المسألة الطائفية وجدلية الديني والمدني.. النقاش الراهن
تنطلق فرضية الدراسة من المقولة المركزية التالية: أن الأزمات البنيوية التي تصيب الدول، هي المسئولة الأولى عن بروز أزمة الأقليات في المجال العربي. بمعنى أنه لو تشكلت في فضائنا العربي دولة جامعة وحاضنة لجميع الحساسيات والتعبيرات، فإن بروز أزمة الأقليات ستتضاءل في العالم العربي. ولكون الدولة العربية الحديثة، في أغلبها بنيت على عصبية اجتماعية ضيقة، وحاربت لأسباب ذاتية وموضوعية فكرة المشاركة وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة. فإن كل العناوين الأقلاوية بدأت بالتوجس، وبدا أن الدولة بعيدة عن إنصافها وفتح المجال لها للمشاركة على قاعدة المواطنة الجامعة.
فالدراسة تحاول أن تصيغ هذه الرؤية وهي أنه لا علاج لأزمة الأقليات إلا بعلاج أزمة الدولة في المجال العربي. وحينما تغيب الدولة الجامعة والعادلة، فإن وأول ضحايا غياب المواطنة هو أقليات الأوطان والمجتمعات.
والنزعة الطائفية بكل تجلياتها، ليست من لوازم ظاهرة التعدد الديني والمذهبي، لأن بواعثها وأسبابها ليست دينية أو مذهبية في جوهرها، وإنما هي سياسية. أي يتم استخدام المسألة الطائفية كوسيلة سياسية لإدامة أوضاع سياسية تقتضي نبذ مكون أو تعبير في المجتمع فيتم استخدام العنوان الطائفي كتبرير لمسألة احتكار السلطة أو ضيق القاعدة الاجتماعية لها.
كما أنها قد تستخدم لإدامة التشظي الاجتماعي وزيادة الفرقة والتباعد بين أبناء المجتمع الواحد، فيتم استدعاء العنوان الطائفي لتمزيق المجتمع وخلخلته داخليا. ولقد أبانت تكتيكات المسألة الطائفية أنها فاعلة ومؤثرة وقادرة على ضرب أسفين بين أبناء المجتمع الواحد.
وتتغذى كل هذه الحالة من طبيعة الأنظمة السياسية في المنطقة العربية وبالذات دول المشرق العربي.
وفي منظور الورقة أن سبيل تجاوز المعضلة الطائفية في المشرق العربي هو بناء أنظمة سياسية مدنية، ليست معادية لقيم الناس ومقدساتهم الدينية، إلا أنها تتعامل مع أبناء شعبها بوصفهم مواطنين لهم كامل الحقوق وعليهم كامل الواجبات.
ثمة خطايا سياسية كبرى، ارتكبت في تاريخ العرب والمسلمين، ولعل من أبرزها تشريع ولاية القهر والغلبة، وتكييف نصوص الشورى والحرية مع متواليات ولاية القهر والغلبة.. ومن جراء هذه الخطيئة التاريخية، تراكم الفعل الاستبدادي، وتراجع مستوى الحساسية لدى المسلمين تجاه ظاهرة الاستبداد السياسي والاستئثار بالقرار والسلطة والثروة.. ومن جراء هذه الممارسة تشكلت مرجعيات عصبوية وعشائرية لظاهرة الدولة في التجربة العربية - الإسلامية، بعيدا عن مقتضيات الشريعة وأخلاق الإسلام.. ولكي تتأبد ظاهرة الاستبداد في مؤسسة الدولة، تم التعامل مع هذه التجربة التاريخية بوصفها مقدسا، مما أفضى إلى تضخم الانحراف في الدولة، دون وجود قدرة مجتمعية مستديمة لمواجهة هذا الانحراف أو فضحه أو رفع الغطاء الديني عنه.. والمحاولات التي بذلت في هذا السياق جوبهت باستئصال وقمع وقتل وتنكيل من قبل الحاكم ومؤسسته المستبدة. ولاعتبارات عديدة لسنا في وارد ذكرها أو تحليلها كان للمؤسسة الدينية وخطابها التسويغي والتبريري، دوره الأساس في تغطية فعل الاستبداد وتسويغه دينيا واجتماعيا..
وبفعل هذه الممارسات ومتوالياتها، أصبح الواقع الإسلامي برمته، يعيش على الصعيد السياسي، تحت ضغط النمذجة الذي شكله الحاكم المستبد في مراحل تاريخية عديدة.. لهذا فإننا نعتقد أن الفكر السياسي للمسلمين المعاصرين يحتاج اليوم إلى العديد من الخطوات المنهجية والتحليلية والنقدية من أبرزها:
1 - ممارسة النقد العميق للتجربة السياسية للمسلمين، وتفكيك ظاهرة النمذجة السياسية، التي حاولت العديد من الأقلام من ترسيخه وتأبيدة في العقل الإسلامي..
2 - التعامل مع ظاهرة بناء الدول وممارسة السلطة والسياسة بوصفها عملا بشريا لا يمكن أن يتحول إلى فعل مقدس، لا يمكن نقده أو مخالفته..
3 - استنهاض قوى الأمة الحية، لصياغة حالة سياسية مستقلة عن الدولة، وتعمل على تجاوز حالة العجز المزمنة التي تعانيها الدولة العربية - الإسلامية المعاصرة.. وتكون هذه الحالة، هي النواة الأولى لتأسيس تقاليد وثقافة المحاسبة والمراقبة السياسية. بحيث يتحول المجال العام وعلى رأسه مؤسسة الدولة، فضاء مفتوح لجميع الكفاءات والطاقات.
ومن يتحمل المسؤولية في هذا السياق، ينبغي أن لا يتم الرهان على مناقبياته الأخلاقية، وإنما يجب أن يراقب ويحاسب على أداءه وممارسته العامة..
