فن الكذب
الكذب لفظ له تعاريف كثيرة تتفق في مجملها على «نقل ما هو مخالف للواقع»، ويتفاوت الكاذبون في مدى جودة كذبهم والعائد منه إلى درجات كثيرة، فهناك درجة تجيز لنفسها بيع قلم رصاص بريال على أنه من ماركة «X» بينما الحق أنه من ماركة «Y»، وعلى نقيضها درجة أكثر احترافية تجيز لنفسها عمل سلسلة من الأشعة والتحاليل المخبرية ومنح حزمة هائلة من الأدوية لمريض يكفي لعلاجه وصف شراب الزنجبيل بالليمون والعسل.
فائدة هذا النوع من الكذب ستكون بلا شك ربحًا مضاعفًا، وهذا ما يجعل من يود أن يكون كاذبًا حقيقيًا، أن يعرف سر المهنة ويختار أفضل الطرق ليحقق أعلى عائد، كل ذلك في ظل رقابة مفقودة تجيز له فعل ما يريد.
الكذب على المستوى المهني ومع العقل النرجسي عمومًا، ولكي يحقق أعلى مستوى من النجاح ينبغي أن يجعل صاحبه يحسن «لعبة السذاجة»، تعني هذه اللعبة أن يُشعر الطرف الآخر دائمًا، أو أي متعالٍ بالتفوق عليه، وأنه لا شك أذكى منه، هذا النمط من الوصولية الكاذبة عادةً ما يكون لها أثر كبير في نيل أعلى الدرجات المهنية، لا سيما أن رافقها تأكيد على أن مسيرة النجاح لم تكن لولا نصيحة هذا المسؤول، والتيمن دونها لربما أصبح متسولاً على أبواب المساجد، وهذا ما يجعله - لا محالة - يأنس به ويشعر وكأنما قد بذر بذرة التفوق فجنى أثرها إنسان ناجح، كل ذلك سيتحقق بلا ريب حينما تختفي معايير التقييم العلمية والعادلة، ويحل عوضًا عنها التزلف والكذب والنفاق.
إن الأخلاق عمومًا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظام والقانون وقدرتهما على توفير الخدمة والعدالة بجودة عالية، وكلما ارتقى المجتمع ومؤسساته بهذه الأنظمة والقوانين ارتقى بأخلاق الناس، والعكس تمامًا صحيح، يعني ذلك أن شخصًا حينما يجد في النظام ثغرات تمنحه القدرة على تحقيق مكاسب شخصية أو حينما يرى النظام غير عادلٍ ويرى في الكذب وكل الطرق الملتوية سبيلًا لتحقيق رغباته فإنَّه سيتحول - إلا من عصم ربي - إلى شخص ملتوٍ يتبع هذه الأساليب، لذا فإنَّ صناعة الأخلاق الفاضلة تبدأ أول ما تبدأ بصناعة النظام والقانون، ودون أن نفعل ذلك فستبقى الدوافع لرذائل الأخلاق أقوى من أن تعصم صاحبها عنها.