دول الخليج العربي والمتغيرات الإقليمية مقاربات متعددة وأولويات مختلفة
تهدف الدراسة إلى رصد أهم المتغيرات الإقليمية المؤثرة في مسيرة دول الخليج العربي على مختلف الصعد والمستويات.
وإلى أي حد قادرة دول المنطقة، على تحويل هذه التحديات والمستجدة إلى روافع تخدم وتعزز أمن واستقرار دول المنطقة. وهل ثمة مقاربة أو رؤية خليجية مشتركة في التعامل مع هذه المتغيرات وانعكاساتها الأمنية والسياسية والاقتصادية والإستراتيجية على راهن الخليج ومستقبله.
وإذا كانت هناك تفاوتات في المقاربات الخليجية تجاه هذه التحولات الإقليمية، هل تحول هذه التفاوتات دون قدرة دول الخليج على التعامل الفعال مع متغيرات الإقليم.
هذه الأسئلة وغيرها، هي ما تحاول هذه الدراسة أن تجيب عليها، في سياق قناعة مركزية تنطلق منها هذه الدراسة ومفادها: أن المنطقة بأسرها على أكثر من مستوى، تعيش حالة من السيولة السياسية، بمعنى لحظة عبور من نظام إقليمي سابق، بدأت تتآكل بعض مكوناته ومفرداته، وبرزت قوى جديدة تمتلك الفاعلية والدينامية في التأثير الإقليمي. وإن هذه اللحظة بكل تداعياتها ستؤثر بشكل مباشر على دول الخليج أمنا وسياسة واقتصادا.
في أروقة دول الخليج السياسية والدبلوماسية والإعلامية، هناك هموما كبرى متعلقة بالإقليم وأحداث المنطقة العربية.. تأخذ هذه الهموم حيزا أساسيا من النقاش والحوار والاهتمام.. ولعل من أبرز هذه الهموم والأحداث والتطورات، التي تلقى اهتماما دائما في الساحة الخليجية، هي الحدث السوري وأحداث العراق وتطوراته الداخلية، ومدى استقراره السياسي الداخلي، وكيف يتمكن العراقيون من المحافظة على وحدتهم الوطنية. والاهتمام الآخر هو تطور الملف النووي الإيراني وجدية التفاهم والتقارب الأمريكي - الإيراني وانعكاساته الأمنية والسياسية على منطقة الخليج العربي..
وليس سرا في هذا الصدد القول: أن دول منطقة الخليج العربي، ليسوا على رأي وموقف سياسي واحد تجاه هذه الهموم..
فثمة مقاربات خليجية مختلفة ومتعددة إزاء الملف العراقي والملف الإيراني.. وثمة تفاوت أيضا في مستوى علاقة دول الخليج بكل من العراق وإيران..
وهذا التفاوت والذي يصل في بعض الأحيان إلى التباين في قراءة تطورات الملف العراقي ومتغيرات الملف الإيراني وتداعياتهما على المنطقة، يحول على المستوى السياسي والميداني، دون بناء سياسة خليجية موحدة تجاه هذه التطورات والتحولات.. إلا أن القاسم المشترك بين جميع المقاربات الخليجية هو اشتراكها في القلق من أن تتطور هذه الأحداث والتحولات سواء في العراق أو إيران، مما يغير في معادلات علاقات دول الخليج الإقليمية والدولية.. كما أن جميع هذه الدول تشعر بالقلق العميق من انعكاسات تطورات المشهد العراقي والتقارب الأمريكي - الإيراني، على ملفات خليجية داخلية حساسة ذات طابع أمني وسياسي يتعلق بالتركيبة السياسية وخيارات الحكومات الخليجية الداخلية. كما إن الموقف الخليجي من الملف السوري ليس متطابقا، سواء في مستوى الاهتمام وطبيعة الدعم، أو طبيعة التحالفات التي تنسجها دول الخليج مع قوى المعارضة. إضافة إلى الموقف العماني الذي لم ينخرط بشكل مباشر في الملف السوري، وعبر عن مواقف اقرب إلى الحيادية منها إلى دعم طرف محدد في الأزمة السورية. كما انه ثمة خلاف وتباين في الخيارات السياسية في التعامل مع ظاهرة الربيع العربي. فدولة قطر تقاطعت مع القوى الجديدة، ودفعت باتجاه تزخيم ظاهرة الربيع العربي إعلاميا وسياسيا، وفي مقابلها دول الخليج الأخرى وبتفاوت أيضا نظرت إلى الربيع العربي والقوى السياسية الجديدة نظرة حذر وريبة، بل بعض هذه الدول ساهمت بشكل مباشر في كل الخطط والمشروعات التي كانت تستهدف تصفية الربيع العربي.
لعل الحدث السوري من الأحداث السياسية والشعبية القليلة التي ينسجم فيها الموقف الخليجي الرسمي مع غالبية الموقف الشعبي - الخليجي.. حيث تحولت منطقة الخليج إعلاميا وسياسيا وبشريا وماليا ودبلوماسيا إلى داعم أساسي للثورة السورية.. لذلك أضحت غالبية دول الخليج، جزءا أساسيا من الثورة السورية، وهي التي نقلت المعارضة السياسية السورية إلى أروقة الدبلوماسية الإقليمية والدولية..
وعلى كل حال ما نود أن نقوله في هذا السياق، هو أنه من حق أي شعب أن ينال حريته ويطالب بإصلاح أوضاعه وتغيير نظام الحكم فيه.. ولكن في السياق السوري، ثمة موضوع آخر دخل خط مطالبة الشعب السوري بالحرية والإصلاح والتغيير وعقّد الأزمة السورية.. وهو ملف التدخلات الإقليمية والدولية المباشرة سواء مع طرف النظام أو مع طرف المعارضة.. بحيث أضحت الأزمة السورية ملف معقد ومركب من جميع الجهات. والشعب السوري بوحده هو من يدفع فاتورة هذه التدخلات ومشروعاته السياسية المختلفة..
وفي منظورنا أيضا أن الضحية الأولى في المنطقة العربية للربيع العربي هو مشروع العنف والتطرف والجماعات الإسلامية الراديكالية التي تتبنى خيار التطرف والعنف.. ولكن تطييف الحدث السوري وتعبئة الشعوب العربية وكأن الصراع في سوريا هو صراع طائفي ومحورين طائفيين، كل هذا أعاد الحياة والاعتبار إلى المشروع العنفي - التكفيري في المنطقة..
