارب كل أشكال التنوع. وترى أن قوة المجتمع في قسره على رأي واحد، ومنهج واحد..
ولا شك أن هناك قوى دينية وثقافية تحارب التعدد وتنبذ التنوع، وتستخدم كل إمكاناتها في سبيل دحر الخصوصيات المذهبية والثقافية لصالح خصوصية غالبة واحدة.
كما أن هناك قوى سياسية تؤمن بذات الخيار وتستخدم جميع قدراتها بحيث لا يكون في المشهد العام إلا رأيها وخيارها الوحيد.
وحينما تتكاتف القوى الدينية مع القوى السياسية في قسر الناس على رأي واحد وقناعة واحدة، تصبح هذه القوى النابذة مؤثرة على راهن العرب ومستقبلهم.
وعلى ضوء هذا فإن هذه القوى لا تحفل بالتنوع، ولا تعمل على حماية التعدد، وتكافح بكل جهدها صوب تصحير المجتمعات العربية.
ولعل السمة الثانية لهذه القوى أنها تستخدم العنف المادي أو المعنوي لفرض قناعاتها وخياراتها. فكل من يختلف معهم هو خارج نطاق الطريق المستقيم، وبه عيوب دينية وثقافية، وأنه بفعل هذه العيوب اتخذ موقفا مضادا لها. ولا تتورع هذه القوى عن استخدام العنف ببعديه المادي والمعنوي ضد من يختلف معها.
لذلك فإننا نحمل في هذا السياق الكثير من ظواهر العنف التي تشهدها العديد من البلدان العربية هذه القوى النابذة، لأنها تستسهل اللجوء إلى العنف لإنهاء خلافاتها مع الآخرين وفرص خياراتها الدينية والسياسية على مجتمعها. كما أن هذه القوى تساهم في تنمية نزعة التوحش في العمل السياسي والعام.
كما أن من سمات هذه القوى أنها لا تعترف بحقيقة الأوطان المعاصرة. فهي مع أوطانها ما دامت تسير في كنفها، أما إذا أصبحت خيارات الأوطان بعيدة عن خياراتها، فهي تتحول إلى قوة غاشمة ضد الوطن والمواطنين.
فقوى التنابذ والمفاصلة الشعورية، بصرف النظر عن أيدلوجيتها وخطابها الشعبوي ويافطات تعبئتها الداخلية، لا تفكر إلا في مصالحها الضيقة، وهي على استعداد تام للتضحية بكل شيء في سبيل مصالحها الخاصة.
وبفعل هذا السلوك نستطيع القول: أن من أبرز الأخطار التي تواجه العالم العربي في أمنه واستقراره، هو في تمكن قوى التنابذ من السيطرة على مقاليد الأمور والتحكم في مسار الأحداث الكبرى في العالم العربي. وفي مقابل هذه القوى التي أسميناها مع اختلاف أيدلوجياتها بقوى التنابذ، هناك قوى أخرى نسميها بقوى الاستقطاب والتجاذب، وهي مجموع المشاريع والجماعات التي تعمل انطلاقا من رؤيتها الفكرية والسياسية، إلى توحيد جهود العالم العربي، وتربأ بنفسها في كل اللحظات أن تكون مساهمة في تأزيم الأوضاع في العالم العربي، أو توتير العلاقة الداخلية بين مختلف أطياف العالم العربي. فهي قوى توحيدية ووحدوية، ترفض الوقوع في مهاوي النزاعات الطائفية والمذهبية، وتعمل باستمرار لتجاوز هذه المحن الداخلية التي تواجه العرب والمسلمين.
ولعل من أهم سمات قوى التجاذب في العالم العربي أنها قوى تحترم حقائق التعدد والتنوع في الاجتماع العربي، وتعمل من أجل صياغة نظام سياسي واجتماعي قادر على إدارة التنوع على نحو حضاري، بعيدا عن نزعات الاستئصال أو طموحات التوحيد القسري للناس..
فالتعدد والتنوع في العالم العربي، ليس عيبا يجب إخفاؤه، وإنما هو مصدر قوة وثراء إذا أحسن الجميع إدارته والتعامل معه بعقلية استيعابية.
وقوى التجاذب لا تنظر إلى الوحدة بعيدا عن احترام حقائق التعدد، بل ترى أن طريق بناء وحدة وطنية واجتماعية صلبة، هو في صياغة علاقة إيجابية بين جميع مكونات الوطن والمجتمع. كما أن من سمات القوى الجاذبة أنها قوى سلمية، تنبذ العنف وتراه من المخاطر التي تهدد أمن واستقرار الأوطان والمجتمعات.
وتدعو هذه القوى جميع الأطراف في العالم العربي، إلى رفع الغطاء الديني والسياسي والاجتماعي عن كل نزعات العنف. لأنها من النزعات التي تهدد الجميع، وعلى الجميع أن يتخذ موقفا صريحا وواضحا منها.. فالعنف لا يحقق الأهداف السياسية والاجتماعية، وإنما يدشن إلى مرحلة السقوط السريع في مهاوي الفوضى والاحتراب الداخلي. وإن الجهات التي تتوسل العنف بوصفه أحد وسائل تغيير المعادلات، فإن هذه الجهات ستدخل العالم العربي في أتون الفوضى التي تدمر كل شيء. لذلك فإن قوى الجذب والاستقطاب تقف موقفا مضادا من خيارات العنف، وتدعو الجميع إلى نبذ هذا الخيار وتجفيف منابعه وعدم توفير غطاء إليه.
ومن سمات هذه القوى أنها تشاركية وترفض نزعات الاستحواذ، لإيمانها العميق أن أوضاع العالم العربي، تحتاج إلى جميع الجهود والطاقات، وأن الساحة تسع جميع القوى والمكونات.
وعلى ضوء هذا الإيمان فهي باستمرار تعمل من أجل خلق توافقات وتحالفات عميقة بين تعبيرات الوطن والمجتمع، وصولا لبناء كتلة متجانسة تعمل من اجل معالجة مشاكل العالم العربي الجوهرية، وتؤسس لوقائع وحقائق جديدة، تخرج العالم العربي من أتون الصراعات العبثية وجمود أوضاعها السياسية والاجتماعية.
وما يعيشه العالم العربي اليوم، هو في أحد صوره وأشكاله، صراع بين قوى النبذ وقوى الجذب، وتتوسل هذه القوى بجميع إمكاناتها وقدراتها لحسم الصراع لصالحها.
وإن سيطرة قوى النبذ على الأمور، يعني خضوع العالم العربي لموجة جديدة من الجمود والإحباط، الذي يخرج مساحات اجتماعية واسعة من العالم العربي من الفعل التاريخي الايجابي، كما أن هذه السيطرة ستؤبد المشكلات المزمنة التي يعاني منها العالم العربي.
لذلك فإن المستقبل العربي المنظور، مرهون إلى حد بعيد على طبيعة اتجاهات الصراع بين هاتين القوتين.
وكلنا أمل أن يخرج العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه من جموده ووهدته وينطلق في رحاب البناء والتنمية وفق رؤية حضارية تحترم التعدد وتحميه، وتوجه جميع القدرات صوب البناء بعيدا عن نزعات الهدم والتدمير، وتؤسس لعلاقة متكافئة بين دول الإقليم والعالم.
فاللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي اليوم حساسة ومليئة بالكثير من التحديات، ولا يمكن مواجهة هذه التحديات ومقتضيات اللحظة التاريخية، إلا بإعادة تصويب بوصلة العالم العربي نحو الشراكة والتنمية وبناء القوة العربية على أسس أكثر صلابة وقدرة على الاستمرار والإبداع.
في الحياة الإنسانية ثمة منجزات نوعية، لا زالت قادرة على تقديم مكاسبها للإنسان الفرد والجماعة ولولاها لدخلت الكثير من المجتمعات الإنسانية في دائرة ضياع المصالح والفوضى التي تدمر كل شيء.
وأحسب أن من أهم المنجزات التي صنعها الإنسان في هذه الحياة الطويلة، هي فكرة الدولة، بوصفها مؤسسة كبرى لتنظيم شؤون المجتمعات وإدارة مصالحها والحفاظ على مكاسبها.
وإذا أردنا أن ندرك قيمة الدولة ودورها في تسيير شؤون الناس وتنظيم مصالحهم، ننظر حينما تغيب هذه الفكرة المؤسسة، عن حياة أي مجتمع، حيث تنتشر الفوضى، ويدب الخصام والصراع بين مكونات وتعبيرات المجتمع، ويضحى الإنسان مهددا في كل شؤونه.
لهذا فإننا نعتقد أن وجود مؤسسة الدولة في أي بيئة إنسانية، هو من ضرورات الحياة، وأنه لولا وجود هذه المؤسسة، لضاعت الحقوق، وتلاشت المكاسب، وأضحت حياة الإنسان بدون ناظم لتنظيم مصالحهم المختلفة.
من هنا فإن الدولة كفكرة ومؤسسة عامة. هي ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني، وأنه لا يمكن أن تنظم مصالح الناس المختلفة بدون وجود مؤسسة الدولة. فهي ضرورة وحاجة في آن. لأن المجتمعات الإنسانية التي تفتقد الدولة المؤسسة، ترى أن ضمن أولوياتها وأهدافها الملحة بناء مؤسسة الدولة لتنظيم شؤونهم المختلفة، والحفاظ على مصالح الأفراد والمجموعات البشرية في آن.