من خلال ثقافة المراقبة والمحاسبة وتقاليدها، يمكن التقليل من الكثير من الأخطاء والخطايا، والمساهمة المباشرة في تصويب بعض الممارسات..
4 - ظاهرة الاستبداد في التجربة العربية - الإسلامية المعاصرة، ظاهرة مركبة، وتدخلت عوامل وروافد عديدة في بناءها وحمايتها في الاجتماع العربي - الإسلامي المعاصر..
لهذا فإن إسقاط الحاكم أو تغييره، لا يعني على المستوى الواقعي انتهاء بنية الاستبداد في الدولة والمجتمع، وإنما هي الخطوة الأولى في مشروع تفكيك ظاهرة الاستبداد وبناء حقائق التداول والديمقراطية في السياسة والمجتمع.. وهذا بطبيعة الحال يتطلب العمل على تغيير النمط الثقافي - الاجتماعي الحاضن لظاهرة الاستبداد، وتفكيك شبكة المصالح الحامية لها «أي لظاهرة الاستبداد وتغول الدولة»، وبناء نظام سياسي - اجتماعي يستند على الشورى والتداول لإدارة الشؤون العامة..
فلا يمكن أن تنهي فعل الغطرسة والهيمنة والإكراه الذي يمارسه المستبد إلا بإنهاء فعل الرضوخ والتبرير والانصياع الأعمى لدى المستبد بهم..
فالمستبد منظورا إليه في ذاته لا يملك من القوة أكثر مما يمنحه المستبد بهم [1] ..
ولعل هذه الحقيقة العميقة، هي أحد المعاني التي تشير إلية الآية القرآنية الكريمة «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» «الرعد 11»..
فحينما تتغير نظرة الإنسان إلى نفسه، وتتبدل عناصر ثقافته ومعاييرها، فإن هذا التغير الذاتي، يقود بطبيعة الحالة إلى تغيير اجتماعي - سياسي خارجي.. فحينما يتحرر الإنسان من الاستبداد، فإن قدرته على إسقاط الاستبداد من الحياة السياسية والاجتماعية تضحى حقيقة قائمة وشاخصة..
5 - على المستوى التاريخي لا يوجد في تراث المسلمين السياسي تجارب وأفكارا منظمة لبناء شرعية الدولة على قاعدة الرضا الشعبي وبناء نظام مدني في ممارسة الحكم. بل إننا نستطيع القول وبفعل تراكم عصور الانحطاط والتخلف في حياة المسلمين، تشكلت موروثات اجتماعية وثقافية مضادة للشرعية الشعبية وبناء عقد سياسي جديد يحدد حقوق وواجبات الحاكم والمحكومين، ومسوغة لفعل الطاعة والخضوع ومتعايشة مع ظاهرة الاستبداد والاستئثار..
لهذا فإننا نعتقد أن الجهد في الفترات الانتقالية ينبغي أن يتجه صوب استلهام التجارب الإنسانية في بناء السلطة والدولة، لأن قيم الإسلام الأساسية لا تشرع بناء دولة دينية - ثيوقراطية، وأنه لا توجد صيغة محددة لشكل الدولة ومؤسساتها، كما أنه لا آليات محددة وفق التجربة التاريخية للمسلمين لاختيار الحاكم ومؤسسات الحكم.. ثمة مبادئ وقيما ينبغي أن تتجسد والإطار الذي تتجسد فيه هذه القيم هي من صناعة الإنسان ومدى تطوره الفكري والقانوني..
لهذا فإننا ندعو بشكل مباشر إلى التفاعل التام مع منجزات الإنسان والحضارة الحديثة على هذا الصعيد، وبناء مؤسسة الدولة والحكم انطلاقا مما وصل إليه انجاز الأمم المعاصرة..
وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن ديمقراطيتنا ستكون ومنذ اللحظة الأولى كديمقراطية الدول المتقدمة، وإنما نقول أن البنية الأساسية التي شكلت النظام الديمقراطي المعاصر، ينبغي استيعابها بشكل تام، حتى يتسنى لنا الاستفادة منها بعيدا عن مركب النقص أو نزعات الانسلاخ والذوبان..
وبدون ذلك سيبقى الواقع العربي - الإسلامي أسير أزماته المتتالية، وأية محاولة للخروج منها بعيدا عن مشروع إصلاح الدولة وإنهاء استبدادها وتغولها سيفضي إلى المزيد من الضعف والتشظي.. لأن «الدول العربية الراهنة مشروعات حروب أهلية. فالأفراد والجماعات في كل دولة عربية هي مجرد تجمع بشري لم يبلغ بعد مرتبة المجتمع، وليس بينها عقد اجتماعي، ولا هي قادرة على التوافق على ثوابت وطنية وهوية جامعة مشتركة ترفع مستوى تلك التجمعات البشرية إلى مستوى مجتمع بالمعنى العلمي للمجتمع..
فالأفراد والجماعات والمجتمعات الفرعية في حد ذاتها لا تبلغ مرتبة المجتمع الواحد، إلا عندما يكون ما يربط بين تلك الجماعات هو أكثر وأكبر مما يربط بين أي جماعة منها مع جماعات خارج حدود الدولة، ويتولد شعور بالمصير المشترك، وتؤمن بالتالي معظم جماعات المجتمع وأفراده بضرورة توفير متطلبات تأمين المستقبل المشترك» [2] فلا جوهر للأنظمة الشمولية إلا الاستبداد والديكتاتورية، وإن تجلببت بجلباب ديني - تقليدي أو جلباب مدني - حداثي.. والأنظمة السياسية التي ابتليت بها المنطقة العربية، هي أنظمة استئثارية - ذات قاعدة اجتماعية ضيقة، وتأسست واستمرت على نزعة عصبوية محدودة، واستخدامها لشعارات دينية أو مدنية، لا يلغي جوهرها الاستئصالي - الديكتاتوري..