وأحسب أن دول الخليج العربي قد تعاني أمنيا واجتماعيا وسياسيا من ظاهرة «العائدون من سوريا»، كما عانت سابقا من ظاهرة العائدين من أفغانستان والشيشان والبوسنة، الخ.
لذلك هناك ضرورة أمنية وسياسية خليجية للوقوف ضد حملات التعبئة الطائفية وتجييش الشباب بشكل أو بآخر للقتال في سوريا.. فالشعب السوري بوحده قادر على حسم معركته ونيل مطالبه بعيدا عن مجموعات العنف والقتل التي ساهمت في تشويه الثورة السورية وإدخالها في دهاليز مظلمة على أكثر من صعيد..
وبعد ثلاث سنوات من عمر الثورة السورية، ودخولها ميدانيا في مرحلة ما يمكن تسميته ب «التكافؤ الميداني»، بمعنى أثبتت تجربة الثلاث سنوات الماضية أن النظام في سوريا غير قادر على كسر وإنهاء المعارضة السورية.. كما أن المعارضة المسلحة السورية بكل فصائلها غير قادرة على كسر وإنهاء النظام في سوريا.. وإن الحروب والمواجهات الموضعية التي تجري في أكثر من محافظة سورية لن تحسم الحرب والصراع في سوريا.. وأحداث القرم تؤكد أن الغرب ليس في وارد الدخول المباشر في سوريا وتغيير المعادلة كما فعل في العراق.
وانطلاقا من هذه الحقيقة الميدانية - السياسية أود بيان النقاط التالية:
1 - أضحت الحرب والمواجهة السورية المفتوحة أقرب ما تكون إلى أفق تدمير سوريا في بنيتها التحتية ونسيجها الاجتماعي.. فالمعارك التي تجري اليوم، لا تسقط النظام السياسي، وإنما تدمر الدولة السورية وبنية الحياة في سوريا.. ولذلك فإن استمرار هذه المواجهات هو المزيد من الإنهاك للطرفين، دون قدرة أحدهما على حسم وإنهاء المعركة.. والمحصلة الفعلية لذلك تدمير سوريا وإدخالها في مرحلة أنها دولة فاشلة في كل شيء وغير قادرة على الحياة.. ولا ريب أن وصول الأوضاع في سوريا إلى هذا المستوى يعد تهديدا مباشرا سياسيا واستراتيجيا إلى أمن واستقرار الخليج..
2 - لكون عدم توفر القدرة على الحسم، فالمصلحة الوطنية السورية والمصلحة القومية العربية تقتضي العمل على صياغة مشروع سياسي متكامل للمصالحة العادلة في سوريا. فلم تعد المنطقة بأسرها أمنيا واستراتيجيا تحتمل استمرار النزف والتدمير في سوريا.. ولا خيار حقيقي وفعال لدينا في منطقة الخليج للحفاظ على أمننا ومنع الارتدادات السلبية والخطيرة علينا من جراء تداعيات الملف السوري، إلا بتبني مشروع خليجي يدفع بمشروع المصالحة السورية إلى الأمام..
صحيح أن مشروع المصالحة السياسية العادلة، قد لا يرضي النظام في سوريا، كما أنه لن يرضي المعارضة أيضا، إلا أن أفق الأحداث والتطورات في سوريا تفرض خيار المصالحة والبحث عن حلول سياسية جادة لإنهاء مشروع تدمير سوريا..
3 - ندرك سلفا أن طريق الحل السياسي والمصالحة الوطنية العادلة، لن يكون الطريق أمامه معبدا وسالكا، ولكنه الخيار الوحيد المتاح والممكن مهما كانت صعوباته وعقباته.. والسير في هذا الطريق، يتطلب شجاعة سياسية فائقة للوقوف بوجه إرادات كثيرة داخلية - من الطرفين في سوريا - وإقليمية ودولية، وكلها إرادات إما تبحث عن نصر كاسح لأحد الطرفين، أو لديها مصلحة لأغراض إستراتيجية بعيدة المدى لتدمير سوريا وإخراجها من المعادلة الإقليمية، وتحويلها إلى عبء سياسي وأمني واستراتيجي على المنطقة بأسرها..
4 - ثمة مصلحة خليجية على كل المستويات، لإيقاف عمليات التحشيد والتعبئة الطائفية والسماح للمقاتلين بالذهاب إلى سوريا.. لأن هذه الأمور لها ارتدادات مباشرة وغير مباشرة على أمن واستقرار منطقة الخليج..
وخلاصة القول: إن استمرار المواجهة المسلحة في سوريا بأفق تدمير سوريا وبنيتها التحتية، يعد من المخاطر الكبرى على أمن المنطقة واستقرارها.. والضرورة تقتضي من دول المنطقة، المبادرة لإيقاف هذا النزف وبلورة مشروع متكامل للمصالحة العادلة في سوريا.
على ضوء الأحداث اليومية الدامية في العراق، ثمة أسئلة جوهرية وحيوية، تتعلق بمآلات هذه الأحداث، وطبيعة المستقبل السياسي الذي ينتظر العراق ودول المنطقة، لأن ما يجري اليوم من أحداث وقتل يومي، سيترك بصماته بشكل مباشر على المستقبل القريب والبعيد للمنطقة بأسرها..
ولعل من أهم هذه الأسئلة، هو ذلك السؤال المتعلق بالعلاقات العراقية - الخليجية، فهل ثمة مصلحة خليجية في استمرار هذه الأحداث المؤسفة التي تجري في العراق؟. أو أن المصلحة العراقية والمصلحة الخليجية تقتضيان تذليل كل العقبات التي تحول دون تطوير العلاقات بين الطرفين، ومعالجة كل الموضوعات والقضايا المطروحة في فضاء المنطقة..
على المستوى الجيو - استراتيجي، من الضروري بيان هذه الحقيقة، وهي أن العراق ودول الخليج العربي يعيشون في فضاء سياسي وإستراتيجي واحد، وأن ما يصيب أي طرف، سينعكس بشكل مباشر على الطرف الآخر. [1]
لذلك فإن إعادة الأمن للعراق، وتطوير العملية السياسية فيه بعيدا عن المحاصصة الطائفية التي تساهم في إذكاء الفروقات والتباينات بين مكونات الشعب العراقي، هي مصلحة عراقية مباشرة، لأنها سبيل العراق للخروج من شبح أو براثن الحرب الأهلية.