ولكون العديد من المجتمعات العربية اليوم مهددة بانهيار الدولة ودخولها في نفق الفوضى الرهيبة، من الضروري في هذا السياق بيان وذكر النقاط التالية:
1 إن الدول بصرف النظر عن أيدولوجياتها ومستوى قدرتها على إدارة شؤون الناس فيها، ومدى التزامها بمقتضيات العدالة والتداول، لا زالت ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني. وإنه لا يمكن لأي مجتمع اليوم من الاستغناء عن فكرة ومؤسسة الدولة. فكل المجتمعات الإنسانية اليوم بصرف النظر عن درجة تقدمها أو تخلفها وبمدى التقدم الذي أحرزه الناس في حياتهم المختلفة، لا زالت كل المجتمعات الإنسانية بحاجة إلى الدولة، بوصفها هي المعادل الموضوعي للنظام القادر على تنظيم شؤون الناس وتصريف مصالح الناس بدون التعدي عليها أو الاستخفاف بها أو الافتئات عليها.
لذلك فإن كل المشروعات الأيدلوجية والسياسية التي تفكر في الاستغناء المباشر أو غير المباشر عن فكرة ومؤسسة الدولة، هي مشروعات تساهم بشكل مباشر في ضياع مصالح الناس ومكاسبهم المختلفة. فالدولة في كل المجتمعات الإنسانية لا زالت ضرورة وجود وحياة. وإن هذه المؤسسة الكبرى مهما كانت عيوبها أو أخطائها فإن كل هذه العيوب والأخطاء، لا يمكن أن تعالج بالتخلص من فكرة الدولة أو إلغاءها من الوجود الإنساني. فلا زالت هي حاجة ملحة وضرورية لكل الناس.
2 لكون المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، تعاني من خطر الإرهاب والعنف الذي بدأ بالبروز في الحياة العامة. فإن هذه المجتمعات لا يمكن أن تواجه تحديات الإرهاب والعنف بتضعيف مؤسسة الدولة أو التشجيع على إلغاءها عن الحياة العامة. لأن هذه الخطوة ستفضي من الناحية الواقعية بالمزيد من فرص انفجار العنف واستخدامه بدون مرجعية قانونية أو إدارية، مما يحول غياب أو ضعف الدولة في أي مجتمع، إلى فرصة لتدهور الأوضاع على كل المستويات وبروز أمراض الانتقام والقتل العشوائي وما أشبه ذلك.
لذلك إننا نعتقد أن كل التحديات التي تطلقها آفتي العنف والإرهاب، لا يمكن مواجهتها إلا بمؤسسة الدولة وأجهزتها المختلفة.
صحيح قد تصاب بعض أجهزة الدولة ببعض العيوب، ولكن مهما كانت عيوب الدول، لا غنى عنها كمؤسسة ناظمة لمصالح الجميع ومحافظة على آليات الانتظام العام.
من هنا وفي ظل هذه الظروف الحساسة التي تعيشها المنطقة بأسرها على كل المستويات، بحاجة أن نعيد الاعتبار لفكرة ومؤسسة الدولة، وإن المجتمع بكل مكوناته وتعبيراته، ليس بديلا عن الدولة ومؤسساتها.
لذلك مهما كانت المشاكل والصعوبات، نحن أحوج ما نكون إلى حماية فكرة الدولة في فضائنا السياسي والاجتماعي في كل بيئاتنا العربية.
وإن العيوب والمشاكل التي نواجهها في العالم العربي، لا يمكن أن تواجه بتغييب فكرة ومؤسسة الدولة.
ولا نريد لوطننا العربي أن ينخرط في فتنة تغييب أو تضعيف مؤسسة الدولة.
لأن كل محاولة لتضعيف فكرة ومؤسسة الدولة، ستفضي إلى نتائج كارثية على مستوى الحياة العامة. وإنه لا يمكن لأي فئة اجتماعية أن تقبض على مصالحها بدون وجود إطار ومؤسسة الدولة.
3 لو تأملنا في حياة المجتمعات العربية التي احتربت داخليا مع بعضها البعض، وعاشت مرحلة الحرب الأهلية بكل مكوناتها وتعبيراتها. سنجد أن هذه المجتمعات وبعد تجربتها المرة في الحرب الأهلية، ترى أنه لا حل ولا علاج لوضعها إلا بالدولة. فالدولة حينما تغيب والمجتمع بكل تعبيراته ومكوناته، يعيش الصراع والتنافس الصريح بين كل أطرافه، فإن الصراع المفتوح بين جميع الأطياف، سيقود إلى انهيار المجتمع بكل فئاته في أتون الحرب والقتل المتبادل.
وإن وقف الانهيار الاجتماعي، لا يمكن أن يتحقق عمليا بدون إعادةالاعتبار إلى الدولة كفكرة ومؤسسة، فهي القادرة على إخراج المجتمع من صراعاته الداخلية، وهي المؤسسة الوحيدة القادرة على تنظيم مصالح كل الفئات والأطياف بعيدا عن احتمالات الحرب أو الصراع المفتوح.
لذلك فإن المطلوب في هذا السياق رفض كل نزعة تستهدف إسقاط الدولة كمؤسسة ناظمة لشؤون المجتمع من التجربة العربية المعاصرة.
فمهما كانت عيوب الدولة في التجربة العربية المعاصرة، فإن غيابها أكثر عيبا وخطرا على الجميع.
والناس بكل مكوناتهم وتعبيراتهم، مهما كانت قوتهم الفعلية أو الافتراضية، ليسوا بديلا عن مؤسسة الدولة. ولا نريد لمجتمعاتنا الوقوع في براثن الفوضى أو الضياع في متاهات مشروعات سياسية وأيدلوجية تستسهل فكرة تغييب مؤسسة الدولة.
وعليه فإن مؤسسة الدولة بكل أجهزتها، هي المعنية بأمن الناس والمجتمعات التي تديرهم.
وإن كل الجهود الاجتماعية المبذولة في هذا السياق، ينبغي أن تكون داعمة لأجهزة الدولة وليست بديلا عن أجهزة الدولة.
أسوق كل هذا الكلام، لتفنيد كل أوهام الاستغناء عن فكرة ومؤسسة الدولة.
فهي أي مؤسسة الدولة، هي ضامن وحدة الوطن وهي القادرة وحدها على حماية أمن المواطنين، وهي الضرورة التي لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها.
تعلمنا التجارب السياسية والاجتماعية، أن إهمال المشاكل، وعدم الجدية في معالجة بعض الأزمات في بداياتها، يفضي إلى تضخم هذه المشاكل والأزمات وانفجارها، مما يؤدي إلى خسائر وتبعات هائلة أكثر بكثير مما لو عولجت هذه المشاكل في وقتها.. فالزمن لا يعالج المشاكل، بل يزيدها نضجا وتوسعا وتعقيدا.. والتسويف والتأجيل يؤدي إلى مضاعفات خطيرة، والتغافل عن المشاكل والأزمات وهي في المهد، قد يقود إلى تراكم هذه المشاكل واستفحالها، مما يصعب بعد ذلك مشروع الحل والمعالجة..
وهذه الحقيقة موجودة في الحياة الاجتماعية، كما هي موجودة في الحياة السياسية.. فالأسرة التي تعاني من مشكلة بسيطة مع ابنها، إذا تغافلت عن هذه المشكلة، أو لم توليها العناية للأزمة، فإن مشكلة هذا الابن ستتفاقم، وقد تقود إلى خيارات ليست مرغوبة في الوسط الأسري.. فهناك الكثير من الآباء الذين خسروا أبناءهم من جراء مشكلة لو تم معالجتها في وقتها لما وصلت الأمور إلى نهاياتها غير السعيدة.. كما أن هناك الكثير من الأمهات، اللاتي تغافلن عن مشاكل بناتهم، وتعاملوا مع هذه المشاكل باستهتار أو بدون اهتمام، فأدت إلى متواليات أسرية واجتماعية شعر الجميع بفداحتها.. كما أن الأصدقاء مع بعضهم البعض، إذا لم يتصارحون ويعالجون مشاكلهم الطبيعية بهدوء وجدية، فإن هذه الصداقة ستضحى مهددة من هذه المشاكل التي تغافلوا عنها أو لم يتعاملون معها بجدية كافية.. فليس عيبا في أي دائرة اجتماعية، أن تكون هناك مشاكل وأزمات، لأن هذا من طبائع الأمور والحياة، ولكن العيب الحقيقي حينما لا يتمكن أطراف هذه المشكلة من معالجة مشاكلهم وهي صغيرة ومحدودة، لأنها ستتحول إلى مشكلات كبيرة ومعقدة..
فالهروب من المشاكل لا يغير من معادلة وجودها، بل يزيد من تأثيرها واتساع دائرتها وتعدد أطرافها..
وهذه الحقيقة كما هي مؤثرة على الحياة الاجتماعية، هي كذلك مؤثرة في الحياة السياسية، سواء على صعيد الدول أو الشعوب أو الجماعات الفاعلة في الحقل السياسي.. فمشاكل الحياة السياسية من أي موقع، إذا لم تعالج ويتم الالتفات إليها مبكرا، فإنها ستتحول إلى أزمات سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات.. فالمشكلات السياسية هي في جوهرها خطأ بشري سواء على صعيد الممارسة أو الخيار مع إهمال بشري مقصود أو غير مقصود مما يؤدي إلى بروز ما نسميه مشكلة أو أزمة سياسية..
