مفهوم الوحدة في فكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين
في ظل التطورات والتحديات الراهنة والمطروحة بإلحاح على العالمين العربي والإسلامي، يبدو الحديث حول الوحدة الداخلية للعرب والمسلمين في المستويات والمجالات المختلفة من موجبات المرحلة وضرورات الراهن. وذلك لكي تساهم حقائق الوحدة ومضامينها المعرفية والحضارية في توجيه حركة الراهن وصولاً إلى المشاركة في صياغة مستقبل الأمة والوطن.
والحديث عن الوحدة في مستوياتها المتعددة، لا يعني الحديث عن كليات أو قوالب فكرية جاهزة، وإنما هو حديث عن مسار اجتماعي وسياسي وحضاري، يتجه بقوة ويندفع بحماس إلى التشكل وفق السياقات الإسلامية الحضارية. ومن هذا المنطلق نسعى في هذه الدراسة، أن نبلور مفهوم الوحدة لدى الإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين «رحمه الله».
ولعل من أوليات مهامنا تجاه العلماء والمفكرين، هو أن ندرس مشروعاتهم الفكرية والثقافية، ونقرأ بعمق تجاربهم الإصلاحية، حتى يتسنى لنا جميعاً استيعاب الدروس والعبر، وهضم المحاور الكبرى لتلك التجارب والمشروعات.
في البدء لابد من القول أن الباري عز وجل قرن وحدة الأمة بعقيدة التوحيد. إذ قال تعالى ﴿إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ [1] فالانحراف في العقيدة يفضي إلى الانحراف في إدراك مفهوم الأمة. فالوحدة كمفهوم مجتمعي وسياسي بحاجة دائماً إلى عقيدة سليمة وحية في حالة الوعي والسلوك. لذلك نجد أن هناك علاقة وطيدة بين مفهوم الوسطية ومفهوم الوحدة. إذ أن التطرف بكل صوره وأشكاله لا يصنع وحدة، وإنما يؤسس لكل عوامل التمزق والتفتت والتجزئة. ويشير إلى هذه المسألة الإمام شمس الدين بقوله: ”والأمر في وسطية الأمة كالأمر في وحدتها سواء. فالوسطية هي تعبير عن توازن عام وشامل في علاقات الإنسان بمحيطه وبالعالم على مستوى الوعي وعلى مستوى السلوك، وهذا التوازن مرتبط موضوعياً بعقيدة التوحيد من جهة وبوحدة الأمة من جهة أخرى.. وعقيدة التوحيد هي المعيار الذي يحكم حالة التوازن، وأي خلل فيها يحدث خللاً عند الإنسان في وعي موقعه من المجتمع والعالم، ومن ثم يختل التوازن في العلاقات بينه وبين محيطه فتنعدم الوسطية“، والآية الأساس في الوسطية هي قوله تعالى ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا﴾ [2] .
ومن خلال العديد من التجارب العربية والأجنبية، نرى أن استخدام القوة والقسر والفرض، لا يؤدي إلى الوحدة الحقيقية بين الشعب الواحد أو الشعوب المختلفة. وذلك لأن استخدام القوة، لا يفضي في هذا الإطار، إلا إلى المزيد من اكتناز المشروع الذاتي أو الخاص، ويتحين أصحابه الفرصة السانحة لإنهاء الوحدة المفروضة بقوة الحديد والنار. فالقوة التي استخدمت لانجاز الوحدة بين شعوب الاتحاد السوفيتي السابق، لم تنه الطموحات الذاتية لدى الشعوب، التي استغلت ونهبت ثرواتها وخيراتها تحت يافطة الوحدة بين شعوب الاتحاد. وإنما جعلتها كامنة ومضمرة، ومع الزمن والقسوة التي استخدمت من قبل أجهزة السلطة السوفيتية، تبلورت ونضجت وانتظرت الفرصة المؤاتية للخروج من هذا القيد والأسر. فالوحدة بين الوجودات الاجتماعية والكيانات البشرية، لا يمكن أن تنجز بالفرض والقوة، وأي وحدة تنجز بهذا السبيل فإن مآلها الأخير هو الفشل والتشظي والهروب من كل الأشكال الوحدوية والارتماء في أحضان المشروعات الذاتية الضيقة، كوسيلة من وسائل الدفاع عن الذات لتقليل بعض أخطار الوحدة التي فرضت بالقسر والقوة.