كما أن استقرار العراق وضبط أمنه الأمني والسياسي، هو حاجة خليجية ملحة على المستويات الأمنية والسياسية والإستراتيجية. فمنطقة الخليج العربي، لا تحتمل أمنيا وسياسيا، استمرار عملية النزف في الدم العراقي. لأن الجميع يدرك أن هذه العمليات لها انعكاساتها على أمن المنطقة واستقرارها السياسي والاقتصادي.
وفق هذا المنظور ينبغي أن ننظر لأحداث العراق. ووفق هذه الرؤية، نبحث عن حلول ومعالجات لموضوعات التباين والاختلاف بين العراق ودول المنطقة.
فالعراق محكوم بهذه الجغرافيا السياسية والروابط الأخرى التاريخية والثقافية واللغوية التي تربطه بدول المنطقة. كما أن دول المنطقة محكومة بضرورة علاقاتها الايجابية مع بلد عربي شقيق وعريق ومركزي في فضاء المشرق العربي.
لذلك وبعيدا عن إكراهات الواقع المباشر وطبيعة التباين بين العراق ودول المنطقة في قراءة أحداث المنطقة ومآلاتها القريبة والبعيدة، لا مناص للطرفين من علاقات طيبة وحيوية ومفتوحة على كل أشكال التضامن والتعاون. وإن استمرار حالة الجفاء أو التباين والابتعاد بين دول المنطقة والعراق، سيكون له انعكاساته السلبية على راهن المنطقة ومستقبلها.. لأننا نعتقد أن العراق يخسر من استمرار حالة الجفاء بينه وبين دول الخليج العربي، كما أن دول الخليج العربي تخسر ببعد العراق عنها وغياب المبادرات الجادة التي تستهدف إصلاح العلاقة ومعالجة الإشكاليات العالقة وصناعة المبادرات التي تتجه إلى إعادة الدفء إلى العلاقة العراقية - الخليجية.
وفي سياق الإيمان بضرورة إخراج العلاقات الخليجية - العراقية من حالة البرود والجفاء إلى مرحلة التنسيق والتعاون، نذكر النقاط التالية:
1 - إن الإرهاب الدموي الذي يتعرض إليه الشعب العراقي اليوم، بحيث لا يمر يوم إلا والعراق ينزف دما وتفجيرا وتخريبا، لا يهدد العراق وحده، فالإرهاب لا يمكن أن يبقى في رقعة جغرافية واحدة. لذلك فإن العمل على وقف ومواجهة الإرهاب الدامي الذي يتعرض إليه الشعب العراقي اليوم، هو مصلحة إستراتيجية لمنطقة الخليج العربي بأسرها. ووجود تباينات سياسية مع العراق، ينبغي أن لا يمنع دول الخليج من إدراك مخاطر استمرار الإرهاب في العراق.
لذلك فإننا نعتقد أن دول الخليج العربي معنية سياسيا وإستراتيجيا بملف الإرهاب في العراق، لأن استفحاله هناك سيهدد أمن دول الخليج. فالوقوف بوجه الإرهاب في العراق، هو وقوف مباشر مع أمن دول المنطقة واستقرارها السياسي والاجتماعي.
لأن تغوّل ظاهرة الإرهاب في العراق وسقوط محافظات عراقية بكاملها بيد المجموعات الإرهابية، يعني وصول التهديد المباشر لدول المنطقة.. فالعديد من دول المنطقة عانت من الإرهاب، وتدرك آفاته ومخاطره. ووجوده قويا وفعالا في العراق، يعد على المستويين السياسي والاستراتيجي تهديد مباشر لأمن واستقرار دول الخليج العربي. لذلك نرى أن ثمة مصلحة سياسية كبرى بين العراق ودول المنطقة للتعاون والتنسيق في ملف مواجهة خطر الإرهاب. وإن خطر الإرهاب المشترك، يقتضي الإسراع في معالجة أسباب الجفاء بين العراق ودول الخليج العربي.
2 - إننا كعرب وخليجيين من الأهمية أن لا نتعامل مع مقولة سقوط العراق تحت الهيمنة الإيرانية بوصفها مقولة نهائية وحقيقية لا يمكن تجاوزها أو إعادة التوازن فيها..
فالعلاقات الإيرانية العراقية تطورت وتضخمت من جراء الغياب العربي والخروج العربي من العراق. وإن استمرار العقل السياسي الخليجي في التعامل مع هذه الحقيقة السياسية بوصفها حقيقة نهائية، هو الذي يضيع على دول الخليج فرصة إعادة العراق إلى الحضن العربي.
وفي تقديرنا العميق أن العراق تاريخا وشعبا ومصالح، لا يمكن لأي معدة إقليمية أن تبلعه، وإن وجود علاقات عراقية - إيرانية متميزة، لا يعني سقوط العراق تحت الهيمنة الإيرانية.
إننا كخليجيين بحاجة أن نعيد الوجه العربي للعراق، وهذا يتطلب من دول الخليج العربي المبادرة باتجاه الانفتاح على العراق ونسج علاقات عميقة معه على مختلف المستويات.
ولو تأملنا في التاريخ الثقافي والسياسي لشيعة العراق، لرأينا أن هذا التاريخ يزخر بهويته ووجهه العربي، ويتطلع إلى نسج علاقات متميزة مع عمقه العربي. فشيعة العراق لا يريدون لعلاقتهم مع إيران أن تكون على حساب علاقتهم مع العرب. والفحص والتمعن في التاريخ الثقافي والسياسي لشيعة العراق، يؤكد هذه الحقيقة، ويؤكد أيضا أنهم ليسوا في وارد أن يكونوا تابعين لإيران. هم عراقيون ويعتزون بعراقيتهم، ويعملون من أجل بناء عراق مسالم وقوي وتربطه مع دول المنطقة علاقات تعاون وتضامن.
3 - إن استمرار ضعف الدولة العراقية، وشلل مؤسساتها وهياكلها الإدارية المختلفة لا يضر بالشعب العراقي وحده، وإنما يضر بالمنطقة العربية كلها.
لأنه وببساطة شديدة، انهيار الدولة العراقية بفعل الإرهاب والاقتتال الداخلي، له تداعيات خطيرة على أمن المنطقة وطبيعة العلاقات بين دولها وشعوبها. لأن غالبية الشعب العراقي سيشعر أن الذي أوصله إلى الاقتتال هو بعض خيارات دول الخليج العربي، الذي تعبأ طائفيا، ولا زالت على موقف سلبي من تحولات العراق منذ عام 2003م. وهذا الشعور سيساهم في تأزيم العلاقة العراقية - الخليجية.