فالمشاكل السياسية لا تنتج من الأخطاء، لأن الحياة السياسية هي حياة تجريبية وكل أطرافها يصيبون ويخطئون، ولكن هذه الأخطاء السياسية المتكررة، إذا رافقها إهمال مؤسسي مقصود أو غير مقصود، فإنها أي الأخطاء تقود إلى أزمات وبؤر سياسية متوترة.. فكل دول العالم ومؤسساته السياسية تخطأ مع بعضها البعض، أو تخطأ بحق شعبها ومجتمعها.. ولكن الفرق الجوهري بين الدول، يتجسد في طريقة تعامل مؤسسات الدولة مع أخطاءها أو قصورها سواء تجاه دولة أخرى أو تجاه شعبها وخياراته المتعددة..
فالدول الحية والدينامية، هي تلك الدول التي تمتلك القدرة الذاتية على معالجة أخطاءها والتنازل عن بعض الخطوات أو الخيارات التي اكتشفت خطئها..
فالتنازل عن الخطأ على هذا الصعيد، ليس عيبا، وإنما هو قدرة ذاتية وشجاعة مؤسسية تحول دون تراكم الأخطاء.. لأنها تدرك أن تراكم الأخطاء يقود إلى أزمات سياسية مفتوحة على كل الاحتمالات..
أما الدول الفاشلة والغبية سياسيا، فهي التي لا تلتفت إلى أخطاءها، وإذا التفتت لا تمتلك الدينامية الذاتية لمعالجة الخطأ بشكل سريع.. فتتراكم لديها الأخطاء، فتتحول مع الزمن إلى بيئة مولدة للتوترات والأزمات سواء كانت داخلية أو خارجية..
لذلك فإن الدول الناجحة دائما، هي الدول التي تمتلك أجهزة رقابية ومحاسبية فاعلة وحاضرة في المشهد.. لأن فعالية المراقبة والمحاسبة، هي التي تمكن الدول من معالجة أخطائها بشكل سريع، وتصفية جميع التأثيرات العامة لهذه الأخطاء..
والتصفية هنا لا تعني التشريع للعمل التعسفي، وإنما طبيعة الدينامية الذاتية التي تمتلكها مؤسسات الدولة، هي تؤدي إلى معالجة شاملة للأخطاء سواء على صعيد جذورها وأسبابها، أو على صعيد تأثيراتها ونتائجها..
ولقد ارتسمت هذه الحقيقة بعناوينها المختلفة في كل بلدان المنطقة العربية بطريقة أو أخرى.. والدول التي تمكنت من الخروج من مآزقها وأزماتها الذاتية أو العرضية، هي الدول التي تمتلك حساسية مؤسسية تجاه أخطاء سياساتها وممارساتها، فبادرت بشكل سريع ودائم لمعالجة هذه الأخطاء.. أما الدول التي تمكنت منها المشاكل والأزمات، فهي الدول التي تغافلت عن أخطاءها، وتساهلت في انجاز مشروع رضا شعبها عنها، فأدى التغافل والتساهل إلى دخول هذه الدولة في مرحلة الفشل.. وهي كل دولة ليست قادرة بوسائلها السياسية من معالجة مشاكلها وتجسير العلاقة مع شعبها بكل مكوناته وأطيافه.. وفي سياق العمل، لكي لا تتحول أخطاء الدول العربية السياسية إلى حالة فشل مستديم،
1 - ضرورة تفعيل الأجهزة الرقابية والمحاسبية في الدول العربية، لأنه لا يمكن تطوير الأوضاع الإدارية، وتصحيح بعض الأعوجاجات والاختلالات، إلا بتطوير الأجهزة الرقابية والمحاسبية.. كما أن تفعيل هذه الأجهزة، هو الذي يحول دون تحول الأخطاء السياسية إلى حالة فشل، تؤبد التراجع العربي، وتحول دون الانعتاق من ربقة الهامشية في العلاقات الإقليمية والدولية..
2 - تطوير الحياة السياسية وتزخيمها الدائم بدماء وكفاءات جديدة، تطرد حالة الترهل، وتنهي واقع الجمود..
لذلك فإننا نعتقد أن الدول التي تطور حياتها السياسية والاجتماعية باستمرار، هي الدول الناجحة، والبعيدة كل البعد عن الفشل السياسي والجمود الإداري.. أما الدول التي لا تعتني بتطوير حياتها السياسية، ولا تلتفت إلى ضرورة تجديد وتوسيع قاعدتها الاجتماعية، فإنها تمارس الخطأ وتكرره، دون قدرة فعالة على معالجة هذه الأخطاء، فتصاب من جراء ذلك بحالة فشل سياسي سواء في حقل سياساتها وخياراتها الداخلية، أو حقل سياساتها وخياراتها الخارجية..
لهذا ثمة ضرورة قصوى في كل الدول والبيئات السياسية، إلى تطوير حياتها السياسية والخروج من حالة إبقاء ما كان على ما كان.. لأن هذه الحالة هي التي تعمق الأخطاء وتحولها إلى حالة فشل مستديم في الدول والمجتمعات..
3 - فسح المجال القانوني للآراء والقناعات المختلفة للتداول على المستويات الإعلامية والاجتماعية والسياسية.. وذلك حتى تتعدد وتتنافس الخيارات، وتتسع دائرة الوعي والفهم في المجتمع..
أحسب أن هذه النقاط الثلاث، هي القادرة على التعامل مع أخطاء الدول بعيدا عن احتمالات الفشل، وهي التي تعيد المؤسسات العامة على مستوى الأداء إلى جادة الصواب باستمرار.. فالأخطاء والإخفاقات على مستوى الخيارات والأداء من طبيعة الحياة السياسية والإدارية، ولكن استمرار هذه الأخطاء والإخفاقات هو الذي يدخل الدول في مرحلة الفشل.. لذلك فإن الدول المتقدمة، تعتني بمسألة إيجاد آليات مؤسسية، تحول دون تكرار الأخطاء، وتعمل على التجديد والتطوير الدائم، لإزالة كل الأسباب والعوامل المفضية إلى التراجع والفشل والإخفاق..
ثمة حقيقة سياسية ومجتمعية تكشفها الكثير من الأحداث السياسية الكبرى التي تجري في المنطقة، إلا أن القلة من المهتمين من يلتفت إلى هذه الحقيقة، ويرصد آثارها ومتوالياتها على المواطنين وعلى الاستقرار المحلي والإقليمي والدولي.
وهذه الحقيقة هي أن أخطر مرحلة تبلغها الأحداث والتطورات في أي بلد، هو حينما يصبح هذا البلد بلا راعي، وبلا حكومة تضمن الحدود الدنيا للنظام وتسيير شؤون الناس.
لأن الدولة التي تصبح بلا راعي ينظم مصالح الناس ولو في الحدود الدنيا، ويمنع التعديات على أملاك الناس وأعراضهم، تصبح هذه الدولة فضاء مفتوح ومتاح لجميع الجماعات السياسية والإجراميةلتنفيذ مخططاتهم وأجندتهم بعيدا عن الرقابة والمحاسبة من قبل الأجهزة الرسمية. وفي ظل صعود الجماعات العنفية العابرة للحدود، تتحول هذه الدولة الفاشلة إلى بيئة حاضنة لهذه الجماعات، تدرب فيها عناصرها على الأعمال الإرهابية والعنفية وتطوير تعبئتها الأيدلوجية، مما يسرع في عملية أتساع دائرة هذه الجماعات التي تهدد أمن الأوطان والمنطقة بأسرها.. وأمام هذه الحقيقة المركبة والمتداخلة، تتعقد أزمة الأجهزة الأمنية القادرة على ضبط الأمن في هذه الدول، وتصبح هذه الدول الفاشلة ساحة مكشوفة لكل الإراداتو المشروعات الأمنية والسياسية، مما يزيد الأعباء على أبناء هذا الوطن وتلك الدولة الفاشلة. فالجميع يتنافس ويتصارع بمختلف الأسلحة الأمنية والسياسية والعسكرية على أرض ليست أرضهم وبدماء هذا الشعب المسكين الذي انهارت دولته وتحولت إلى دولة فاشلة غير قادرة على ضبط أمنها الداخلي وأمن حدودها. ولكونها أضحت ساحة مكشوفة وغير مسيطر عليها بقانون وأجهزة تنفيذية قادرة على ضبط الأمن والاستقرار، فإن جميع القوى الإقليمية والدولية والقوى الخارجة على قوانين بلدها، ستتجمع في فضاء هذه الدولة الفاشلة وستتصارع هناك وستدمر بقية البنية التحتية غير المدمرة، وستفتك بالنسيج الاجتماعي والوطني، مما يفاقم من أزمات هذه المجتمعات، ويدخلها في أتون الفوضى المدمرة والكارثية على كل الصعد والمستويات.
وأمام هذه الحالة التي تؤثر سلبا وبشكل عميق على الأمن الوطني والإقليمي والدولي نود التأكيد على النقاط التالية:
1 - لو تأملنا في البدايات الأولى والتي أنتجت في المحصلة النهائية ما نسميه «الدولة الفاشلة» سنجد أن أحد الأسباب الأساسية هو انسداد أفق الحل والمعالجة الداخلية لمشاكلها السياسية والأمنية والاقتصادية وتصلب جميع الأطراف وعدم تنازلها وسعيها إلى خلق تسوية ترضي الإطراف المتصارعة وتخرج الوطن والشعب من احتمالات الصدام والصراع الدائم.