وذلك لأن الوحدات الاجتماعية، التي تفرض بقوة الحديد والنار، تقضي باستخدامها القوة، على كل القيم والمبادئ الضامنة لمشروع التوحيد والوحدة والحافظة على الأخلاقية المطلوبة في هذا الإطار. فالقوة والعسف من وسائل الافتراق بين البشر والكيانات الإنسانية، واستخدامها من أجل التوحيد والجمع لا يؤدي إلا إلى المزيد من التفتت والتشرذم والتشظي. لأنها تزيد النفوس ابتعاداً عن بعضها، وتنفر العقول من البحث عن المشترك ووسائل التعايش والوحدة وتهيئ الأوضاع والظروف للهروب من كل مقتضيات الوحدة ومتطلباتها الاستراتيجية. فالتجارب الإنسانية جميعها، تقف بقوة ضد كل المشروعات الوحدوية التي تبنى بالقسر والعسف والإرهاب، لأن مردوداتها السلبية والعكسية خطيرة وآثارها البعيدة تزيد من عوامل التفتت والاحتماء بالمشروعات الضيقة، التي تزيد الناس انغلاقاً وتعصباً وبعداً عن أخلاق الوحدة وثقافة التعايش والمشترك الإنساني.
والسؤال الذي يبرز في هذا الصدد هو: من أين تبدأ الوحدة سواء بين الشعب الواحد أو الشعوب المختلفة؟
فهل تبدأ الوحدة بإقصاء كل حالات التنوع والتعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في الساحة لصالح صيغة وحدوية قائمة على نمط رتيب من التوحيد السياسي والثقافي والاجتماعي، لا ترى من الضروري أو من مقتضيات الوحدة العناية بتلك التنوعات وأشكال التعدد الطبيعية. فهل طريق الوحدة المطلوبة يمر عبر القفز على تلك الحالات والحقائق، وتجاهلها في إستراتيجية العمل الوحدوي، واعتبار أن تلك الحالات والحقائق هي وليدة عصور التخلف والانحطاط ومرحلة ما قبل الدولة الحديثة. وبالتالي تتحقق ضرورة ومشروعية محاربة وإقصاء تلك الحقائق من الوجود، تحت يافطة ومبرر أنها جزء لا يتجزأ من آليات التخلف ومرحلة ما قبل الدولة الحديثة بتشظياتها العديدة.
إن التاريخ العربي الإسلامي الحديث، يؤكد لنا أن العديد من المدارس الفكرية والسياسية التي جعلت من الوحدة العربية محور عملها ونشاطها، نظرت إلى تلك الحقائق وفق منظور أن الوحدة تعني التوحد القسري القائم على نفي كل أشكال التعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في المجتمعات العربية. لذلك فقد استخدمت هذه المدارس كل ترسانتها وإمكاناتها النظرية والعملية في سبيل محاربة تلك الحقائق وإقصائها من الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي.
ولكن وبعد تطورات عديدة شهدها العالم، والعالم العربي بالخصوص، نجد أن كل الوسائل والأساليب المستخدمة من قبل تلك المدارس لتذويب هذه الحقائق ونفيها من الخريطة العربية باءت بالفشل والإخفاق، ولم تستطع هذه المدارس أن تحقق مفهومها للوحدة القائم على القسر والنفي، بل أوجدت أثراً عكسياً في الواقع العربي، حيث ازدادت الكيانات الصغيرة التي تعمل على الحفاظ على هويتها الخاصة وعوامل تميزها أو اختلافها التاريخي أو الطبيعي.