وهذا الجوهر لاعتبارات سلطوية وبرغماتية، يتغطى إما بغطاء الدين وشعاراته، أو الحداثة والعلمانية وشعاراتها.. ولكن هذه الأنظمة في حقيقتها بعيدة عن قيم الدين كما هي بعيدة عن قيم العلمانية والمدنية.. فهي مارست العنف السياسي والاستئثار بالقرار ومصادر القوة، تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم العلمانية.. إلا أن جوهرها الاستبدادي لم يتغير ولم يتبدل.. فقيم الإسلام الكبرى لا تسوغ الاستبداد والاستئثار، كما أن المدنية لا تبرر نزعات الاستفراد والديكتاتورية.. ومن جراء هذا الالتباس الذي خلقته الأنظمة الشمولية في الواقع العربي المعاصر، لم نتمكن كشعوب عربية من الاستفادة من بركات الإسلام الحضارية، كما إننا لم نتنعم بمقتضيات المدنية والعلمانية على مستوى السياسة وإدارتها والحقوق وصيانتها..
والديمقراطية كممارسة مؤسسية مستديمة، مطلوبة بصرف النظر عن طبيعة النظام السياسي سواء كانت دينية أم مدنية.. ولا قيمة لأي نظام سياسي إذا لم يكن ديمقراطيا ويفسح المجال القانوني لكل مكونات شعبه للمشاركة في الحياة العامة بكل مستوياتها.. لأن الأنظمة الشمولية - الاستبدادية، دائما تعمل على تحصين نفسها إما بأيدلوجية دينية أو مدنية - حداثية..
ومن الضروري أن تدرك الأطراف السياسية وبالذات الإسلامية لكونها تتصدر المشهد السياسي أن الديمقراطية لا تعني فقط الوصول إلى السلطة بالانتخابات الشعبية، وإنما إدارة الحياة السياسية بعقلية دستورية - توافقية لأن «من الأخطاء الشائعة الاعتقاد أن انتخاب هيئة ما بالأكثرية يعطيها حق الانفراد بالقرار والاستئثار بالسلطة، وهو في الواقع لا يعطيها سوى حق تصريف الشؤون العامة.. بموجب القوانين الدستورية.. لذلك تقتضي الديمقراطية أن تقوم الأكثرية الحاكمة بالتداول مع الأقلية ومع الفئات المعنية في المجتمع للاستئناس بآرائها وموافقتها ما أمكن، والنظر في الطرق التي يمكن مراعاتها بها.. فالحكم الديمقراطي هو الذي يحاول تخفيف قساوة القرار على الجماعة الخاسرة.. إن العقيدة الإسلامية التي تعتمد مبادئ التيسير على العباد وتنهي عن التعسير تمثل الفلسفة الإنسانية الديمقراطية خير تمثيل» [3]
الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في الاجتماع العربي المشرقي، هي حقيقة دينية وثقافية واجتماعية، لا يمكن نكرانها، وبوصف هذه الحقيقة جزء من النسيج الاجتماعي فهي تمارس دورها في الحياة بشكل طبيعي، وتتعرض إلى ضغوطات سياسية وأمنية كما تتعرض بقية مكونات الاجتماع العربي. ولكن هذه الحقيقة قد تتحول إلى مصدر لأزمة سياسية وثقافية، من جراء طبيعة الخيارات السياسية المتبعة من قبل مؤسسة الدولة.. ومن البديهي القول أن طبيعة الخيارات والمشروعات السياسية المتبعة هي التي تحدد بروز أزمة الأقليات أو انكفائها. فإذا كان الخيار السياسي استيعابيا ومرنا ويمثل كل الحساسيات الثقافية والشعبية فلا أزمة حقيقية للأقليات. ولكن إذا كان خيار الدولة السياسي استئصالي، تعسفي، ديكتاتوري فإن هذا الخيار سينعكس بشكل سلبي وسريع على وجود الأقليات.
فطبيعة وبنية الدولة هو الذي يحدد هل ثمة أزمة في وجود وواقع الأقليات أم لا. لذلك فان بناء الدولة المدنية الجامعة هو سبيل التحرر من أزمة الأقليات.
فالحل التاريخي لمعضلة الطائفية في الاجتماع العربي المعاصر هو إعادة بناء الدولة في المجال العربي. لأن طبيعة الدولة وبنيتها الداخلية هي المسؤول الأول عن نشوء وبروز معضلة الطائفية. ولا حل حقيقي إلا ببناء دولة مدنية لا تجعل من أديان الناس ومذاهبهم كوسيلة لإدامة السيطرة والهيمنة، أو منحهم ما لا يستحقون أو منعهم مايستحقون. فالدولة المتعالية على انقسامات مجتمعها الأفقية والعمودية، هي القادر على حل معضلة الطائفية في الاجتماع العربي المعاصر.