فحينما ينسد أفق الحل السياسي الداخلي وتتعاظم تأثيرات الأزمة، وتستدعي جميع الأطراف المتصارعة الخارج سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فإن النتيجة الفعلية المترتبة على ذلك هو تأكل الدولة ومؤسساتها من الداخل وتعزيز الانقسام الأفقي والعمودي في المجتمع.
وتوقف عجلة البناء والتنمية، وكل هذه العناصر مجتمعة تفضي إلىدخول هذه الدولة في مرحلة الفشل والعجز عن معالجة مشاكلها وأزماتها المستفحلة. وحينما تصل الدولة إلى مرحلة الفشل والتآكل الداخلي، فإن عودتها إلى عافيتها يتطلب الكثير من الجهود والإمكانات والصبر، وقد تتعافى وفي كثير من الأحيان لا تتعافى، وإنما يستمر التدمير والدمار والقضاء على المؤسسات المتبقية للدولة. وأمامنا جمهورية الصومال كمثال على ذلك، فهي ومنذ سنين طويلة تعاني الصعوبات الجمة للعودة إلى دولة مركزية قادرة على ضبط الأمن وتسيير شؤون مواطنيها. فلم يعرف الشعب الصومالي خلال العقود الثلاثة الماضية إلا القتل والدمار والحروب الداخلية والكانتونات المغلقة على بعضها البعض والتدمير المتواصل للنسيج الاجتماعي والقبلي. من هنا ولكي لا تصل بعض الدول العربية الأخرى إلى مرحلة الفشل بحاجة إلى الإسراع في وقف الانحدار والتآكل الداخلي، عبر الإصلاحات الإدارية والدستورية والسياسية، التي تعيد الحياة إلى مشروع الدولة، وتعيد ثقة شعبها بقدرة الدولة على الخروج من مأزق الانهيار والتآكل الداخلي.
2 - دائما في لحظات انهيار الدول المركزية، تبرز وتتعاظم الانقسامات الاجتماعية تحت يافطات دينية أو مذهبية أو عرقية أو قبلية أو جهوية، مما يجعل الانهيار خطيرا لأنه يصيب الدولة والمجتمع في فترة زمنية واحدة، مما يفاقم من حالة العنف والاحتراب الداخلي. وهذا التشظي المجتمعي يكشف غياب مشروع وطني لهذه الدول لانجاز مفهوم الاندماج الوطني لذلك وفي اللحظة الأولى لغياب الدولة أو تآكلها تبرز كل التناقضات المجتمعية، ودائما يكون البروز بوسائل قهرية - عنيفة تساهم في تدمير النسيج الاجتماعي والوطني. وهذا بطبيعة الحال يعود إلى غياب مشروع للانتماء الوطني، بحيث يكون هذا الانتماء هو الانتماء المشترك الذي يضمن حقوق الجميع بدون افتئات على أحد.
وتتحمل كل الدول العربية في هذا السياق مسؤولية العمل على بناء مشروع وطني متكامل للاندماج الوطني، بحيث لا تتحول مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات منقسمة أفقيا وعموديا تحت يافطة الانتماءات التاريخية والتقليدية.
وتتوسل هذه الدول في بناء مشروع الاندماج الوطني على وسائل التنشئة والتثقيف والإعلام والتعليم والتعامل مع الجميع بمساواة على قاعدة المواطنة الجامعة.
وهذا بطبيعة الحال سيخفف من مخاطر التآكل الداخلي للدولة، لأنه يبقي المجتمع موحدا ولديه القدرة على بناء كتلة تاريخية وطنية قادرة على وقف الانحدار وإعادة بناء الوطن على أسس جديدة تخرج الجميع من أتون المآزق السابقة.
3 - من الضروري أن تدرك جميع دول المنطقة أن تجذر الجماعات التكفيرية والعنفية في المناطق التي انهارت فيه الدولة أو تآكلت، يعد خطرا حقيقيا على الجميع. لأنه لا يمكن للأمن الوطني والقومي العربي أن يهنأ بالاستقرار السياسي في ظل وجود جماعات عنقية - تكفيرية تمتلك القدرة على التدريب العسكري وحيازة الأسلحة والمعدات العسكرية بكل أنواعها.
لذلك ثمة ضرورة وطنية وقومية لكل الدولة العربية لبناء مشروع عربي متكامل يستهدف مواجهة جماعات العنف والتكفير التي بدأت بالانتشار والتوسع في دول عربية مختلفة مستفيدة من وجود ثغرات أمنية وسياسية عديدة في جسم بعض هذه الدول. لأن هذه الجماعات وكما أثبتت التجربة في أكثر من مكان، لا تعرف إلا القتل والتفجير وتدمير البنى التحتية، ولا شك أن هذه الجماعات وبما تشكل من فكر عنفي وممارسات إرهابية تشكل خطرا محدقا على العالم العربي. ولا خيار أمام العرب إلا الوقوف في وجه الثقافة التكفيرية والجماعات العنفية والإرهابية التي قد تلتقي مع إرادات دولية أو إقليمية بشكل موضوعي لإدخال العالم العربي في أتون العنف والعنف المضاد. ولو تأملنا في ظاهرة الإرهاب، لرأينا أن الدول الفاشلة من أخصب البيئات الاجتماعية والسياسية لتمدد حركات وتنظيمات الإرهاب. فتنظيم داعش لو لم يجد دولا فاشلة أو في طريقها للفشل، لما تمكن هذا التنظيم من التوسع والامتداد. لذلك لايمكن محاربة الإرهاب إلا بإصلاح وضع الدول العربية، وإخراج الدول الفاشلة منها من مربع الفشل، عبر دعم مشروعات المصالحة من مآزق انسداد أفق الحل والمعالجة السياسية.
وجماع القول: إن العالم العربي يواجه تحديا جديدا، يتجسد في انهيار وتآكل بعض دوله، مما أدخل مجتمع هذه الدولة في مضمار الصراعات المعقدة والمركبة بعضها متعلق بملفات وصدامات داخلية، وبعضها الآخر متعلق بصراع الآخرين على أرض هذه الدولة المتآكلة مما جعل في الوسط العربي مجموعة من القنابل الحارقة والخطيرة في آن.
وأمام هذا التحدي النوعي الجديد، بحاجة أن تبادر دول العالم العربي لإيقاف هذا الانحدار وإيجاد خطط حقيقية وممكنة لإخراج هذه الدول من سقوطها السريع وتآكلها الداخلي المستغرب.
وهذا لا يتم على نحو فعلي إلا بأدوات إصلاحية، تنهي بعض مآزق العلاقة بين الدولة والشعب، حتى يتمكن الجميع من الخروج من مخاطر انهيار دولة عربية في ظل أوضاع عربية على أكثر من صعيد حساسة ودقيقة وتتطلب إرادة عربية جديدة تتجه صوب بناء أنظمة سياسية دستورية وقانونية وديمقراطية.
حين التأمل في التاريخ السياسي للعالم العربي الحديث والمعاصر، نجد أن حجم الفظاعات والجرائم والارتكابات التي يندى لها الجبين في زمن الاحتلال الداخلي، أضعاف حجم الفظاعات والارتكابات في زمن الاحتلال الأجنبي.. وذكر هذه الحقيقة لا يعني إننا نفضل الاحتلال الأجنبي على الاحتلال الداخلي، فالاحتلال سواء كان داخليا أو خارجيا مرفوض، وينبغي مقاومته وعدم الخضوع إلى مقتضياته.. وأردنا من ذكر هذه الحقيقة التاريخية والسياسية المؤلمة، القول أن ما يعانيه العالم العربي في ظل أنظمة استبدادية - شمولية، تقتل البشر، وتدمر الحجر، ولا ضوابط شرعية أو أخلاقية لممارساتها وانتهاكاتها على كل صعيد ومستوى..
وإن ما يجري اليوم من قتل يومي وتهجير سكاني يتعاظم في أكثر من بلد عربي، هو من جراء هذا الاحتلال الداخلي.. فمحطات التلفزة اليوم مليئة بصور القتل والدماء النازفة في العالم العربي، تقشعر لها الأبدان، وتوضح بشكل لا لبس فيه حجم الوحشية التي تختزلها بعض المؤسسات العسكرية والأمنية تجاه مجتمعها وشعبها..
ولعلنا لو قارنا بين فظاعات المحتل الأجنبي وفظاعات المحتل المحلي والداخلي، لترحمت أكثر الشعوب العربية على تلك السنوات التي كان مصيرها بيد الاحتلالات الأجنبية.. فالمحتل يحتل الأرض وينهب الثروات ويسيطر على المقدرات، إلا أنه في غالب الأحيان يسمح بهامش ومساحة للتعبير عن الخصوصيات الشخصية سواء كانت دينية أو اجتماعية، بحيث يشعر أغلب الناس أن كرامتهم الشخصية لم تهان ولم يتم انتهاكها..
أما في زمن الاحتلال الداخلي فكل سيئات الاحتلال الأجنبي يقوم بها، وإضافة إليها يتم التعدي الدائم على كرامة الإنسان وتنتهك لأتفه وأبسط الأسباب.. بحيث يشعر المواطن العربي أنه مسلوب الإرادة، ومنتزعة منه الحقوق الخاصة والعامة، ويتم التعامل معه، بوصفه أرخص الأشياء في وطنه..