وبهذا نستطيع أن نقول، بأن الوحدة العربية والإسلامية لا تبدأ من إقصاء الحقائق الطبيعية والتاريخية، واستخدام القوة في مشروعات وحدوية قسرية. فمن أين تبدأ الوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية؟
في تقديرنا أن الوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، هي الخيار الحضاري لنا نحن العرب والمسلمين. ولكن هذه الوحدة لا تنجز عبر التوحد القسري والقفز على حقائق العصر والراهن، وإقصاء وقائعهما. فالوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، لا تعني التطابق التام في وجهات النظر ومشروعات العمل أو أولوياته أو في طرق التفكير والتخطيط. وإنما تعني ابتداء احترام الحقائق والوقائع التاريخية والطبيعية، والعمل بشكل وحدوي على ضوء تلك الحقائق والوقائع. فالوحدة وفق هذا المنظور لا تساوي الانصهار ولا تعني الذوبان، وإنما العمل على إيجاد الوسائل التي تتيح اندماج الشعوب الإسلامية ببعضها، وتعيد الحيوية إلى مقولة الأمة في العقول والقلوب. ويدعو الإمام شمس الدين الفقهاء والعلماء لدراسة شكل الدولة الوحدوية. إذ يقول: ”لا نطرح هذه الفكرة، وإن كنا نرجح أن يدرس الفقهاء والمفكرون شكلاً تنظيمياً لهذه المسألة. قد يكون بتطوير منظمة الدول الإسلامية لتتخذ شكل كومنولث إسلامي، أو حكومة لا مركزية أو غير ذلك من الأشكال التنظيمية. وإن كنا لا نرى بأساً من الناحية الفقهية والكلامية في أن تكون للمسلمين حكومات شتى، ويمكن الجمع بين المدرستين في صيغة تنظيمية تبقي على الحكومات الوطنية، وتنشأ حكومة جامعة، وتوزع الصلاحيات بحيث تأخذ منها الحكومة الجامعة ما يتصل بمصالح الأمة في العالم. المهم هو بعث وحدة الأمة الإسلامية في عقول المسلمين وقلوبهم باعتبارها عقيدة دينية، وحقيقة كيانية“ [3] . فالوحدة التي يتطلع إليها الإمام شمس الدين، هي الوحدة على أساس الالتزام السياسي دون نفي الخصوصيات وإقصاء حالات التنوع على الصعد التاريخية والثقافية والسياسية. فالالتزام السياسي بمفهوم الوحدة، لا يقضي بأن يكون الجميع محل اتفاق حول كل المسائل. لهذا فإن الإصرار على صهر المذاهب الإسلامية في مذهب واحد، وعلى اعتماد الأساس الفقهي أو الكلامي لتحقيق الوحدة، هو بحد ذاته إصرار على تفريق المسلمين، لأن في هذا الإصرار دعوة إلى عدم التعاون، ومحاولة لوضع المسائل الثانوية «الفرعية» مكان المسائل الجوهرية المتفق عليها بين جميع المسلمين.
وتاريخياً لم تكن الوحدة التي صنعها العرب والمسلمون، تعني التوحيد القسري أو التطابق التام في كل شيء، وإنما العرب والمسلمون صنعوا وحدة قائمة على احترام حقائق التاريخ والمجتمع، لأنها حقائق طبيعية ومثرية لمشروع الوحدة، ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. فالوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، تبدأ باحترام حقائق التنوع والتعدد، لأنها ليست حالات أو وقائع مضادة للمنظور الوحدوي. بل هي عناصر تثري مفهوم الوحدة العربية، وتزيد مضمونه حيوية وفاعلية.