وإن الدول الأيدلوجية بصرف النظر عن طبيعة هذه الأيدلوجيا تساهم في بناء مجتمعات متمايزة عن بعضها البعض على قاعدة انتماءاتها التاريخية والتقليدية ف «المجتمع الطائفي والمذهبي هو بالتعريف، مجتمع مغلق، تنكفئ جماعاته على داخلها الفئوي لتتمايز من بعضها أولا، ولتقيم لنفسها بذاك الانغلاق حزام أمان بحميها من غائلة غيرها، ثانيا. هذا معناه أن الجماعات المغلقة التي من هذا النوع تتخاوف، لأنها تتبادل التهديد المضمر والمعلن بينها، فتدفع الواحدة منها الأخرى إلى التهيب والتحسب، وتمرين الاجتماع الأهلي الفئوي، أو العصبوي، الداخلي على طقس الدفاع الذاتي، من طريق التربية والتكوين ووسائط المخاطبة المختلفة «الإعلامية، الثقافية، المسجدية، الكنسية، الدعوية، الحزبية..». ولا تميل هذه العصبيات الطائفية والمذهبية إلى معاداة بعضها، وإلى الخوف من بعضها، إلا لأنها متشبعة بثقافة الإنكار: إنكار حق «الآخر» في منازعتها «تمثيل» الحقيقة أو سدانتها! جين يكون لكل جماعة مسجدها أو كنيستها، وأوقافها، ومدارسها وتقويمها الخاص بمواقيت الأعياد الدينية، وأحزابها، ومؤسساتها الطبية، وأحوالها الشخصية.. إلخ، وهي جميعها نتاج مؤسسي لرأي قد يكون فاه به أحد من ألف عام أو يزيد! فليس من مغزى لذلك سوى أن كل واحدة منها تحسب نفسها «الفرقة الناجية»، الفرقة المخلدة في الجنة، وإن ما عداها في ضلال مبين! [4]
فالدولة الحديثة لا تبنى إلا بسيادة رابطة المواطنة كحقيقة قانونية ودستورية وسياسية، بحيث لا يكون العنوان الديني أو الذهبي أو القومي أو العشائري أو العرقي هو محدد الحقوق والواجبات. فالمواطنة وحدها هي الناظم لمنظومة الحقوق والواجبات.
ومن المؤكد أن أزمة المشروعية السياسية التي تعانيها الدولة العربية المعاصرة، لها إسهام مباشر في تأسيس وإنتاج ظاهرة وأزمة الأقليات في المجتمعات العربية. وتأخذ هذه الأزمة أشكالا مختلفة منها:
[أن السلطة والدولة لم تقم بمقتضى الشرعية الدستورية والديمقراطية ومن خلال الاختيار الشعبي الحر ولم تعد إنتاج نفسها من خلال آليات التمثيل السياسي الأصيل والتداول على السلطة من قبل قوى المجتمع السياسي الحديث، وإنما قامت على أساس الغلبة والاستئثار والاحتكار مدنيا كان أو عسكريا، أو على أساس تغلب عصبية أهلية على أخرى. ومنها أن العلاقة بين السياسي والديني في تكوين السلطة وفي نظام اشتغال الدولة ظلت ملتبسة على الدوام فجعلتها عرضة للاعتراض الاجتماعي والسياسي من هذه القوة أو تلك. في الحالتين: كان قيام سلطة أو دولة على هذا النحو سببا لتنازع داخلي عليها ولاتهامها من مواقع سياسية مختلفة فهي علمانية عند الإسلاميين لأنها قائمة على أسس طائفية أو عشائرية لا على علاقات المواطنة، وهي مستبدة عند المعارضات المدنية لأنها تفتقر إلى قواعد الحياة الديمقراطية من حريات وتمثيل وتعددية حزبية، وهي طائفية مذهبية في نظر معارضات طائفية ومذهبية تطلب حصة من المشاركة على أساس عصبوي. ولهذه الأسباب وغيرها، تتغذى تناقضات البنية الاجتماعية من أزمة المجال السياسي وتمثيل أما غياب حالة حقيقية من الحداثة السياسية إلى التعبير عن نفسها باستعارة لغة غير سياسية للتعبير عن مطالب سياسية.. [5] وتنعكس هذه التركيبة السياسية على طبيعة العلاقة بين تعبيرات المجتمع الواحد، بحيث تكون التكوينات العصبوية هي التي تشد المجموعات البشرية على حساب الوطن الواحد والجامع.. والمسؤول الأول عن بروز هذه العصبيات هو بنية الدولة القائمة على العصبيات التقليدية التي تمنح بعض المجموعات ما لا تستحق وتمنع عن مجموعات أخرى ما تستحق. وبالتالي لا يكون هناك خيار أمام المجموعات الممنوعة من حقوقها ومواطنيتها إلا الالتجاء صوب انتماءاتهم التقليدية كخط دفاع عن الذات وكوسيلة لرفع الظلم والتمييز الذي تشعر به. وان طبيعة المشاكل الطائفية التي تبرز على السطح في دول المشرق العربي، هي نابعة في جوهرها من طبيعة وبنية الدولة القائمة. فهي بصرف النظر عن أيدلوجيتها، دولة لبعض مكونات الشعب وليست لجميع الشعب. لذلك فهي تمنح البعض من هؤلاء الشعب مايستحقون ومالا يستحقون، وتمنع عن بعض شعبها مايستحقون. فالبنية العميقة للدولة، هي التي تؤسس وتنمي الفوارق بين المواطنين. ولايمكن أن تعالج المشكلة الطائفية في ظل دولة قائمة على عصبوية ضيقة وطاردة لبعض تعبيرات شعبها. وعليه فان المشكلة الطائفية في دول المشرق العربي، هي ذات طبيعة سياسية، ولا يمكن أن تعالج إلا بتغيير بنية الدولة وإصلاح أوضاع الدول، بحيث تكون دولة للجميع وممثلة لجميع المكونات.
يتحدث الفيلسوف الأمريكي «جون رولز» أن العلمانية شرطا لازما لتأسيس ما يسميه ب «الوفاقات المعقدة» فهي أي العلمانية حجر الأساس لعصر الحداثة السياسية.. ومجتمعات ما قبل الحداثة السياسية تتسم بحالة مزمنة من الصراع الديني والطائفي والتدابر السياسي العنيف بحكم عجزها عن تلمس طرق الوفاق وتوليف المصالح المتقاربة.. فإن مجتمعات الحداثة السياسية، تتسم بقدرة على السيطرة على معضلة الانقسام الدينية الطائفي والسياسي استنادا إلى مبدأ حيادية الدولة، ثم باعتماد آليات وفاقية بين الأفراد والمجموعات بصورة عقلانية خارج حلقة المنازعات الدينية والمذهبية. أي استنادا إلى الخيار الحيادي «العلماني»..