كما أن القوى الإرهابية التي لو تمكنت من إسقاط الدولة في العراق، فسوف لن تقف ضمن هذه الحدود، وإنما سيتسع دورها، انطلاقا من شعورها بالقوة والخبرة العسكرية. ومن المؤكد أن دول الخليج من الساحات الأساسية المرشحة لتفاقم أزماتها الداخلية والخارجية من جراء سقوط العراق في أتون الاحتراب الأهلي - الداخلي.
لذلك وبعيدا عن بعض الأحقاد الطائفية والتباين السياسي مع النخبة السياسية الجديدة في العراق، لا مصلحة للخليج استراتيجيا في إسقاط العراق في احتراب طائفي بين مختلف مكوناته وتعبيراته، لأن العراق من الدول المركزية في منطقة المشرق العربي، وأي سقوط لدولته المركزية، سيكون له تداعيات خطيرة على دول الجوار وعلى رأسها دول الخليج العربي.
فالمصلحة القومية والخليجية تقتضي أن تتبلور الإرادة السياسية باتجاه مساعدة العراق على بناء دولته الجديدة. لأن من أبرز المخاطر الأمنية والسياسية التي تهدد المنطقة بأسرها هو وجود بلد بحجم العراق أرضا وشعبا، يعيش الفشل أو غير قادر على إدارة الشعب العراقي وفق مقتضيات الإدارة السياسية الحديثة. لأن شعور الجميع قصور الدولة العراقية الجديدة عن إدارة واقعها الجديد، يعني صعود قوى عراقية عديدة بعيدا عن ضبط الدولة ومقتضيات الأمن الوطني.
لذلك فإننا ندعو وندرك أهمية أن تشارك دول الخليج العربي في بناء الدولة العراقية الموحدة التي تتجاوز الانقسام الطائفي والقومي.. لأن في وجود دولة عراقية جامعة وموحدة، وتشعر جميع الحساسيات العراقية بأنها ممثلة في مؤسسات الدولة، هو جسر عبور العراق من محنته التي طال أمدها وكلفت الشعب العراقي الكثير من الآلام والدماء.
على مدى عقود عديدة من الأداء السياسي للإدارة الأمريكية على المستوى الخارجي، تثبت بشكل دائم، بصرف النظر أن هذه الإدارة جمهورية أو ديمقراطية، هي أنها إدارة برغماتية وتلاحق مصالحها الاستراتيجية والحيوية، ولا حليف دائم ونهائي لها في منطقة الشرق الأوسط إلا إسرائيل بوصفها ملفا داخليا في سياق ما يسمى المسيحية - الصهيونية. وما عدى ذلك فإن الإدارات الأمريكية تلهث وراء مصالحها وتضحي في سبيل الحفاظ على مصالحها بالكثير من الثوابت أو أصدقاءها التاريخيين.. وثمة صعوبة سياسية حقيقية في مجال العلاقات السياسية والدولية من الحديث بلغة الوفاء والصداقة، لأنها قيم ومبادئ لا وجود لها بشكل فعلي في عالم العلاقات الدولية.. فالدول ليست جمعيات خيرية في علاقاتها الدولية، وكل دولة وانطلاقا من موقعها السياسي والاستراتيجي، وطبيعة قراءتها وفهمها للأحداث والتطورات، هي تصيغ سياساتها، بصرف النظر عن أن هذه السياسات أو الخيارات الجديدة، تؤثر سلبا على مصالح حليف سياسي، إقليمي أو دوليا أو لاتؤثر..
فالجميع يلهث عبر عناصر قوته الذاتية والموضوعية وراء مصالحه وضمانها.. ومن يتعامل من الدول أو النخب السياسية بعيدا عن هذا النطاق أو السياق، فإنه الخاسر الوحيد.. لأن من يضحي بعناصر قوته الذاتية، فإن قوة الحلفاء والأصدقاء في عالم السياسة لا تفيده ولا تنفعه.. لأنه عالم مليء بالإرادات السياسية المتنافسة والمتصارعة والمتزاحمة، وكل طرف يستند في حركته على عناصر قوته وتقاطع مصالحه موضوعيا أو سياسيا مع أطراف أخرى..
والولايات المتحدة الأمريكية وعبر إداراتها السياسية المتعاقبة، هي من أبرز النماذج على تخليها عن حلفاءها في أول فرصة يحصلون عليها ويضمنون من خلالها مصالحهم.. والأطراف الإقليمية التي تعول في سياساتها وخياراتها الخارجية على وجود حليف دائم اسمه الولايات المتحدة الأمريكية هي أطراف خاسرة.. لأن الأمريكيين على المستوى السياسي، الثابت الوحيد لديهم أنهم برغماتيون، ولا يبحثون إلا عن مصالحهم وأمنهم الاستراتيجي، وما عدا ذلك هو من المتغيرات الدائمة [2] .. أسوق هذا الكلام كمقدمة ضرورية في سياق الحديث المتعاظم في الأروقة السياسية والإعلامية عن احتمالات التقارب والتفاهم الأمريكي - الإيراني وانعكاسات هذا التقارب أو التفاهم على دول منطقة الخليج العربي سياسيا واستراتيجيا..
وأود في هذا السياق بيان النقاط التالية:
1 - من الطبيعي القول أن أي تقارب أمريكي - إيراني، سينعكس على منطقة الخليج العربي. وأن هذا الانعكاس وفق المعطيات الحالية، سيكون في أغلبه سلبيا على منطقة الخليج العربي.. ولا يمكن إدارة هذا الملف أو انعكاساته السلبية بعقلية سياسية متوترة قد تدفعها إلى تبني سياسات وخيارات تزيد من تأثير الانعكاسات السلبية على عموم منطقة الخليج العربي.. لذلك فإننا نعتقد بأهمية أن تقوم دول الخليج العربي بوصفها منظومة سياسية واقتصادية متكاملة بالاستدارة نحو الداخل، لتظهير عناصر القوة الذاتية، الاستراتيجية والاقتصادية والتجارية لتوظيفها في العمل السياسي والدبلوماسي الإقليمي والدولي.. وهي عناصر قوة وفق كل المقاييس ضرورية وحيوية، وذات تأثير نوعي في ميزان العمل السياسي والدبلوماسي..