والنتيجة المنطقية لما جرى في أغلب بلدان العالم العربي خلال العقود الأربعة الماضية، هو ما نشهده اليوم من قتل وتدمير وتهجير وانفجار كل التناقضات الأفقية والعمودية في المشهد العربي.. وكأن شعوب العالم العربي كانت في قارورة محكمة بإتقان، ولكن حين فتحت هذه القارورة برزت كل العيوب والفظاعات التي يعيشها العالم العربي.. ولكن الفرق الجوهري في هذا السياق أن هذه العيوب والفظاعات كانت تجري في الماضي بدون ضوضاء إعلامية وأجهزة فضائية تنقل ما يجري.. أما في اللحظة الراهنة فإن كل ما يجري من فظاعات أضحى مكشوفا ومتاحا للجميع.. فكل ما يجري هو نتاج خيارات سياسية وأمنية واجتماعية، تؤبد حالة الاحتلال الداخلي، ولا تسمح بأي شكل من الأشكال لأي فئة أو طبقة اجتماعية أو شريحة شعبية للتعبير عن ذاتها بحرية تامة.. فالقمع المستديم والكبت الدائم، لم يلغ أسباب الانفجار الاجتماعي والسياسي، وإنما نقل فعله وتأثيره إلى الظل، وحين ارتفعت القشرة، ما يجري في الظل برز على السطح، وأضحى هو سمة العالم العربي في اللحظة السياسية الراهنة.. فكما أن الاحتلال الأجنبي قاد في وقته، إلى بلورة مشروعات وطنية لمقاومته ومجابهته، كذلك الاحتلال الداخلي، دفع قوى المجتمع للتعبير عن ذاتها، ورفض محاولات سحق كرامتها والتعدي على حقوقها ومكتسباتها.. ولكن الفرق الجوهري على هذا الصعيد، أن الثقافة العربية امتلكت حساسية، تجاه فعل الاحتلال الأجنبي ومحاولات السيطرة والنهب، لذلك فإن المجتمعات العربية تندفع بسرعة صوب مقاومة أية محاولة للاحتلال الأجنبي للتعدي على الحقوق العربية أو الكرامة الوطنية.. ولكن لأسباب تاريخية وسياسية وثقافية، لم تتبلور بذات الدرجة في الواقع العربي حساسية تجاه عمليات الاحتلال الداخلي، الذي تقوده بعض النخب العسكرية والسياسية للقيام بما تقوم به أجهزة الاحتلال الأجنبي.. ولكن هذه المرة بسنحة عربية ومسوغات عربية وبمفردات عربية..
ولعل ما نشهده من سفك للدماء وفظاعات يندى لها جبين الإنسانية في أكثر من بلد عربي هذه الأيام، هو يعود إلى تأخر بروز ثقافة عربية تمتلك حساسية مرهفة تجاه عمليات الاستبداد السياسي الداخلي، التي هي في جوهرها عملية احتلال داخلي بكل ما تحمل كلمة الاحتلال من مضامين أيدلوجية وسياسية..
وحين بدأت بعض الشعوب العربية بالحركة للانعتاق من ربقة الاحتلال الداخلي، فإن دهاء نخب الاحتلال ومؤسساته المختلفة، دفع الأمور في المنطقة بين خيارين كلاهما مر وسيئ وخطير.. إما استمرار عملية الاحتلال الداخلي، وإن تغيرت الأدوات والوسائل والطريقة، أو دخول المجتمعات العربية في نفق الحروب الأهلية الداخلية، وانفجار كل التناقضات الأفقية والعمودية الموجودة في الفضاء العربي.. ونحن نرى أن استمرار الاحتلال الداخلي، يعني من الناحية الواقعية، استمرار العالم العربي في الانحدار والخروج من المعادلة التاريخية والدولية، ومن الصعوبة بعد كل هذه الدماء التي سفكت أن تتمكن قوى الاحتلال الداخلي من إعادة شعوبها إلى القارورة.. فالشعوب حين تكسر حاجز الخوف، فإنها تسترخص كل التضحيات في سبيل حريتها وكرامتها.. أما الخيار الآخر فإننا نعتقد أن التنوع الأفقي والعمودي الموجود في المجتمعات العربية، ليس عيبا يجب إخفاؤه، وإنما هو مصدر قوة وثراء، ويتطلب مهارة ولياقة فكرية واجتماعية وسياسية لإدارته على نحو إيجابي.. وإن سياسات الاحتلال الداخلي، هي المسئولة عن انفجار هذه التناقضات.. فلولا الاستبداد السياسي الذي يعمل على تصحير الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه..
لذلك نستطيع القول: أن العالم العربي يعيش لحظة تاريخية، تتطلب من كل القوى الحية في المجتمعات العربية الالتفات إلى النقاط التالية:
1 - تعزيز وتأسيس ثقافة عربية أصيلة، ترفض كل أشكال الاحتلال الداخلي، وتمتلك حساسية مفرطة باتجاه أدواته وطرق عمله..
2 - التعامل مع حقائق التنوع بوصفها من عناصر القوة، والتي تتطلب مبادرات وخطوات عملية لإفشال كل محاولات قوى الاحتلال الداخلي، لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء..
3 - إن الحقوق التاريخية للعالم العربي، لا يمكن الحصول عليها، إلا في ظل أوضاع سياسية واجتماعية جديدة، تنعتق من ربقة وآليات عمل قوى الاحتلال الوطني «الداخلي» وتعمل في بناء حقائق جديدة تستند على قيم التوافق العميق بين مكونات وتعبيرات الشعوب العربية، ومقتضيات الحرية والتداول وصيانة حقوق الإنسان المعنوية والمادية..
على المستوى الفلسفي ربط الفيلسوف «باسكال» بين الحقيقة والعنف. إذ اعتبر ثمة صراعا خالدا ومفتوحا بينهما. إذ لا تستطيع الحقيقة القضاء على ظاهرة العنف في الوجود الإنساني، ولا يستطيع في المقابل أيضا العنف من حجب أنوار الحقيقة. فمهما تجلت الحقائق الذي يبحث عنها الإنسان، ستبقى ظاهرة العنف، وسيمارس من أجل الدفاع عن مبدأ وأفكار وعقائد. ومهما اكتشف الإنسان خطر ممارسة العنف ومتوالياته على الإنسان والوجود، فإنه سيمارس بذات الذهنية أي الدفاع وتعميم القناعات والأفكار والعقائد. وبالتالي على حد تعبير الفلاسفة ثمة ملازمة بين ظاهرة العنف بكل مستوياتها ودرجاتها وبين الوجود الإنساني. فلم تخلو أي جماعة بشرية من استخدام العنف سواء في إطار الدفاع أو التوسعوالتعميم.
وما يستطيع أن يقوم به الإنسان أزاء ظاهرة العنف الملازمة لوجوده، هو ضبطها والتقليل من مساحة استخدامها وتربية الناس بطريقة مضادة للعنف، بحيث يصل الإنسان إلى مستوى ينبذ فيه العنف واستخدامه على المستوى النفسي والعملي. والملفت للنظر على هذا الصعيد أنه مع التقدم العلمي والتقني الهائل الذي حصل عليه الإنسان اليوم، إلا أن التقدم العلمي الهائل لم يمنع الإنسان من استخدام العنف ضمن استهدافاته البدائية والأولية، بل على العكس من ذلك. أي أن التطور العلمي والتقني اليوم استخدم لتطوير آليات ممارسة العنف في الوجود الإنساني. فالإنسان اليوم ازداد علما وتقنية واستخداما لمنجزات العصر المختلفة، وفي ذات الوقت إزداد استخداما للعنف واقترب أكثر من استخدام وسائل عنفية لم تكن معهودة من قبل، لدرجة أن وسائل العلم والاتصال الحديثة ساهمت في تعميم صور العنف وآليات استخدامه. بل لو تصفح الانسان وسائل الاتصال الحديث، سيجد صفحات ومواقع تغذي الناس لدواع واعتبارات متعددة على الدعوة إلى العنف واستخدامه للدفاع عن الذات وأفكارها، ومواقع أخرى هي لتعليم المتصفح طريقة تفخيخ السيارات وصنع القنابل واستخدام مختلف الأسلحة الثقيلة والخفيفة. والعجب في الأمر أن فاعل العنف وممارسه، يستسهل ممارسته بل يعتبره من الأفعال التي يثاب عليها الإنسان. وبفعل استسهال ممارسة العنف والتغطية الدينية للفعل العنفي أضحى الواقع الإسلامي المعاصر يعيش مفارقة صارخة وخطيرة في آن. حيث عشرات التوجيهات الإسلامية التي تحث على الرفق والاعتدال والتسامح ونبذ الشدة والغلظة وضرورة الرحمة مع الجميع. وفي مقابل هذه التوجيهات ثمة ممارسات عنفية يندى لها جبين الإنسانية تمارس بأسم الإسلام ودفاعا عن مقدساته. وكأن الإسلام دين القتل والعنف لأتفه الأسباب. وكأن تمكين الإسلام في الواقع الخارجي، لا يحتاج إلا إلى بندقية وسيارة مفخخة لإشاعة الفوضى وتعميم القتل. ولكن ما نود أن نقوله في هذا السياق أن الله سبحانه وتعالى لا يطاع من حيث يعصى، مهما كانت التبريرات ومهما كانت اليافطات المرفوعة في هذا السبيل.