وفي المقابل ومن خلال تجارب العديد من النخب السياسية العربية والإسلامية، فإن إقصاء هذه الحقائق لا يوصلنا إلى الوحدة العربية، بل بالعكس يفرغها من مضمونها الاستراتيجي والحضاري، ويجعلها وبالاً حقيقياً على العالم العربي والإسلامي بأسره. ويشير إلى هذه الحقيقة الكاتب المغربي «عبد الإله بلقزيز» بقوله: أن المواطنية إذا كانت جامعاً سياسياً يستوي أمامه الجميع، فإنها لا تكتسب مضمونها الكامل إلا متى اعترفت للمواطنين بحق حيازة ملكيتهم الرمزية، أي جملة العناصر والعوامل التي تصنع شخصيتهم الدينية والثقافية واللغوية على النحو الذي يساهم في إنتاج الاستقرار الاجتماعي والسياسي من خلال إعادة إنتاج الاجتماع الوطني الموحد [4] . والتحدي الأكبر الذي يواجه المجتمعات العربية المعاصرة، هو «كما يقرر بلقزيز»: تحقيق معادلة اجتماعية جديدة تقوم على توليد دينامية لربط المواطنين بولاء مشترك للوطن والدولة، وصيانة ثوابت الأمة، دون إكراه وتسلط شمولي، وتوليد دينامية موازية لتحرير الولاء الرمزي للناس من الحجر دون الانزلاق إلى فئوية عصبوية أو إلى التشريع للفتنة.
من هنا لابد من القول: أن النواة الأولى لتحقيق مشروع الوحدة العربية والإسلامية، هي تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع، ونسبية الحقيقة والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء، تتبلور قيم الوحدة الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار الوحدة العربية شعاراً أجوفَ، يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية، ولكن بدون أن يتحول هذا الشعار إلى حقائق ووقائع تملأ كل أوطان العرب وبلدانهم.
الوحدة العربية والإسلامية تتطلب من كل مواطن عربي ومسلم، أن يبدأ من واقعه ومحيطه في غرس حقائق ووقائع الاتحاد، حتى تنمو هذه الحقائق، وتزداد هذه الوقائع، حتى نصل إلى مستوى أن تكون الوحدة حقيقة فعلية قائمة، وليست شعاراً يتغنى به الإنسان ويحلم به، دون أن يكون له نصيب من وقائع العرب وحقائق عصرهم الراهن. والوحدة في المنظور الإسلامي هي جزء من العقيدة والمنظومة القيمية، لذلك لا فصل بين هذا المفهوم وبقية المفاهيم والقيم الإسلامية. ”فالإسلام هو نظرية الحياة، والحياة هي تطبيق النظرية، والأمة هي مجال التطبيق وأداته. وإذا تعمقنا أكثر في الفكر الإسلامي فسنجد أن وحدة الأمة هي أحد مظاهر الوحدة العام في الكون التي تستبطن وحدة الحياة والطبيعة، وهي تستبطن وحدة الجنس البشري. فالوحدة على مستوى الأمة ليست هدفاً عاطفياً أو مصلحياً سياسياً، وإنما هي أساس في تكوين الإسلام عقيدة وفكراً ومجتمعاً وحضارة، وحينما ينحسر الوعي بالتوحيد، أو تنقطع العلاقة بين عقيدة التوحيد، وبين وعي الإنسان بذاته ومجتمعه.. تقع التجزئة“ [5] .
إن الوحدة العربية والإسلامية من المشروعات التي تتطلب بنية تحتية قوية، وينبغي أن يشارك كل مواطن عربي ومسلم بجهد في سبيل توفير البنية التحتية لمشروع الوحدة العربية والإسلامية. فالوحدة تبدأ من كل إنسان عربي ومسلم، يعمل على طرد كل العوامل المضادة لهذا المشروع من واقعه ومحيطه، ولكن دون الاكتفاء بالصراخ والعويل، وإنما يعمل ويسعى إلى خلق حقائق الوحدة في محيطه الاجتماعي. فحقائق الوحدة الصغيرة والبسيطة، هي طريقنا إلى انجاز الوحدة الكبرى.
من الطبيعي القول، أنه لا يمكن إنجاز أي مستوى من مستويات الوحدة في المجتمعات الإنسانية، بدون قاعدة أخلاقية وشبكة من المفاهيم والقيم والمثل التي تعمق هذا الخيار لدى جميع الأطراف والقوى. والوحدة العربية والإسلامية ليست نشازاً عن هذا القانون، وإنما هي أيضاً بحاجة إلى القاعدة الأخلاقية والمثل والقيم الإنسانية، التي تساهم في توطيد أركان الوحدة مهما كان مستواها وحجمها. وفي تقديرنا أن السلم الأهلي هو البوابة الأخلاقية والسلوكية لمشروع الوحدة العربية والإسلامية. والعالم العربي والإسلامي اليوم بحاجة أن ينجز مشروع السلم المجتمعي كضرورة ملحة لإنجاز مشروع الوحدة في مستوياتها العليا.