فالاستدارة نحو الداخل الخليجي، بما يعني الإسراع بمعالجة بعض الملفات الضاغطة شعبيا واقتصاديا، يعد من الخطوات الضرورية التي تمكن دول الخليج العربي من التعامل مع الانعكاسات والتأثيرات السلبية لأي تفاهم أمريكي - إيراني بعقلية القادر على إدارة كل التأثيرات والمتواليات بما يخدم الأمن والمصالح المشتركة في منطقة الخليج العربي..
2 - على المستوى الدولي، العالم بكل دوله، يتجه صوب الشراكة وتعدد الأقطاب في إدارة الملفات الدولية والعالمية.. وكل المؤشرات والمعطيات تقول أن زمن القطب الواحد انتهى أو في طريقه إلى الانتهاء والزوال.. وعلى ضوء هذه الحقيقة الجيو - إستراتيجية، من الضروري لدول الخليج العربي أن تتحرك في علاقاتها السياسية والاقتصادية والدولية.. بمعنى أن اللحظة السياسية والاقتصادية مؤاتية لدول المنطقة لتطوير علاقاتها ومصالحها السياسية والاقتصادية والتجارية مع جميع الأطراف الدولية السائدة..
وإن دول الخليج معنية بصياغة رؤية واستراتيجية لتطوير علاقاتها وتعاونها مع الصين والبرازيل والهند ودول أخرى بدأت تأخذ حيزا وتأثيرا في شبكة العلاقات الدولية..
وتعلمنا برغماتية الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن الرهان على طرف في العلاقات الدولية ليس مجديا، وإن المصالح الوطنية لكل دول الخليج العربي، تقتضي تطوير علاقاتها التجارية والاقتصادية والسياسية مع كل الأطراف الفاعلة والمؤثرة في المشهد الدولي والإقليمي..
3 - ندرك سلفا أن ثمة صعوبات حقيقية وملفات شائكة تحول دون تطوير العلاقة بين منظومة دول مجلس التعاون الخليجي وإيران.. ولكننا في ذات الوقت ندرك أيضا أهمية صياغة مبادرة خليجية متكاملة باتجاه تحسين العلاقة مع إيران.. فإيران بالنسبة إلى دول الخليج العربي حقيقة جغرافية وبشرية وسياسية، ولا يمكن حماية الأمن الخليجي على نحو حقيقي وفعال في ظل توتر دائم للعلاقات الخليجية - الإيرانية.. كما ندعو الحكومة الإيرانية الجديدة إلى الإسراع في صياغة مبادرة إيجابية باتجاه دول الخليج العربي.. لأننا ندرك أن استمرار حالة الجفاء والتوتر في العلاقات الخليجية - الإيرانية، يضر بالطرفين سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا.. وإن المصالح المشتركة القريبة والبعيدة للطرفين هو في إنهاء حالة الجفاء وتطوير العلاقات المشتركة على مختلف المستويات.. وفي تقديرنا أنه مهما كانت الخلافات والتباينات، إذا توفرت الإرادة السياسية فإن جميع هذه الأطراف قادرة على معالجتها وخلق مناخ إيجابي في المنطقة يساهم بشكل مباشر في رعاية مبادرات تستهدف تطوير العلاقات الإيرانية - الخليجية.
وإننا كخليجيين ينبغي أن لا نتفرج على احتمالات التقارب الأمريكي - الإيراني، وإن إنهاء المفاعيل السلبية لعملية التقارب تكمن في المبادرة باتجاه الانفتاح والتواصل بين إيران ودول المنطقة.. ووفق المنظور السياسي والاستراتيجي، نرى أن التفاهم الخليجي - الإيراني ضرورة سياسية واقتصادية وأمنية للطرفين، وإن استمرار حالة الجفاء خسارة للطرفين. وإن تحولات المنطقة والإقليم المتسارعة، تؤكد أهمية الإسراع في بناء التفاهم الإيراني - الخليجي على أسس جديدة، تحول دون تكرار الهواجس المتبادلة السابقة..
فليس قدر المنطقة أن تعيش القطيعة بين أطرافها، وكما تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى ضمان مصالحها بعيدا عن رؤية أصدقاءها، كذلك من الضروري ووفق منظور المصالح المشتركة، أن تفكر إيران مع دول المنطقة إلى إنهاء سوء الفهم والتفاهم، وينطلقون في مشروع انفتاح وتواصل وتعاون تجاري واقتصادي وثقافي وسياسي، يضمن أمن المنطقة ويعزز استقرارها السياسي، فكل شعوب المنطقة تتوق إلى الاستقرار ومشروعات البناء والتنمية بعيدا عن الحروب واحتمالاتها الكارثية..
وخلاصة القول إن المنطقة بأسرها تمر بمرحلة دقيقة وحساسة، ولايمكن اجتياز هذه المرحلة باليات عمل تقليدية، وإنما هي بحاجة إلى مبادرات سياسية نوعية
، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي، بحيث تعيد المبادرة إلى دول المنطقة، وتعالج ثغرات أساسية تعاني منها دول المنطقة. فتطوير الأوضاع السياسية الداخلية في دول المنطقة، هو الكفيل بإخراج دول المنطقة من العديد من عناصر الضعف والترهل التي تنعكس سلبا على أداء دول المنطقة، وتوفر لها الزخم الضروري الذي يمكنها من توظيف عناصر قوتها الداخلية في خياراتها السياسية والإقليمية والدولية.
وفق المنظور الخليجي أن اليمن الحالية، تشكل خطرا أمنيا حقيقيا على استقرار وأمن دول المنطقة. وذلك لبروز قوى سياسية عسكرية تحمل مواقف مضادة للرؤية الخليجية، وكذلك تضاءل وتآكل سلطة الدولة في الداخل اليمني.
ولعل أبرز القوى التي تشكل خطرا وفق المنظور الخليجي هي:
1 جماعة أنصار الله وهي جماعة ذات عمق شعبي تاريخي، وتشكل في جوهرها رد فعل عميقة على كل عمليات تغييب الهوية الزيدية في اليمن [3] . ولعل المساحة الواسعة التي تديرها جماعة الحوثي وأتساع رقعتها الشعبية، يعود في تقديرنا وبالدرجة الأولى إلى بعث جديد للهوية الزيدية وجماعة الحوثي رأس الحربة في مشروع إعادة بناء الهوية الزيدية المذهبية والسياسية في اليمن الراهن.