فالباري عز وجل يطاع من خلال الالتزام التام بتشريعاته وتوجيهاته، ولا يمكن أن يطاع بسفك الدم وقتل الأبرياء وتدمير أسواق المسلمين ومصادر رزقهم. فالله سبحانه وتعالى لا يطاع بقتل الأطفال والنساء، ولا يطاع بالإعدامات العشوائية التي نشاهد بعضها على اليوتيوب وشبكات التواصل الاجتماعي.
إن ما يجري اليوم من عمليات قتل وتفجير باسم الجهاد والدفاع عن المقدسات، هو ذاته مناقض بشكل تام لتوجيهات الإسلام وثوابته.
ونظرة بسيطة لأداب وأخلاقيات الحروب في الإسلام، سنكتشف أن ما يجري هو مناقض لأداب وتوجيهات وأخلاقيات الإسلام.
ويبدو أن الإنسان هو الكائن الوحيد على وجه هذه البسيطة الذي يقتل من أجل أفكاره ومنظومته العقدية والاجتماعية.
وهذا يعكس عجز هذا الإنسان عن إقناع الآخرين بأفكاره وقناعاته، فيلجأ إلى القتل والتدمير، وكأن هذا القتل والتدمير سيمكنه من الوصول إلى أهدافه.
وتعلمنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة إن الوصول إلى الغاية بالظلم والتعدي على الحقوق والكرامات لن يدوم مهما طال الزمن. فالتمكن من الآخرين بالقتل والتفجير والإرهاب قد يطول إلا أنه لا يدوم مهما كانت الظروف والأحوال.
وتؤكد لنا جميع التجارب العنفية أنها إما مرتبطة بشكل مباشر بجهات إقليمية ودولية لها مصلحة مباشرة وأكيدة في تمزيق دول وشعوب المنطقة، أو تخدم مصالح أعداء الأمة بطريقة غير مباشرة. لأن جماعات العنف تساهم بشكل أساسي في تمزيق نسيج الأمة ومجتمعات المنطقة، وتظهر للجميع صراع المسلمين مع بعضهم البعض، وهذا ما يريده أعداء الأمة لتمرير مشروعاتهم وأجندتهم الاستراتيجية والسياسية التي تستهدف إضعاف الأمة لأدنى الحدود ومن ثم إخضاعها لشروطها المجحفة التي تستهدف ثرواتها وقدراتها راهنا ومستقبلا.
فما يجري في المنطقة اليوم من انقسامات طائفية حادة واقتتال مذهبي وأهلي في أكثر من بلد وتقسيم ممنهج لبعض الدول والشعوب، ليس بعيدا عن إرادة الأجنبي ومصالحة العليا. فلحظة الانهيار التي تعيشها المنطقة وبفعل خيارات سياسية وفكرية صنعها أبناء المنطقة ويتم تغذيتها والاستفادة منها من قبل أعداء الأمة، عمل من أجلها الأجنبي منذ سنوات طويلة، ولكن كان وعي الأمة ووحدتها الداخلية هو الذي يفشل هذه المخططات. ولكن للأسف الشديد ومع تضخيم المشكلة الطائفية وتغذيتها من قبل جميع الأطراف بعضهم بوعي وإدراك والبعض الآخر بدون وعي وإدراك، أضحى الاهتراء الداخلي في جسم الأمة حقيقيا وأضحت يد الأجنبي هي الأعلى في التحكم في مسار الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة.
وبفعل هذا التداخل والتشابك بين جماعات العنف وبعض الأطراف الإقليمية والدولية، أضحت هذه الجماعات هي عنوان حروب العرب الداخلية، التي تستهدف نسيج العرب الداخلي وتدمير إمكانية تجاوز عثرات الطريق في مشروع البناء والتنمية العربية.
حين التأمل في طبيعة الأحداث والتحولات التي تجري في المنطقة اليوم، ندرك أن المنطقة بأوضاعها الداخلية والتطورات الإقليميةوالدولية، دخلت في مرحلة جديدة. حيث اجتازت دول المنطقة اليوم مرحلة سعي القوى السياسية سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، من مرحلة العمل على تفكيك الأنظمة السياسية، وإحلال قوى سياسية جديدة محلها، إلى مرحلة العمل على تفجير المجتمعات العربية من الداخل، مستفيدة من طبيعة التناقضات والتباينات الموجودة في المجتمعات العربية.
بمعنى أن اللحظة الراهنة التي تعيشها المنطقة، هي لحظة انفجارالهويات الفرعية سواء كانت دينية أو مذهبية أو قبلية أو مناطقية، وسعي أطراف كل هذه الهويات الفرعية على التعريف بذاتها انطلاقامن انتماءها الفرعي.
فأضحى الإنسان المسلم السني، يعرف نفسه بوصفه سنيا، وذات العمل يقوم به المسلم الشيعي، وهذا ما يجري في مختلف دوائر الانتماء الفرعي المتوفرة في المجتمعات العربية.
ولا ريب أن هذه العملية المشحونة بأدبيات الهويات الفرعية، لها تأثيرات حقيقية على كل النسيج الاجتماعي العربي. فالدول التي كانت تعيش الوحدة والاستقرار وتتعامل مع مواطنيها بوصفهم مواطنين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم ومناطقهم، أضحى الجميع يفكر بدائرته القريبة، ويرى أن هذه الدائرة القريبة لها كامل الحق في التعبير عن ذاتها كما تشاء، وأنها تستحق موقعا في الخريطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ليس على قاعدة إثراء الحياة الوطنية والاجتماعية، وإنما على قاعدة زحزحة بعض الدوائر الاجتماعية المنافسة، لصالح انتماءي الخاص.
ونحن هنا لا نقول أن هذه المسألة، أصابت دائرة انتماء محددة، دون بقية الدوائر، وإنما هي أصابت الجميع، وكل الدوائر وفق عناصر قوتها الذاتية عبرت عن أهدافها وغاياتها، فالجميع أضحى يبحث عن خلاص فردي لجماعته الخاصة، وضاعت في معمعة هذا الجدل الصاخب كل عوامل الاستقرار وأسباب حماية النسيج الاجتماعي من كل عمليات التآكل الطارئة والتي زحفت على كل الدوائر.
ولا ريب أن أول ضحية لهذا التفكير والممارسة العملية، هو وحدة المجتمعات والأوطان. فبدل أن تفكر هذه المجتمعات في وحدتها الداخلية، أضحت مهددة بانفجار هوياتها الفرعية وتهديد وجودها واستقرارها الاجتماعي والسياسي.
ولعل بروز الصراعات الطائفية التي تجتاح المنطقة اليوم، هو أهم تجليات المشروع الجديد الذي يستهدف تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وتحويل كل الهويات الفرعية فيها، إلى عامل لهدم استقرارهاووحدتها الداخلية.
ولو تأملنا في حال بعض المجتمعات العربية التي تعيش الفوضى وحالة الاحتراب الداخلي أو الأهلي الذي يسفك الدماء فيها، ويتم تفجير وتدمير بنيتها التحتية والأساسية هو من جراء تحريك ملف الانتماءات الفرعية، وتحويلها من انتماءات طبيعية ينبغي أن تحترم وتقدر، إلى انتماءات تعبر عن ذاتها وفق النسق السياسي والعسكري الذي يبحث عن مصالح هذه الدوائر دون الدائرة الأوسع، وبدل نسج علاقات الشراكة والتضامن الداخلي بين مختلف المكونات والتعبيرات، تم تفجير هذه الخلافات والتناقضات، وأضحت غالبية دول المنطقة تعاني في وحدتها واستمرارها كدولة واحدة ومجتمع واحد يحتضن كل هذه التعدديات والتنوعات.
وأزاء هذا المشروع الخطير، والذي بدأ من الناحية العملية بتهديد كل دول العالم العربي عبر تفجيرها من الداخل، بحيث يكون لكل هوية فرعية دولة وكيان مستقل، يعيش حالة من العداوة والخصومة مع الكيانات الاجتماعية الأخرى التي تشكلت وفق هذا المنوال.
نقول أن أزاء هذا المشروع، ثمة ضرورة عربية للتفكير في مخاطر هذا المشروع، والسعي لبناء رؤية ومشروع عربي قادر على معالجة المشاكل الطائفية والمذهبية والعنصرية والجهوية على قاعدة استمرار الوحدة وصيانة المنجز التاريخي.
وهذا بطبيعة الحال يتأتى من خلال النقاط التالية:
1 لعل غالبية الدول العربية ارتكبت خطئا تاريخيا بحق نفسها وبحق الواقع العربي المتنوع والمتعدد. وذلك بسبب تعاملها مع حقائق التنوع الديني والمذهبي المتوفرة في الوقع العربي بعقلية النبذ والاستئصال والطرد من مساحة الوطن الذي يحتضن الجميع. لذلك فإننا نعتقد أن غالبية الدول العربية المعاصرة لأسباب عديدة في أغلبها ذاتية، لم تتمكن من التعامل مع حقائق تنوعها الاجتماعي، بعقلية حضارية، قادرة على استيعاب كل هذه التعدديات ودمجها في متحد وطني جديد.
وبفعل هذه النزعة الاستئصالية التي تحكمت في العديد من أجهزة الدولة في التعامل مع تعددياتها، برزت المشكلة الطائفية بمستويات متفاوتة في أغلب الدول العربية، وما نعيشه اليوم هو نتاج طبيعي لكل عمليات الطرد والاستئصال الذي مارسته أجهزة الدول العربية مع حقائق تنوعها بكل مستوياته.