إلا أن الواقع السياسي والاجتماعي في التجارب الإنسانية المختلفة، وما ينتبه إليه «جون رولز» نفسه وكذلك علماء ومفكرين آخرين أن العلمنة السياسية ليست توأما ملازما ودائما للوفاق أو السلم المدني، بل إن كثيرا ما تكون هذه «العلمانية» مصدرا وسببا للانقسامات الاجتماعية والسياسية ومغذية لمناهل الاستبداد السياسي.. وفي التجارب العلمانية العربية، عجزت عن معالجة وبناء التسويات الاجتماعية وبناء السلم المدني المفقود.. والحقل العمومي للدولة في هذه التجارب لم يكن مستقلا، بل ساحة للتدخلات الجائرة من قبل النخب السياسية والاقتصادية السائدة..
فحملت معها «أي التجربة العلمانية في البلدان العربية» أقدارا متفاوتة من التسلط السياسي والقهر الاجتماعي وتضخم أدوات الرقابة والأمن والردع..
ونحن هنا لسنا في صدد بيان وتوضيح تهافت هذه المقولة أو التجربة، وإنما قراءة الواقع السياسي بكل تجاربه وأطواره بعقلية نقدية - تواصلية لفتح دروب جديدة في الفهم والتفكير..
ولعل من الأخطاء المنهجية القاتلة، حينما نتعامل مع الأفكار والتجارب الإنسانية، بوصفها حالة نمطية منغلقة على نفسها، أو حالة مكتملة وموحدة،، فعلى المستوى الواقعي إن أكثر التجارب السياسية التي ساهمت في تشظي وتجزئة مجتمعاتنا العربية بشكل أفقي وعمودي، هي التجارب التي تصرح صبح مساء بالوحدة والاتحاد والمصير الواحد..
كما أن التجارب السياسية التي حملت لواء الإسلام والحكم باسمه، ساهمت بشكل مباشر في خلق ردود فعل مجتمعية نابذة للدين وكل مظاهر التدين..
وعليه فإن المطلوب التعامل مع هذه المفاهيم، بوصفها مفاهيم ليست نهائية أو ناجزة، وإنما هي لا زالت مفتوحة على تجارب الإنسان وإبداعاته المختلفة..
فقيم ومبادئ الإسلام والعلمانية والحداثة والديمقراطية وغيرها من المفاهيم المفتاحية، هي مفاهيم خاضعة لإفهام وتأويلات متنوعة، وإن أية محاولة لإلزام المجتمعات بفهم واحد، سيفضي إلى ممارسة القسر والاستبداد، لأنها مفاهيم بالغة التعدد والاختلاف، وأية محاولة لقسر الناس على فهم واحد أو مقاربة واحدة، سيفضي إلى ممارسة النقيض منها - فباسم الاشتراكية تبلورت في التجارب السياسية التي تنادي ب «الاشتراكية» نزعات رأسمالية متوحشة، ألغت موقع ودور الطبقة الوسطى.. وباسم الحرية تم بناء أنظمة قمعية - شمولية، حاسبت الناس على ضمائرهم ونياتهم قبل أفعالهم.. وباسم الدين تم ممارسة النهب واحتكار عناصر القوة في يد فئة وطبقة ضيقة لا تتعدى عدد أصابع اليد الوحدة.. فهذه المفارقات الصارخة في تجاربنا السياسية المختلفة، هي وليدة نزعة نفسية وعملية وسلوكية، تدفع نحو فرض معنى وتفسير واحد لقيم كبرى لا أحد يختلف حول ضرورتها للوجود الإنساني..
فالمساواة قيمة كبرى لا أحد يختلف حول ضرورتها مهما كانت أيدلوجيته، ولكن الأنظمة والتجارب السياسية التي حكمت أو سادت باسم هذه القيم، لم تنتج على المستوى الفعلي إلا النقيض «أي تنمية متسارعة للفوارق بين أبناء المجتمع الواحد»..
ولعل تجارب الأنظمة العربية التقدمية، ليست خافية علينا..
فهي أنظمة حكمت باسم التقدم والحرية والوحدة والمساواة والعدالة، ولكنها لم تنتج إلا التخلف والاستبداد والتجزئة والطبقية المقيتة..
لهذا فإننا نعتقد أن الخطوة الأولى في مشروع معالجة معضلة الاستبداد الديني والسياسي في مجتمعاتنا، هو عدم التعاطي مع هذه القيم والمفاهيم بنزعة أيدلوجية، تفضي إلى قراءة واحدة وتفسير واحد لها، مما يساهم في إفقار الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهو المناخ الذي يسمح ببروز نزعات استبدادية غير مسبوقة..
والدولة بوصفها قطب الرحى في المجال العام وإدارته، لا تنتمي إلى المجال الديني «حتى لو كان المتدينون هم الذين يسيرون شؤون الدولة ويقومون بإدارتها» والذي يعتبر الدولة بوصفها مؤسسات معنية بإدارة المجال العام تنتمي إلى المجال الديني، فهو يؤسس لاستبداد ديني وسياسي معا.. فالدولة بصرف النظر عن أيدلوجيتها، هي نزاعة إلى ممارسة السلطة والهيمنة على الحياة والمجال العام، وإذا كانت هذه النزعة مسوغة دينيا، فإن النتيجة الفعلية هو تحالف الديني مع السياسي في ممارسة السلطة واحتكار هذا المجال العام.. فلا معنى أن تتحول الدولة كمؤسسات إلى دولة دينية إلا ممارسة أدوارها ووظائفها بغطاء ديني.. فالدولة ينبغي أن تكون مدنية، حتى لو كان القائمون عليها هم حزب إسلامي أو جماعة متدينة، لأن الممارسات التدبيرية التي تقوم بها الدولة، ممارسات تتجه إلى مصلحة الناس المسئولة عنهم، بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم.. وحينما نقول ذلك، لا ندعو ولا نشرع أن تكون الدولة بدون مرجعية.. فهي «أي الدولة» من الضروري أن تكون بمرجعية فكرية وقانونية لتسيير شؤونها وفق مقتضيات هذه المرجعية، ولكن مرجعية الدولة شيء، وتحولها إلى مؤسسة دينية شيء آخر..