ودول الخليج تنظر إلى أن جماعة الحوثي، هي امتداد سياسي وأمني واستراتيجي لإيران، كما أن رؤية هذه الجماعة إلى اليمن تختلف عن رؤية دول مجلس التعاون الخليجي لليمن. والقضم السريع الذي تقوم به هذه الجماعة لمناطق ومحافظات اليمن، يزيد مخاوف دول المنطقة من اليمن المستقبلية.
فالخوف الخليجي من جماعة أنصار الله يعود إلى سببين أساسيين وهما:
1 المضمون المذهبي الذي تحمله هذه الجماعة، مما يساهم في إعادة بناء العلاقة بين المجموعات المذهبية في اليمن على أسس مغايرة لما هو قائم الآن.
لأن اليمن بنيت أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال الأربعة عقود الماضية على غياب الهوية الزيدية اجتماعيا وسياسيا من المشهد اليمني.
2 البعد السياسي والاستراتيجي الذي يتجلى بصورة واضحة في طبيعة التحالفات الاستراتيجية الإقليمية لجماعة الحوثي، وكيفية تعاطيها مع ملفات اليمن الأساسية.
لهذا نستطيع القول: أنه كلما تقدمت جماعة الحوثي في اليمن، تراجع الدور الخليجي أو ستواجهه معضلات وتحديات كبرى في الراهن اليمني.
2 المضمون الإرهابي العنفي الذي تحمله جماعة القاعدة والتي تتخذ من اليمن منطلقا لكل عملياتها الأمنية والعسكرية في منطقة الخليج.
ومن المؤكد أن هذه الجماعة وامتدادها العسكري ونهجها العدواني، يشكل تحديا أساسيا لدول المنطقة قادما من اليمن الحالية.
وكلما تراجعت سلطة وهيبة الدولة في اليمن، ازداد خطر هذه الجماعة على دول المنطقة، لأنها ستشكل قاعدة أساسية لإعداد وتدريب الكوادر العسكرية وتفخيخ السيارات وبناء الخطط الأمنية والعسكرية التي تستهدف استقرار وأمن دول مجلس التعاون الخليجي.
والذي يزيد من مخاطر هذه الجماعة، وجود حواضن اجتماعية لهذه الجماعة في بعض محافظات اليمن توفر لها الحماية بكل مستوياتها. [4]
ويضاف إلى هذه المخاطر التي تهدد أمن المنطقة، هو احتمالات الفوضى وتآكل سلطة الدولة المتسارع وذهاب بعض المناطق نحو الانفصال والتقسيم.
كل هذه الحقائق تشكل مخاطر جدية على أمن واستقرار دول مجلس التعاون الخليجي.
وهذه التطورات المتسارعة في المشهد اليمني، تتطلب مقاربة خليجية جديدة تتجه صوب القضايا التالية:
1 دعم وإسناد الدولة اليمنية ومنع سقوطها وانهيارها وتآكلها الأمني والسياسي والإداري.
2 الانفتاح برؤية سياسية جديدة على القوى السياسية الصاعدة في اليمن.
وأرى في هذا السياق أهمية الانفتاح التدريجي على جماعة أنصار الله، لأنه ليس من مصلحة دول الخليج القطيعة التامة مع قوة سياسية وأمنية وشعبية جديدة في اليمن.
3 دعم الاقتصاد اليمني ومده بكل ما يلزم للخروج من ركوده وتراجعه المتسارع.
4 العمل على بناء مظلة إقليمية عربية تحمي اليمن من كل المخاطر التي تهدد أمنها واستقرارها.
5 صياغة مشروع خليجي متكامل للمصالحة في اليمن. لأن طبيعة اليمن السياسية والاجتماعية، تحول دون قدرة أي طرف بوحده لحكم اليمن أو الاستفراد بقراره.
لذلك ثمة ضرورة لمبادرة خليجية، تتجاوز المبادرة السابقة، تستهدف بالدرجة الأولى منع اللجوء إلى العنف لحسم الخلافات السياسية بين قوى وتعبيرات المشهد اليمني، والعمل على تدوير الزوايا بين قوى الميدان، وتشجيع اليمنيين جميعا لبناء نظام سياسي تشاركي قادر على تمثيل كل الحساسيات الشعبية والسياسية.
أحسب أن الهجوم السياسي الخليجي على الساحة اليمنية، سيجنب المنطقة الكثير من الاحتمالات السيئة، التي قد تأتي إلى منطقتنا من جراء تداعيات التطورات اليمنية.
أبانت التطورات الشعبية والأمنية والسياسية في دول المشرق العربي، عن بروز لاعب جديد في المشهد السياسي العام. ألا وهو جماعات العنف والإرهاب، التي تمكنت من السيطرة على أرض شاسعة في كل من سوريا والعراق، وأضحت رمزا جهاديا يلتف حوله آلاف المقاتلين والانغماسيين، كما أن هناك الآلاف من الشباب العربي والمسلم الذي يتطلع ويطمح للالتحاق بركب هذه الجماعات والفصائل المقاتلة.
وأضحت هذه الجماعات لعوامل عديدة لسنا بصدد ذكرها، من القوى الأساسية القادرة على ملء الفراغ السياسي والاستراتيجي.. بمعنى إن القوة القادرة على إحلال نفسها في المناطق التي تتآكل فيها سلطة الدولة، هي جماعات العنف والإرهاب، كما أنها تمتلك إمكانات مالية وعسكرية هائلة، بعضها من غنائم حروبها وعملياتها العسكرية، والبعض الآخر كما يبدو من دول تسعى لتحسين موقعها السياسي والاستراتيجي في المنطقة، من خلال دعم وإسناد بعض هذه الجماعات والفصائل.
وعلى كل حال ما نود قوله في هذا السياق أن هذه الجماعات بكل امتدادها وخبرتها الأمنية والعنفية ومنظومتها الفكرية والدينية، التي تغذي بعض الأجيال الطالعة في المجتمعات العربية، تشكل تحديا حقيقيا لدول المنطقة.
ولا يمكن الحديث عن المتغيرات والتحديات الإقليمية التي تواجه دول الخليج العربي، بدون ذكر طبيعة هذا التحدي الذي تشكله جماعات العنف والإرهاب.