لذلك فإن الخطوة الأولى لإصلاح هذه الأوضاع، هو بناء رؤية عربية جديدة في طريقة التعامل مع حقائق التعدد والتنوع الموجودة في العالم العربي.
وهذه الرؤية الجديدة ينبغي أن تبنى على استبدال سياسات الطرد والاستئصال بسياسات الاستيعاب والمساواة والمشاركة.
وإن حقائق التنوع ليست عيبا يجب إخفاؤه من النسيج الاجتماعي والسياسي. كما أن هذه الرؤية الجديدة ينبغي أن تعمل على تظهير البعد الوطني الذي يجمع الجميع ويحتضنهم ويدافع عن مصالحهم ومكاسبهم.
أحسب أن هذه العناصر الأساسية، هي القادرة على تحويل حقائق التنوع والتعدد من مصدر للقلق السياسي إلى مصدر للاستقرارالاجتماعي والسياسي. فسياسات الاستيعاب والشراكة والمواطنة الواحدة والمتساوية في آن، هي القادرة على حماية الوحدة وتعزيز أسباب الاستقرار وإفشال مشروع تفجير المجتمعات العربية من الداخل.
2 حينما تتحول بعض الدول العربية إلى طرف في الصراعات المحلية، فإن هذه الدولة ستتحول من مصدر للوحدة وضمان مصالح الجميع، إلى مؤسسة كبيرة ترعى انقسام المجتمع الواحد ودخوله في حالة من الفوضى الاجتماعية والسياسية.
لذلك فإننا نعتقد أن تطوير بنية الدولة العربية المعاصرة، بحيث تكون دولة لجميع المواطنين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم وقومياتهم، هو الحل الأمثل الذي يخرج العالم العربي من وقائع التشظي الذي بدأت بالبروز في أكثر من دولة ومجتمع.
3 حينما يغيب المشروع الوطني الجامع والمحتضن لكل حقائق التنوع والتعدد، تبرز الانتماءات الفرعية بنزعتها الاستقلالية والانفصالية.
لذلك في كل دولنا العربية، تحتاج اليوم إلى مشروع وطني متكامل وشامل، وقادر على استيعاب كل حقائق التنوع وإشراكها في الإطار الوطني بدون أية نزعة تعمل على استخدام الغطاء الوطني للانتصارلانتماء على حساب بقية الانتماءات.
فليس جديدا حينما نقول أن مجتمعاتنا متنوعة ومتعددة وفي ذات الوقت نحن نطمح إلى الوحدة وبناء أوطان قوية وصلبة.
أمام هذه الغاية النبيلة ثمة ضرورة لاحترام كل هذه التنوعات عبر مشروع وطني يستوعب الجميع ويحترمهم وتصان خصوصياتهم بالقانون. والأوطان الصلبة لا تبنى إلا بالوحدة المبنية عل احترام التنوع، وبإشراك جميع أبناء الوطن في الحياة العامة.
وخلاصة القول: إننا نتمكن كدول عربية من إفشال مشروع تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وذلك عبر تغيير إستراتيجية التعامل مع حقائق التنوع الديني والمذهبي الموجودة في الفضاء العربي. بحيث يتم التعامل على قاعدة الاحترام والشراكة الوطنية، التي لا تميز أو تفرق بين انتماء وآخر في الدائرة الوطنية.
عبر هذه الاستراتيجية نحافظ على مكاسبنا التاريخية، ونتمكن من هزيمة مشروعات كسرنا من الداخل عبر تفجير تناقضاتنا الداخلية.
لعلنا لا نضيف إلى علم القارئ حينما نقول أن الدولة كمؤسسة هيمن منجزات الانسان عبر التاريخ، بو صفها من الضرورات السياسية والاجتماعية التي تعنى بانتظام حياة ومصالح الجميع في إطار بقعة جغرافية محددة. فالدولة هي المؤسسة الأم التي تعني بتنظيم مصالح الناس ومعاشهم، ولولا هذه المؤسسة الأم، لضاعت الكثير من الحقوق، ولدخل الناس بفعل تضاد وتناقص مصالحهم في صدام قد لا ينتهي. فالدولة هي المؤسسة الكبرى التي تنظم مصالح الناس، وهي القادرة وحدها على فض الاشتباك بين الناس حينما تتعارض مصالحهم. والدولة كممارسة وسلوك بحاجة باستمرار إلى إصلاح وتطوير.
ولعل من المشكلات الكبرى التي برزت مع موجة ماسميت بالربيع العربي، هو وجود إرادة دولية عبرت عنها بعض الدول الكبرى مفادها إسقاط وتدمير بعض الدول في العالم العربي المعاصر. فتغير النظام السياسي في العراق في زمن صدام حسين، أضحى ضرورة وطنية وقومية في آن. فمن مصلحة غالبية الشعب العراقي تغيير نظامه السياسي، كما أن من مصلحة الكثير من الدول العربية الأخرى تغيير النظام السياسي في العراق، الذي خرق الكثير من الحرمات في الدائرة العربية.
ولكن الحاجة إلى تغيير النظام السياسي، لا يعني بأي شكل من الأشكال تدمير الدولة العراقية وإسقاط كل أسباب وعوامل وجودها.
ولعل من اكبر الأخطاء الكبرى التي تعد خطيئة تاريخية وإستراتيجية كبرى التي ارتكبها الإدارة الأمريكية في الملف العراقي، هو سعي الأمريكي لأغراض تتجاوز المصلحة العراقية ومرتبطة بشكل مباشر بالرؤية الأمريكية الاستراتيجية للعراق بعد نظام صدام حسين. وقد تجسد هذا الغرض في تدمير الدولة العراقية وتسريح الجيش العراقي وإسقاط كل المؤسسات والدوائر التي تعكس وجود دولة مركزية واحدة للعراق بكل تنوعه وتعدد أطياف شعبه. فالإدارة الأمريكية لم تكتف بإسقاط النظام السياسي في العراق، وإنما استفادت من الغطاء لتدمير الدولة العراقية. بحيث برزت كل تناقضات الشعب العراقي مع غياب وتدمير تام للدولة القادرة على ضبط الجميع وصيانة مصالح الجميع. ولعل الكثير من التداعيات السلبية التي برزت في الساحة العراقية تعود في اغلبها إلى الخطوة الأمريكية الخطيرة التي أقدمت عليها بتدمير الدولة العراقية في ظل شبه غياب لأية إدارة عراقية رافضة إلى هذه الخطوة.
وللأسف الشديد تجربة العراق، تكررت في التجربة الليبية، مما جعل كل التناقضات في الشعب الليبي تبرز على شكل صراعات مناطقية وجهوية وقبائلية.
وأمام هذه التجارب الخطيرة على امن المجتمعات واستقرارها العميق من الضروري بيان النقاط التالية:
1 - من الضرورة التفريق بين السلطة والدولة وان السعي إلى إصلاح أوضاع السلطة السياسية ينبغي إن لا يقود أي احد إلى القبول بتدمير الدولة. فالسلطة تعالج أمراضها ومشاكلها، وتطور هياكلها ومؤسساتها، ولكن مهما كانت سيئات السلطة، ينبغي أن تحذر كل الشعوب العربية من سعي بعض الأطراف الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لإشاعة الفوضى وإعادة بناء الدولة بمقاييس الهويات الفرعية الموجودة في هذه المجتمع أو ذاك. ولعل بعض مؤشرات هذه الرغبة الإدارية الأمريكية بدأت بالبروز في الملف السوري.
نحن نعتبر الدولة كمؤسسات وهياكل هي من منجزات الشعوب العربية المعاصرة، ومهما كانت الإخفاقات السياسية، فإنها لاتبرر أي سعي لتدمير مؤسسة الدولة. لأن تدمير مؤسسة الدولة سيدخل جميع الهويات الفرعية في أتون التنافس الصارخ بدون وجود أي مؤسسة عليا قادرة على ضبط هذه الصراعات أو التناقضات. فحماية مؤسسة الدولة من الضرورات الوطنية والقومية في كل المناطق العربية. وانه مهما كانت التناقضات بين قوى المعارضة في أية دولة عربية وبين السلطات السياسية، فان هذه التناقضات لا تعالج بتدمير الدولة. ولنا في التجربة العراقية ولليبية خير مثال. فحينما تم تدمير الدولة كمؤسسات عليا، دخلت شعوب هذه الدولة في تناقضات وصراعات لن تنتهي إلا بإعادة بناء الدولة بشكل صحيح وسريع في آن.
2 - إن طموح الشعوب العربية في الإصلاح والتغيير واستبدال النخب السياسية، لايبرر لأية قوة عربية استدعائها للأطراف الدولية لتدمير الدولة المركزية في هذه البقعة العربية أو تلك. وان الشوق التاريخي إلى الإصلاح، لايترجم بتدمير الدولة. لان تدمير مؤسسات الدولة يعني تنمية كل الفوارق النوعية والكمية بين تعبيرات الشعب المختلفة. وتدمير إلى الجزء الأساسي من التاريخ المعاصر لهذه الشعوب والمجتمعات العربية.
فمهما كانت سيئات السلطات، إلا أن هذه السيئات لاتبرر تدمير الدولة. فلنحافظ جميعا على دولنا. ولدولة كمؤسسة بأخطائها افصلبكثير على المستويات السياسية والاجتماعية من اللا دولة. لان اللا دولة يعني الفوضى التامة مع وجود تنافسات وصراعات حقيقية بين تعبيرات ومكونات المجتمع وا لوطن الواحد.