وذلك لأن وقائع الاحتقان والتعبئة النفسية والثقافية بين القوى المتنافسة أو المتصارعة في الكثير من مناطق المجالين العربي والإسلامي، تساهم في توتير الأوضاع وتنذر باحتمالات كارثية. ولا شك أن المطلوب هو امتصاص أسباب الاحتقان والصراع وتفريغ ضغط الاحتقان في إطار مشروع السلم المجتمعي الذي يتضمن بدائل سياسية واجتماعية وثقافية تعمق من خيار المصالحة المدنية، وتوفر الظروف الذاتية والموضوعية لميلاد واقع جديد قوامه التسامح ونبذ العنف والاقتتال، وثقافة سياسية جديدة تدافع عن السلم المجتمعي. ولاريب أن السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي، على قاعدة الاحترام المتبادل من القيم النبيلة، التي يسعى إليها الدين الإسلامي الحنيف، ويربي أبناءه وفق مقتضاها الأخلاقي والعملي. لذا فقد أولت النصوص الإسلامية، العناية الرفيعة، بكل المفردات والقيم والأخلاقيات التي توصل المجتمع الإنساني، إلى حالة من السلم والتنافس في مجالات البناء والتعمير. إذ أن القاعدة الأخلاقية لمفهوم السلم الأهلي والتعايش الاجتماعي، تدفع باتجاه مطابقة الباطن للظاهر، وليس على قاعدة الاضطرار، وإنما على قاعدة الأصل الإنساني العام.
ومن القيم والقضايا الأساسية التي تؤكد على مفهوم السلم الأهلي، وتكرس خيار التعايش الاجتماعي في المجتمع الإنساني الأمور التالية:
1/ مساواة الآخر بالذات: إن البداية الفعلية للتغلب على الكثير من النوازع والغرائز، التي تفصل بين الإنسان، وتزرع الشقاق، وتؤكد الخصام، هو طغيان حب الذات وتضخيمها، بحيث لا يرى الإنسان إلا ذاته ومصالحه.
أما التوجيهات الإسلامية، فتؤكد على ضرورة أن يتم التعامل مع الآخرين، وفق القاعدة النفسية والاجتماعية، التي يحب الإنسان نفسه، أن يُعامل وينظر إليه من خلالها، «ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك، وما أحببته لنفسك فأحببه لأخيك، تكن عادلاً في حكمك، مقسطاً في عدلك، محباً في أهل السماء، مودوداً في صدور أهل الأرض». فالقاعدة العامة التي ينبغي أن يلتزم بها كل إنسان في مسألة العلاقات الاجتماعية والإنسانية هي «عامل الناس بمثل أن تحب أن يعاملوك».. من منا لا يحب أن يحترمه الآخرون، ويتعاملون معه بإنسانية راقية وأخلاق حضارية. من منا لا يشعر بالاشمئزاز، حينما لا تكون علاقة الآخرين معه سوية وسليمة، وذلك لدواعي ليست من كسبه.
إن بوابة تصحيح هذا الاعوجاج، تبدأ بتعاملي مع الآخرين، فإن مساواة الآخر مع الذات، هي التي تخلق النسيج الاجتماعي المتداخل، والمتواصل، والمنسجم في حركته وعلاقاته المتعددة. ولا شك أن مساواة الأخر مع الذات، ستعلي من شأن القيم المشتركة، وستجعلها حاضرة باستمرار في الوسط الاجتماعي، كما أنها تزيد من حالة الإحساس بالمسؤولية المشتركة تجاه بعضنا البعض.