لأن هذا التحدي في جوهره ومضمونه تحديا مركبا بين الفكري والأمني والتخريبي والاجتماعي. لذلك ثمة حاجة خليجية لمنظومة متكاملة من الأدوات والفعاليات في مواجهة هذا الخطر، الذي أبان سلوكه في العراق وسوريا عن وحش حقيقي، لا تضبطه أية ضوابط أخلاقية أو قانونية في عمليات القتل والتخريب والتفجير.
وإن تراخي الإدارة الخليجية في مواجهة هذا الخطر المباشر، ينذر بأن تتسرب بعض المجموعات الإرهابية إلى دول المنطقة أو بعض الخلايا النائمة التي تتبنى الفكر التكفيري والعنفي تبدأ بالتحرك لإرباك استقرار وأمن دول المنطقة.
وعلى المستويين المعرفي والاجتماعي، لا يمكن أن تتشكل تنظيمات عسكرية إرهابية بدون وجود تيار فكري يبرر للمؤمنين به الانخراط في أعمال عسكرية - إرهابية.
لذلك دائما في مثل هذه الحالات والتجارب التيار الفكري يسبق الانتماء التنظيمي إلى مجموعات جهادية أو إرهابية. لأن المجموعات الإرهابية - المسلحة بطبعها مجموعات سرية ومغلقة كما أن الظروف الأمنية والاجتماعية تمنعها من البوح بجوهر عملها واستهدافاته. فتجبر هذا النقص بالاعتماد على عملية التبرير الشرعي والتزخيم الفكري على مدرستها وتيارها الفكري العام. من هنا فإن هذه التشكيلات الإرهابية، تتأطر في أحشاء مدرستها الفكرية وخيارها المعرفي. والعلاقة بين الانتماء الفكري والانخراط في تنظيمات مسلحة هي ذات العلاقة التي تربط النتيجة بالسبب. وعليه فإن تنظيم داعش الإرهابي ليس معزولا عن بيئته الفكرية والثقافية.
ولا يمكن مواجهة هذا التنظيم الخطر والكارثي بفعالية بدون تفكيك بيئته الفكرية والثقافية. لأن هذه البيئة هي بمثابة المصنع الذي يقوم باستمرار على تقديم منتجات بشرية تتبنى خطاب التكفير والتفجير.
ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن القوة الفعلية في تنظيم داعش الإرهابي هو في حواضنه الدينية والفكرية والاجتماعية. لأنها حواضن منتشرة ومتعددة في أرجاء العالم الإسلامي، وهي التي توفر البيئة الدينية في حدودها الدنيا المتعاطفة دينيا مع نموذج داعش في التعامل مع الآخرين أو في إدارة المناطق التي تدار من قبله. وهذا التعاطف الأولي يقود في المحصلة النهائية لدى البعض إلى الالتزام بمقولات داعش الدينية والسياسية وفي الدفاع عن وجوده ودوره وفي تقمص رموزه الخاصة والعامة.
ونحن هنا لا نتهم بيئة اجتماعية أو دينية محددة، ولكننا نقول حقيقة راسخة لدى كل التنظيمات الدينية المسلحة. فهي تنظيمات ومجموعات ليست منفصلة عن بيئة دينية أو ثقافية. وإن هذه البيئة هي التي توفر للمجموعات المسلحة الغطاء الشرعي والديني وتوسع من قاعدتها الاجتماعية وتدافع عن خياراتها وأعمالها.
ولا يمكن من الناحية الفعلية أن تتشكل تنظيمات مسلحة بعيدا أو بدون حاضن فكري - ثقافي - اجتماعي. حتى التنظيمات اليسارية العسكرية في عقود الخمسينيات والستينيات هي على علاقة وصلة عضوية ببيئتها الفكرية والاجتماعية. فالحركات والتنظيمات المسلحة المسماة آنذاك بالمجموعات الفيدلية، هي مجموعات تتغذى فكريا وسياسيا من تجربة فيدل كاسترو في كوبا وتمثل أدبيات التجربة الكوبية هي الغذاء الفكري والتبرير السياسي للمجموعات الفيدلية في بلدان أخرى في أمريكا اللاتينية.
كما أن المجموعات الثورية التروتسكية التي انتشرت في أمريكا اللاتينية في ذات الحقبة هي تستلهم وتتغذى من فكر تروتسكي وخياراته السياسية والثورية.
وتنظيم داعش الإرهابي أو غيره من المجموعات المسلحة الإرهابية ليست استثناءا لهذا القانون الاجتماعي - السياسي. لذلك هي تستلهم وتتغذى من بيئة فكرية وثقافية وتنتشر في بيئة اجتماعية محددة، وتشكل هذه البيئة بمثابة الحاضن الذي يوفر باستمرار للمجموعات المسلحة الكادر البشري والتبرير الديني والحماية الاجتماعية.
من هنا فإن مواجهة إرهاب داعش وغيرها من المجموعات الإرهابية يتطلب العناية والاهتمام بالتقاط التالية:
1 - تفكيك الحواضن الفكرية والدينية والاجتماعية للمجموعات الإرهابية. ولا يمكن الوصول إلى نتائج صريحة في مشروع مواجهة خطر الإرهاب في المنطقة إلا بمواجهة جريئة وشجاعة لحواضن هذه المجموعات.
وبدون تفكيك حواضن هذه المجموعات وحواملها الدينية والاجتماعية، فإن المجموعات الإرهابية ستتناسل وسنواجه أجيالا متعددة من الإرهابيين.
وتجربة المجموعات الإرهابية منذ عقد التسعينيات وإلى الآن تثبت هذه الحقيقة. فتجاهل الحواضن والحوامل أفضى من الناحية الفعلية إلى وجود مجموعات إرهابية متعددة، وكل مجموعة تزايد على أختها في عنفها وإرهابها ووحشيتها.
2 - لو تأملنا في تجارب كل المجموعات الإرهابية سواء كانت شيعية أو سنية سنجد أن هناك علاقة عميقة بين فعلها الإرهابي وخطابات التحريض والتحشيد الطائفي. لذلك فإن من أهم البيئات التي تساعد على تفريخ المجموعات الإرهابية هي بيئة التوتر الطائفي والتحريض المستمر على الآخر المختلف مذهبيا.
لأن هذا التحريض يشكل الوقود الذي يسير قافلة الإرهاب والقتل على الهوية.
لهذا فإن محاربة كل أشكال التحريض والتعبئة الطائفية وبث الكراهية لأسباب دينية أو مذهبية هو من صميم مشروع محاربة الإرهاب.