«لذلك، ثورات الربيع العربي لا ولن تكتمل من دون قيامات حقيقية لدولة مدنية، والأولوية فيها لإعادة إنتاج وطنية شعبية موحدة، تعيد تشريع دساتيرها انطلاقا من عقود وعهود المواطنة وسلطة القانون والمجتمع المدني - الديمقراطي التعددي، كقاعدة ناظمة لممارسة وسلوك ديمقراطيين، تشريع وجود شرعية قانونية ودستورية تعتمد الحرية والمواطنة والقانون، كمبادئ ناظمة لدولة عمادها سياسة مدنية تمنع هيمنة الديني على شؤون البشر باسم السماء» [6]
ثمة مفارقة عميقة بين مفهوم العلم ومفهوم الفكر: مسائل العلم من المسائل التي تميل نحو الثبات والاستقرار.. بينما مسائل الفكر من المسائل التي تميل نحو التحول والتطور والتغيير.. والأيدلوجيا هو تحويل الفكر إلى حالة من التقديس والثبات.. لهذا فإن الجماعات الأيدلوجية، هي تملك الجماعات التي تتعامل مع أفكارها بوصفها حالة ثابتة ونهائية وليست مرنة.. وهذا يفضي إلى إعطاء صفة التقديس لفكر ديني أو سياسي محدد.. مع العلم أن هذا الفكر هو نتاج بشري ووليد بيئته الاجتماعية والثقافية.. وعليه فإن المساوقة بين الدين والفكر الديني، بين الشريعة وفهم الشريعة، هو الحالة الأيدلوجية التي ينبغي أن نرفضها سواء في مؤسسة دولة أو لدى جماعة بشرية فالمهمة الأساس بالنسبة إلى الدولة، ليس تعميم نموذج أيدلوجي معين، وإنما تطبيق وتنفيذ القوانين بدون تحيز أو افتئات، وأن تمارس مسؤولياتها المختلفة باستقلالية إزاء القوى الاجتماعية والسياسية الموجودة، فهي تمثلهم وتعبر عن مصالحهم العليا والنوعية، ولكنها ليست ساحة لتنافساتهم وصراعاتهم.. ومن خلال صلتها بالواقع الاجتماعي والسياسي الأهلي والمدني، تجدد نفسها وتستوعب الطاقات الوطنية الجديدة وتحول دون تحولها إلى طابع شمولي - كلياني، يقضم حقوق المجتمع أو تعتدي على حريات الأفراد وتحول دون السماح لهم بالتعبير عن آراءهم وأفكارهم ومشاعرهم..
وإن إنجاز مفهوم «الدولة المدنية» يتطلب الآتي:
1 - إعادة بناء الدولة في المجال العربي المعاصر على أسس الحق والقانون والمواطنة، والتحرر من النمط الاستبدادي للدولة، الذي قضى على كل عناصر القوة والحيوية في العالم العربي.. «إنها الدول التي يفترض أن ينص دستورها على الفصل بين سلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويكون فيها لكل من المؤسستين العسكرية والأمنية دورها المحدد للقرار السياسي الذي تحدده السلطة السياسية، من دون أي تجاوز لهذا الدور في أي شكل من الأشكال.. على أن يكون الانتخاب الحر، وفق قوانين ديمقراطية حقيقية، هو الأساس في مل ما يتصل بالمؤسسات الدولتية، وبكل مؤسسة من نوعها في المجتمع.. ومن شأن قيام مثل هذه الدولة الديمقراطية الحديثة في بلداننا أن يهيئ الشروط من أجل التكامل بينها وبين مؤسساتها الديمقراطية، من جهة، وبين المجتمع ومؤسساته الديمقراطية، من جهة ثانية، في ما يتصل بالشأن العام، بقضايا المواطنين ومصالحهم.. ومن شأن مثل هذه العلاقة من الشراكة والتكامل بين الدولة ومؤسساتها والمجتمع.. وهي رقابة تسهم في تسديد وظيفة القوانين في اتجاه تأمين الحرية، من جهة، وتأمين الشروط الديمقراطية لممارستها، من جهة ثانية.. كما تسهم هذه الرقابة في وضع حد للفساد وللرشوة وللتزوير ولهدر المال العام والمال الخاص، إذ هي تجعل من الشفافية أساس كل نشاط تقوم به مؤسسات الدولة، وتقوم به مؤسسات المجتمع.. ومن الواضح أن المقصود بمؤسسات المجتمع في المجالس المحلية المنتخبة ديمقراطيا، ومجالس البلديات المنتخبة ديمقراطيا، والأحزاب السياسية والنقابات العمالية والزراعية، ونقابات المهن الحرة، والجمعيات الثقافية والاجتماعية، وجمعيات أرباب المال والعمل في ميادين أعمالهم المختلفة، التي يتكون منها الاقتصاد الوطني في قطاعاته المختلفة.. وإذا ما تحقق هذان التكامل والشراكة بين الدولة والمجتمع فإنهما سيهيئان الشروط لقيام ما أصبح يعرف اليوم بالحكم الرشيد، الذي يتمثل في تحقيق الأهداف الأساسية التالية للبلد: ترسيخ الحرية، واحترام حقوق الإنسان الفرد، وحقوق المواطن الفرد، وتحقيق التقدم الاقتصادي للبلاد، وحماية البيئة، وتعزيز التعليم في مراحله المختلفة، وتعزيز البحث العلمي، وتوفير الشروط لازدهار الثقافة وتراكم المعرفة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال جملة من الضمانات والعطاءات والخدمات، وخلق فرص جديدة للعمل، واستيعاب الكفاءات داخل البلاد منها لهجرة الأدمغة [7]
2 - بناء وتطوير مؤسسات المجتمع المدني، فبدل أن يتوزع المواطنون بين قبائل وعائلات وطوائف يتوزعون مدنيا بين أحزاب وجمعيات ونقابات وما أشبه..