وخلاصة القول: انه لا مبررات سياسية وقانونية وإستراتيجية لتدمير الدولة في أي بقعة جغرافية من العالم العربي. وان السماح بتدمير الدولة، يعني السماح بتدمير كل أسس العيش المشترك وانتظام مصالح الجميع.
لهذا كله تعالوا نحافظ على دولنا ونسعى إلى إصلاح أوضاعنا السياسية بعيدا عن نزعات إسقاط الدول وتدمير الجيوش والمؤسسات الكبرى التي تنظم معاش ومصالح الجميع.
لو تأملنا في مآل الأحداث والتطورات التي تجري في المنطقة العربية على أكثر من صعيد، لوصلنا إلى قناعة عميقة مفادها: أن هذه الأحداث تتجه صوب إسقاط مفهوم وواقع الدولة في المنطقة العربية، لصالح إمارات أو ولايات لا تتعدى إدارة للأوضاع المحلية، بحيث تتحول كل مدينة في المنطقة العربية إلى ولاية قائمة بذاتها، لها علمها الخاص وجيشها وحكومتها.
مما يعني الترحم على مرحلة سايكس بيكو، والدخول في مرحلة تجزئة المجزء وتأسيس حكومات وأنظمة سياسية على مقاس الانتماءات الدينية والمذهبية والقبلية المنتشرة في ربوع العالم العربي.
وتباشير هذه المرحلة بدأت في الرقة ودير الزور والموصل والعمل المتواصل لتعميم هذه النماذج الكارثية على المنطقة العربية.
من هنا فإن المعطيات السياسية القائمة اليوم في المنطقة العربية، تتجه صوب [اللادولة] وهي حالة إذا تعممت في العالم العربي، فإن هذا يعني دخول العرب جميعا في متاهة طويلة، ستمارس فيها كل أشكال الفوضى والقتل على الهوية وضياع الحقوق بكل مستوياتها.
وعليه فإننا ندرك أخطاء وخطايا الكثير من الدول في المنطقة العربية، ونعتبر أن بعض خيارات وسياسات هذه الدول هي التي أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه.
ولكن البديل الذي تتجه إليه الأحداث والتطورات أكثر خطرا وكارثية على الواقع العربي من وجود دول تحافظ في المجمل على النظام العام وتحول دون الاقتتال الأهلي.
فالدول مهما كانت إرتكاباتها وأخطاؤها وسيئاتها، إلا أنها أفضل بكثير من مرحلة [اللادولة] حيث تعم الفوضى وتسري كل أشكال النهب والتعدي على الحقوق.
من هنا فإننا نرى أن الراهن العربي في أغلب دوله ومناطقه يتجه صوب: إما مرحلة بقاء الدولة القائمة بكل أخطاءها وسيئاتها أو مرحلة [اللادولة] حيث تتشكل ولايات وإدارات محلية على مقاس الانتماءات المذهبية والقبلية والدينية.
ومن المؤكد أن تعميم نموذج [اللادولة] يساوي تغييب دائم للعرب على كل المستويات الإقليمية والدولية، وانتصار تاريخي للمشروع الصهيوني في المنطقة ودخول العرب في مرحلة من المطالبة بإصلاح دولهم وخياراتها السياسية والاقتصادية إلى مرحلة بقاء الدول ووظائفها الأولية.
وإزاء هذه التطورات الخطيرة التي تشهدها العديد من الدول، حيث تحولت من دولة واحدة إلى مجموعة دويلات متحاربة مع بعضها البعض بدون أي أفق للحل والمصالحة من الضروري التأكيد على النقاط التالية:
1 إننا ندرك أهمية وجود مؤسسة الدولة كناظم أساسي لكل الأمم والشعوب ونعتبر أن غياب مؤسسة الدولة، يعني على المستوى العملي الوقوع في براثن الفوضى والاقتتال الداخلي.
ولكن صمود هذه الدولة أمام تطورات المرحلة وتداعياتها الخطيرة، يتطلب من القائمين على أمر الدول في كل المنطقة العربية إلى إصلاح وتطوير بعض أمورها، حتى لا يكون الطريق الوحيد أمام بعض العرب [وهو طريق غير مبرر على كل حال] هو إسقاط الدولة وبناء أوضاع سياسية واجتماعية على مقاس المذهب والقبائل والعشائر.
ومن الضروري في هذا السياق أن تدرك جميع النخب والفعاليات، أنه مهما كان سوء الدولة وخياراتها، إلا أنها أفضل من مرحلة تشظي الدولة وإنهاء وجودها كناظم ومحافظ على المصالح العامة.
ولو تأملنا في أحوال الناس والشعوب الذين عاشوا مرحلة غياب الدولة وانخرطوا في مرحلة الفوضى وتعدد الرايات والمجاميع المسلحة التي تدير مدنا وأحياءا لاتضحت بعمق حقيقة مانصبوا إليه.. فلو كان الخيار دولة جائرة وبها عيوب الدنيا إلا أنها تحافظ على الحدود الدنيا للنظام العام ومصالح الناس، وبين تغييب الدولة وكل مكون أو تعبير يدير نفسه بنفسه، فإننا لا شك نفضل الخيار الأول، لأنه في الحدود الدنيا يحول دون الفوضى وانتشارها.
من هنا فإننا ندعو كل القوى الأهلية التي تحارب حكوماتها وأنظمتها السياسية إلى ضرورة الالتفات إلى طبيعة المخطط الذي يستهدف المنطقة، حيث تدمير الجيوش العربية وتخريب البنية التحتية للدول والمجتمعات وتغذية مستمرة للإحن المذهبية والقبلية والجهوية،
مما يفضي على المستوى العملي إلى انهيار الدولة في المنطقة العربية.
فنحن مع إصلاح الأوضاع السياسية في كل دول المنطقة العربية، ولكننا لسنا مع تدمير الدول وتخريب عناصر القوة والاستقرار فيها وفي مجتمعاتنا. لذلك ثمة ضرورة للحفاظ على الدولة لوقف الانحدار وللحؤول دون التشظي الدائم في المنطقة العربية.
2 بعيدا عن أحن التاريخ وصعوبات الراهن ومأزقه والتباساته، ثمة حاجة تاريخية في المنطقة العربية والإسلامية لصياغة تفاهم جديد بينالسنة والشيعة في المنطقة العربية، يستهدف هذا التفاهم إنهاء حالة الاحتراب القائمة في أكثر من بلد عربي، وإرساء قواعد وأسس ومبادئ لعلاقة تفاهم جديدة تجنب المنطقة بأسرها احتمالات الحروب المذهبية المتنقلة والتي لا رابح منها سوى أعداء الأمة المتربصين براهنها ومستقبلها.
لأن بقاء حالة الانقسام الحاد والاحتراب المستمر، سيجعل المنطقة بأسرها مكشوفة أمنيا وسياسيا، وهذا الانكشاف لن يخدم إلا أعداء الأمة.
وندرك سلفا أن كل طرف يحمل الطرف الآخر أخطاء وخطايا الراهن، ولكن من الضروري أن يدرك الجميع: أن السنة والشيعة في المنطقة العربية محكومون بالتفاهم مهما كانت الصعوبات والمشاكل. لأن الخيار الآخر المتاح إذا غابت حقائق التفاهم هو انقسام المنطقة أفقيا وعموديا ودخولها في مرحلة انعدام الوزن من جراء حالة التوترات المذهبية المفتوحة على كل الاحتمالات.
فكما تمكن الأوروبيون من تجنيب منطقتهم ويلات الحروب باتفاق وتفاهم [وستفاليا] نحن اليوم أحوج ما نكون إلى تفاهم سني شيعي يجنب المنطقة بأسرها ويلات الحروب المذهبية.
3 ويبقى الخيار الأسلم للجميع، هو خيار المصالحة بين الدولةوالمجتمع في المنطقة العربية، بحيث تنصت الدولة إلى حاجات ومتطلبات المجتمع وتعمل على تلبيتها وفق إمكاناتها وقدراتها.
وهذا الخيار بمتوالياته السياسية والاجتماعية، سيجنب المنطقة الكثير من المخاطر، كما أنه سيجدد في شرعية النظام السياسي ويوسع من قاعدته الاجتماعية وسيفك وينفس حالة الاحتقان التي قد تكون سائدة في بعض دوائر المجتمع..
ومادمنا نتحدث عن مصالحة، فإننا نتحدث عن ضرورة التسوية السياسية بين الطرفين، بحيث يتم التنازل المتبادل، من أجل إخراج المنطقة من احتمالات السقوط في مهاوي العنف الأعمى.. وخلاصة القول: أن المنطقة العربية لعوامل ذاتية وأخرى دولية، تتعرض إلى مشروع خطير يستهدف تفجير المجتمعات العربية من الداخل، وإسقاط دولها وتأسيس أمارات ودويلات غير قابلة للحياة إلا بتعميم لغة القتل وحقائق العنف العبثي. وإن ملامح هذا المشروع بدأت بالبروز في العراق وسوريا، لذلك ثمة حاجة عربية عميقة لليقظة والوقوف في وجه هذا المخطط والمشروع الذي لو تحقق سيجعل الجميع يترحم على لحظة سايكس بيكو. لذلك فإن دعوتنا الصريحة للعرب جميعا أن حافظوا على دولكم الوطنية، وامنعوا إسقاطها وانهيارها.. فمهما كانت سيئات هذه الدول، إلا أنها أفضل من لحظات اللادولة حيث يتم تعميم الفوضى والقتل.