فما يجري اليوم من قتل متبادل، هو من جراء خطابات التحريض الطائفي. ولا يمكن القضاء على خطر الإرهاب بدون منع كل أشكال التحريض الطائفي ومعاقبة كل من يسيء إلى شريكه الوطني لأسباب دينية أو مذهبية.
فالبيئة النشطة للإرهاب اليوم هي البيئة الطائفية، ولا مناص إذا أردنا القضاء على الإرهاب إلا بتنقية ساحة العلاقة الإسلامية بين السنة والشيعة. وهي مسؤولية مشتركة، وتتحمل جميع الأطراف مسؤولية إنهاء عمليات التوتر والتحريض الطائفي.
3 - من المؤكد أن بيئات الإحباط واليأس والانغلاق الثقافي من البيئات الخصبة للتيارات المتطرفة والإرهابية، بحيث تتحول هذه التيارات إلى رافعة لأولئك اليائسين والمحبطين.
وعليه ثمة ضرورة لإنهاء أسباب اليأس والإحباط لدى الناس وبالذات فئة الشباب وتنشيط مؤسسات المجتمع المدني وتشجيع الشباب للانخراط والمشاركة فيها وفتح المجال واسعا لكل المبادرات التي تستهدف بث الحيوية والفعالية في المجتمع والوطن.
وخلاصة الأمر: أن فعالية مشروع محاربة الإرهاب تتجسد في محاربة أسبابه وموجباته الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وإذا تمكنا من تفكيك الأسباب المؤسسة لخيار الشباب للاندفاع نحو خيار الإرهاب، فإننا سنتمكن وبسهولة من الانتصار على كل المجاميع الإرهابية التي تعبث فسادا وقتلا وتدميرا في الواقع العربي والإسلامي المعاصر.. وإن غض النظر عن البيئة وحواضن الإرهاب الدينية والثقافية والاجتماعية سيكلفنا الكثير راهنا ومستقبلا، لذلك فإن طريق دحر داعش هو تفكيك خطابها الديني وحواملها الاجتماعية والثقافية.
مما يتضح أن منطقة الخليج تعيش تحديات غير مسبوقة على كل المستويات.
وإن هذه التحديات تشكل خطرا سياسيا وأمنيا واستراتيجيا على كل دول المنطقة، وإنه لا يمكن مواجهة هذه التحديات بذات الآليات المستخدمة في دول المنطقة، وإنما هي بحاجة إلى آليات جديدة، تتطلب تحولات سياسية واجتماعية في مسار دول المنطقة، حتى تتمكن من مواجهة هذه التحديات باقتدار.
وأحسب أن دول الخليج العربي، وعلى ضوء التحديات الداخلية والإقليمية والدولية بحاجة إلى العناصر التالية:
1 مأسسة حالة الرضا الشعبي، وبناء الأطر والمؤسسات السياسية ذات الثقل الشعبي، التي تساهم في دعم الحكومات الخليجية وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في الحياة السياسية الوطنية.
بمعنى أنه لا زالت الحكومات الخليجية تحضى برضا شعبي يؤهلها للاستقرار السياسي العميق. وإنه آن الأوان لترجمة هذا الرضا الشعبي العفوي في أطر ومؤسسات، تساهم في تجديد الحياة السياسية الخليجية.
2 ليس سرا القول أن بعض مكونات الخطاب الديني السائد في منطقة الخليج العربي، ساهم بطريقة أو أخرى في بروز جماعات العنف والتكفير في العالم. ولقد عانت دول الخليج الشيء الكثير من طبيعة ومآلات هذا الخطاب الديني الذي يحرض على التكفير والعنف، وأضحت جماعات العنف العابرة للحدود من أهم التحديات التي تواجه المنطقة في اللحظة الراهنة.
لذلك ثمة ضرورة خليجية لإعادة النظر في مجمل الخطاب الديني المتداول في الخليج بمعنى أن المنطقة اليوم بحاجة إلى خطاب ديني مستنير، يحارب الغلو والتشدد، ويعلي من قيم التسامح والاحترام المتبادل وصيانة حقوق الإنسان، ويحارب كل أشكال الطائفية التي بدأت بالاستشراء في المنطقة.
أحسب أن الخطاب الديني المتجدد والمنفتح على آفاق الإصلاح الديني والبعيد عن نزعات الغلو والعنف ستساهم في تصليب الواقع الاجتماعي والسياسي الخليج أمام التحديات القادمة إلينا من خارج الحدود، كما أنها ستقلل من مخاطر التحديات الداخلية التي تواجه دول المنطقة سواء كل دولة على حدة أو بمجموع دول الخليج العربي.
3 من المؤكد أن انهيارات أسعار النفط سيؤثر سلبا على كل مشروعات دول المنطقة وعلى إمكانياتها الدبلوماسية والسياسية، كما أنها ستفرض تحديات جديدة من جراء الآثار الاقتصادية الحقيقية المترتبة على تراجع أسعار النفط في العالم.
وبعيدا عن تحليل هذه الظاهرة بأبعادها الاقتصادية والسياسية، أرى لزاما على دول المنطقة التفكير الجدي في مشروعات تستهدف تنوع مداخيلها واقتصادها الوطني. وإن اعتماد كل دول المنطقة شبه الكلي على النفط، يشكل خطرا حقيقيا على راهن ومستقبل منطقة الخليج العربي.
4 لكون غالبية شعوب منطقة الخليج العربي هم من فئة الشباب، ثمة ضرورة قصوى لكل دول المنطقة، للاهتمام المؤسسي الجدي بشباب المنطقة.
فهذه الفئة تستحق من كل دول المنطقة اهتماما نوعيا، يعيد تشكيل اهتمامها، ويستوعب طموحاتها وتطلعاتها، ويجيب على أسئلتها الملحة، ويحول دون اندفاع الشباب نحو خيارات كارثية عليهم وعلى عموم المنطقة.
وأرى أن نجاح دول المنطقة في استيعاب شريحة الشباب عبر مبادرات حقيقية ومؤسسات شبابية جادة، سيجنب المنطقة بعض الانفجارات الاجتماعية، التي تضر بأمنها واستقرارها وتفرض عليها أجندة، ليست بالضرورة لها الأولوية القصوى. فشباب الخليج هم ثروة المنطقة الحقيقية، ولا مناص اليوم من قيام حكومات دول المنطقة بمبادرات حقيقية على المستويات كافة من أجل استيعاب الشباب في الحياة العامة.