على المستوى الغربي ثمة بلدان وتجارب، حاربت الكنيسة الحداثة السياسية والثقافية، فنتج عن ذلك تقلص وتراجع حضور الدين في الحياة العامة. كما هو الشأن في اسبانيا. وفي بلدان أخرى اضطلعت الكنيسة بدور محوري في مواجهة الأنظمة الشمولية، فكانت طليعة تنويرية للمجتمع، فشهدت يقظة دينية جلية للعيان وبارزة في الحياة العامة كما هو شأن بولندا. فالتجربة الغربية ليست على نسق واحد، وهناك تفاوت بين البلدان الغربية في طبيعة الجدل المعرفي والسياسي بين الدين والدولة في فضاء هذه الدول والمجتمعات. إلا إننا نستطيع القول إن أسس وأصول هذا الجدل واحدة في الدول الغربية مع تمايز في طبيعة اللحظة التاريخية التي تمر بها هذه الدول. فاغلب هذه الدول لم تقص الدين تماما من الحياة العامة، وإنما حددت له مكان وموقع ينشط ويتحرك فيه، دون الإضرار أو التدخل المباشر والفج في أداء الدولة ومواقفها المختلفة. كما إن التكوين المعرفي والفلسفي للكثير من أطراف النخب السياسية في الغرب، هي متأثرة ومستلهمة للقيم الدينية - المسيحية.
فالغرب لم يطرد الدين من فضاء الدولة، وإنما جعل مؤسسة الدولة هي المهيمنة والمسيطرة على الفضاء الديني في الكثير من الجوانب والأبعاد.
والسلطة ومؤسساتها المختلفة في ظل الأنظمة الغربية الديمقراطية، ليست منفصلة عن مجتمعها، وشرعيتها «أي سلطة» ليست نابعة من خارج المجتمع وخياراته السياسية، بل هي على مستوى الشرعية والمشروعية نتاج مباشر لخيارات المجتمع وانتخاب هذه السلطة من أجل تحقيق هذه الخيارات في الواقع الوطني العام. فلا شرعية للسلطة وفق الرؤية الديمقراطية المدنية إلا شرعية الجمهور التي منحها صوته وأختارها لإدارة شؤون الدولة والمجال العام. [إن السلطة الديمقراطية تنتشر تحت طالع المثولية. فهي ليست سوى تعبير عن المجتمع، والمجتمع يمثل نفسه بنفسه من خلالها، ومن داخل ذاتها. باستثناء أن هذه العملية تفترض ابتعاد السلطة، أي تمايزها البين عن المجتمع. هذا هو الشرط الذي يجعل من الممكن التحقق من نسبة التماثل بين هذين القطبين.
فالديمقراطيات المعاصرة لم تجد سبيلا إلى الاستقرار إلا بدءا من اليوم الذي اكتشفت فيه أنه من الضروري القبول بالفارق من أجل تقدير الوفاق، بدلا من البحث بلا جدوى عن التطابق. فالارتباط الميتافيز يقي بين السلطة والمجتمع أبعد من أن يقرب بينهما، بل هو عمليا يفصل بينهما.. وكلما توفرت المطابقة بينهما في الجوهر، كلما أزداد الفارق الوظيفي بينهما. هذا يعني أن الغيرية المستبعدة لصالح تفوق معياري عادت لتنبثق من جديد داخل الآلية السياسية نفسها، بصورة غير مرئية، وغير معروفة بالنسبة للمعنيين بها، ولكن بفاعلية شديدة. إن ما كان يتخذ مظهرا دينيا بحتا نراه مجددا وبشكل عملاني في قلب الرابط الجماعي. [8]
والذي يؤكد أهمية التمييز بين الدولة والدين في الفضاء الغربي، وجود تفسيرات كنسية شمولية سلطوية للدين بحيث إذا سادت هذه التفاسير ووصل أصحابها إلى السلطة، فهم سيمارسون كل ألوان العنف والقسر من أجل تعميم قناعاتهم وأفكارهم. والذي يمارس اليوم العنف والتكفير والتفجير ضد المختلفين معه في السياسة أو الدين أو المذهب، فإنه إذا أمتلك مقدرات الدولة فهو سيوظفها لصالح مشروعه الأيدلوجي فسيعمل من موقع السلطة والقدرة على ممارسة القسر، لإقناع الشعب خياراته وأفكاره وسياساته.
وهذا يعني على المستوى العملي تأبيد الاستبداد السياسي بتغطية دينية.
بحيث يتكامل الاستبدادان الديني والسياسي. وعلى المستوى التاريخي في التجربة الغربية فإن أسوء اللحظات من الناحيتين السياسية والدينية هي تلك اللحظات التي يتكاتف الديني بالمعنى الكنسي مع السياسي لبناء سلطة سياسية دنيوية، تمارس الاستبداد بكل صنوفه فالتمييز بين الدين والدولة لا يعني إلغاء موقع الدين من حياة الناس، وإنما ضمان هذا الموقع حتى لا تتعدى الدولة لمؤسساتها المختلفة على مجال الدين. والمنظرون الغربيون يتحدثون عن مجموعة من الاعتبارات تؤكد ضرورة التمييز بين الدين والدولة ويمكن بيان هذه الضرورات في النقاط التالية:
1 توزيع عناصر القوة والسلطة، وعدم اجتماعها في مساحة اجتماعية ضيقة. لأن احتكار عناصر القوة والسلطة في يد فئة محدودة، يفضي بالضرورة إلى الاستبداد والديكتاتورية في أبشع صورها.