وكل هذه العناصر ضرورية لبناء سلم اجتماعي متراص ومستديم وتعتمد هذه المساواة، على مبدأ آخر يشكل ركناً أساسياً في التوجيهات الإسلامية، ألا وهو التسامح، ولا ريب أن التسامح كقيمة إنسانية عليا تضع روابط إضافية في العلاقات الاجتماعية المشتركة.
2/ اللاعنف: وهذا العنصر ليس وليد الضعف في الذات، أو القوة الضخمة لدى الآخر، وإنما هو جزء من بنية المنظومة العقدية والفكرية الإسلامية التي ترى في اللاعنف الطريق السليم في التعامل مع المغير الثقافي أو السياسي.
وينبغي أن ندرك، أن شعوب العالم، قدمت الكثير من التضحيات الجسام من جراء الحروب، واستخدام العنف والقوة العسكرية في العلاقات الاجتماعية والدولية.
فمنهج اللاعنف وسيادة قيم السلم، هو الذي يمنع هذا الانهيار، والنهم المتعاظم لامتلاك وسائل القتل والدمار، وتوجيه ثروات الشعوب والأمم إلى مشاريع التنمية والبناء.
3/ والمناقبيات الأخلاقية: إن السياج القوي، الذي يحافظ على السلم الأهلي ويعمق مفاهيمه، ويجعله ثابتاً من ثوابت الواقع المعاش، هو وجود منظومة أخلاقية، ترعى هذه المسيرة، وتلجم كل النوازع الشريرة، التي تهدد السلم، وتجعله على شفا جرف هار. ولهذا نجد أن النصوص الإسلامية، تؤكد على مجموعة من والمناقبيات والفضائل الأخلاقية، كالصدق والاحترام وحسن الظن وما أشبه، التي لو جعلناها في السياق الاجتماعي العام، فسنجد أنها الضامن العام لمسيرة السلم الأهلي. ولا شك أن تعميق هذه الفضائل في الوسط العام سيغير نظرة الجميع إلى بعضهم البعض، وستتم وفق هذه النظرة قراءة الوقائع وفق النسق الفكري الجديد، الذي يجعل من السلم الأهلي لازمة من لوازم تقدم المجتمع الإنساني ورقيه الحضاري.
وتنبع أهمية تأكيد البعد الأخلاقي في مسيرة السلم الأهلي في النقاط التالية:
1» دفع الجماعة الوطنية إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية النبيلة المتعلقة بنوعية الحياة والعلاقة بين مجموع الأطراف، وتعزيز مشروع المسؤولية المتبادلة في الوسط الاجتماعي.
2» البحث عن أطر وصيغ مجتمعية مناسبة للحظة التاريخية التي نعيشها، للتعبير عن تلك الفضائل الأخلاقية، وبهذا تتحول هذه القيم الأخلاقية من قيم فردية إلى قيم ذات طابع مجتمعي مؤسسي.
3» حضور هذه الفضائل الأخلاقية في مسيرة بناء السلم الأهلي، حتى تمارس دورها الإيجابي، في تجميد بؤر التوتر، وتوفير الظروف الذاتية والموضوعية في حركة المجتمع بما يناسب تصورات واستراتيجيات مشروع السلم الأهلي، وتنبع أهمية حضور القيم الأخلاقية في ذلك المجتمع المتعدد الثقافات والمرجعيات، وذلك حتى تساعد وتنظم هذه القيم تعاقد مساواة بين جميع أطراف المجتمع، وبهذه العملية يستطيع المجتمع أن يحقق توليفة عملا نية بين ضرورة الوحدة والعيش المستقل أيضاً.
وأن الاحترام المتبادل، يشكل حجر الزاوية في مشروع السلم الأهلي، لانه يعمق الاستقرار، ويحترم التنوع الذي يغني مشروع السلم الأهلي. وأن تعميق القيم المشتركة الذي توفره الفضائل الأخلاقية، سيساعد الجميع على تجاوز الصدمات والتوترات المرتبطة بشكل مباشر بمصالحهم، والتصرف على ضوء وهدى مصالح متبادلة وعامة. لذلك فإن السلم الأهلي قوامه، تسالم الإرادات الوطنية، وانصهار مصالحها في الكيان الاجتماعي الوطني.