2 حتى لا تتحول التفسيرات البشرية للدين إلى أيقونة مقدسة، لا يمكن نقدها وإبراز عيوبها، بحيث سيتم التعامل معها بوصفها متعالية على زمانها ومكانها، وهي في حقيقة الأمر ليست كذلك. مما يؤدي إلى قيام السياسي بتوظيف التفسير الديني المدعوم من قبله لتأبيد سلطته، ومنع أي شكل من أشكال الاعتراض عليه. فلكي يتحرر الديني من سطوة السياسي، ثمة ضرورة قصوى للتمييز بين مجال الدين ومجال الدولة.
3 لكون المجتمع متعدد ومتنوع أفقيا وعموديا، وحتى لا تتحول الدولة بكل مؤسساتها إلى حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر لاعتبارات أيدلوجية بحيث تتحول إلى دولة مع البعض من مكونات شعبها وضد مكونات أخرى من شعبها. وهذا بطبيعة الحال يفضي إلى تفشي الظلم والتمييز بين المواطنين، مما يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي. لذلك وحتى تكون الدولة دولة للجميع بدون الافتئات على أحد أو الانحياز لأحد على حساب أحد آخر، ثمة ضرورة للتميز، حتى تصبح الدولة بكل هياكلها متعالية على انقسامات شعبها ورافعة لهم جميعا نحو مواطنة جامعة بدون تمييز بين المواطنين. لذلك على مستوى التجربة الغربية أرتبط تاريخ العلمانية بتاريخ الدولة. بمعنى أن النخب الغربية لم تتمكن من بناء دولة عادلة وديمقراطية وحاضنة لجميع مواطنيها إلا بالخيار العلماني.
لذلك تراكمت الممارسة العلمانية في أروقة مؤسسات الدولة، وترافق بماء الدولة مع صعود الخيار العلماني، بوصفه الخيار الذي يحترم الدين دون معاداة ويفسح له المجال لممارسة دوره على صعيد الإيمان الشخصي ومؤسسات المجتمع المدني. مع إدراكنا التام أن ثمة تجارب علمانوية غربية، حاربت الدين وعملت على إقصاءه من الوجود والتأثير فحين تفقد المؤسسات الدينية قدرها الجامع والحاضن للجميع، لامناص من التمييز بين مجال الدين ومجال الدولة. لذلك فإن الدولة التي تدار بعقلية مذهبية مغلقة، بصرف النظر عن صوابية هذا المذهب أو حقانيته في الاعتقاد والإيمان، فإن هذه الدولة ستعبر حين الالتزام بمقتضيات العدالة النسبية عن آمال وحساسيات بعض شعبها وليس كل الحساسيات الموجودة في شعبها. لذلك فإننا نعتقد أن كل دولة في الفضاء الإسلامي، تحول الدين الإسلامي إلى أيدلوجيا من خلال تفسير محدد ومعين لقيم الدين ومبادئه الأساسية، ستساهم في تنمية الفوارق بين المواطنين ولن تتمكن من الوفاء بكل حاجات ومتطلبات كل مكونات شعبها. ونحن هنا نفرق بين الدين كمنظومة قيمية وتشريعية متكاملة، وبين الأيدلوجيا الدينية وهي أحد تفاسير هذا الدين. وليس من الطبيعي هنا أن نساوي بين الدين المنزل من الخالق عز وجل وبين الاجتهادات البشرية التي قد تصيب وقد تخطأ. وحين المفاضلة والاختيار بين دولة تستند إلى رؤية دينية خاصة ليست محل إجماع وتوافق، وبين دولة تستهدي بقيم الدين العليا، وتتعامل مع المواطنين على حد سواء بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم الأيدلوجية. فنحن نختار الدولة المدنية التي تعتبر قيم الإسلام مرجعيتها العليا وتتعامل مع أبناء شعبها على قاعدة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات. فنحن لسنا مع قسر الناس وإخضاعهم لرؤية دينية واحدة، كما إننا لسنا مع دولة تتدخل بشكل غير قانوني في المجال الخاص للأفراد والمواطنين. فالمطلوب حياد الدولة كمؤسسة تجاه عقائد المواطنين. حتى لو التزم أفراد هذه المؤسسة برأي دين أو عقيدة دينية خاصة. فمن حقه ذلك، ولكن ليس من حقه أن يوظف موقعه الرسمي لتعميم عقيدته أو الترويج لأرائه، فالدولة كمؤسسة على مسافة واحدة بين جميع المواطنين، حتى لو تعددت انتماءات المواطنين وقناعاتهم الفكرية والسياسية. والدولة هنا معنية بتطبيق القانون المنبثق من إرادة الشعب، وليس التفتيش في ضمائر الناس وقلوبهم بمعنى أنها دولة تحترم الحريات الفردية في إطارها الحقيقي وفي كل مالا يتعلق بالمواد الإجبارية في القوانين العامة. إنها تسمح بشكل خاص للمعتقدات الدينية وللعبادات بأن تنمو بحرية خارجها، على أن لا يمتد مطلب حق ممارسة حريات المعتقد المحق إلى أفعال وتدخلات تخالف الحق العام، وعلى أن لا تسعى أي ديانة «أو مذهب» إلى منح مؤسساتها سلطة تنافس السلطة المدنية، وتناوئها في مجالها وتسعى إلى القضاء عليها، هناك تسامح كامل إذا، طالما أن السلطة المدنية ليس لها أي منافس في مجالها، في ما يتعلق بالقيم الجوهرية التي باسمها تسود الجماعة، وهي قيم ليست في هذه الحالة سوى تلك التي ينص عليها العقد الاجتماعي].. [9] .. فهي دولة لها سلطة تطبيق القانون والحفاظ على النظام العام وتسيير شؤون الناس الداخلية والخارجية. وتمارس كل هذه الأدوار والوظائف على قاعدة الدستور ومبادئه الأخلاقية والقانونية.