وفي الأخير إننا نرى، أن حماية الاجتماع الوطني من المخاطر والتحديات، وتحصين الأوضاع العربية الداخلية بالمزيد من التسامح والعدالة وبناء المجال السياسي الوطني على قاعدة من التراضي والتسالم والفعل المؤسسي. كل هذه العناصر تفضي إلى بناء وحدة اجتماعية ووطنية متينة، وهي لبنة من لبنات بناء الوحدة العربية على أسس أكثر عقلانية وديمقراطية. وإنه آن الأوان أن نحرر كل استراتيجيات ومشروعات الوحدة، من تلك الأفكار والقناعات والنظريات التي تبرر استخدام القوة والعنف في سبيل انجازها. وذلك لأن العنف لا يفضي إلى وحدة، بل إلى تشظيات وانقسامات واستئصالات تزيد من الفرقة وتعمق التجزئة وتحول دون الانطلاق الفعلي في مشروع الوحدة.
ولأن مفهوم الوحدة الإسلامية مشروع طويل الأمد، ويتطلب تراكم الجهود والأعمال المتجهة إلى تكريس هذا المفهوم في الواقع المجتمعي للمسلمين، لذلك يطرح الإمام شمس الدين خطة عمل رئيسية تتشكل من العناصر التالية:
1» الانطلاق من الحالة الشعبية، من واقع الأمة ومن قاعدتها. إذ يقول ”الأمة الإسلامية من خلال مساجدها، من خلال فقهائها وتحديداً وقبل المساجد والفقهاء، من خلال التنظيمات الحزبية، يعني الحركات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية هي الركيزة الأساسية التي في نظري يجب أن تقوم عليها جهود العمل نحو الوحدة الإسلامية.. «ويضيف الإمام شمس الدين» إن المسألة الشعبية في كل بلد إسلامي، هي تضغط على نظامها الخاص ليكون أقرب إلى مواقع الوحدة منه إلى مواقع التجزئة“ [6] .
2» تطوير نظام العلاقات بين الحركات والوجودات والمؤسسات الإسلامية في كل البلاد الإسلامية، وتنمية مستوى الصلات الفكرية والثقافية والعملية.
3» تكثيف الجهود صوب العدو الحضاري للأمة، وهو الذي يناقض الإسلام كأيديولوجية وحضارة ومشروع سياسي، ويناقض الإسلام كمشروع مصالح للمسلمين.
وفي سبيل بعث مفهوم الوحدة الإسلامية في الواقع المعاصر يقترح الإمام الشيخ القيام بالخطوات العملية التالية «مشاريع اقتصادية كبرى مشتركة إنشاء مجلس نواب إنشاء حركة نقابية إسلامية إنشاء منظمات كشفية مشتركة تعميم اللغات الأساسية للشعوب الإسلامية تدريس جغرافيا العالم الإسلامي تدريس تاريخ المسلمين كافة تشجيع السياحة بين الدول الإسلامية توجيه الإعلام المكتوب والمرئي والمسموع نحو إحياء عقيدة الوحدة في قلوب المسلمين وعقولهم وربطها بالحياة اليومية للمسلم حيثما كان».
ويكثف الإمام شمس الدين رؤيته لمفهوم الوحدة بقوله ”الوحدة يجب أن تكون منسجمة مع حاجات المسلمين، مع واقع النظام العالمي، وتحديات المسلمين المعاصرة. المسلمون في الماضي كانوا يواجهون حاجات وتحديات مختلفة عما عليه الأمر الآن، ولذلك صياغة عملية الوحدة، الوحدة في هذا الزمان ليست صياغة لها نموذج، هي يجب أن تخلق نموذجها الخاص، ليس لها نموذج تاريخي ونحن نطبقه، وإنما يجب أن نبتدع ونخترع النموذج الوحدوي الذي ينسجم مع حاجات المسلمين وتحديات المسلمين، والدور المرتقب للأمة الإسلامية في العالم، الدور ثابت، الأمة الشاهدة، والأمة الوسط“ [7] .