ورحلت أم جعفر...
بعد أن أسدلت الستار على ماضٍ جميل غاب بريقه بغياب أمثالها من الزوجات والأمهات والجدات..
رحلت المرأة الطيبة بعد مسيرة قدمت فيها الكثير من العطاء... تماماً كما ينقضي عمر غازلات الصوف، يمضين نهارهن في إعداد الخيوط وانتقائها ليسهرن الليالي عاكفات على حياكته..
مثل سجادة عجمية محاكة بخيوط تنوعت ألوانها كانت التجربة التي نسجتها فقيدتنا الغالية!!
طبعت ذكراها داخل قلوب من عرفها وعاش معها، حتى الذين مروا بها لحظة عابرة والتقوها صدفة...
ربما طهارة قلبها، ونقاء روحها، وصدق مشاعرها، هو ما يحفظ لها كل هذا العبق داخلنا، ويبعث أريج ذكرياتها كلما مرت بنا واستنشقنا عبيرها!!
كانت لا تزال في ربيعها السابع عشر عندما اقترنت بزوجها الخطيب الحسيني الملا محمد بن الملا علي المسيري، وهو يبدأ أولى خطوات عمله الخطابي والمهني الذي تنوع فيما بعد.
رافقته في رحلته الأولى لطلب العلوم الدينية حيث مهوى أفئدة العاشقين وطلاب العلم ورواد الحقيقة وباب مدينة العلم ”النجف الأشرف“.
لم تكن الرحلة التي أخذتهم الى هناك في العام 1384 هـ ميسرة وسهلة، كانت محاطة بمصاعب ومواقف حرجة وقاسية، أشرفوا في بعضها على الموت وانقطعت بهم سبل النجاة ونفذ الزاد والماء، وفقدوا الأمل في الحياة إلا من رحمة الله ولطفه، وأظهرت الفقيدة السعيدة في هذه اللحظات العصيبة رباطة جأش وثقة بالعناية الإلهية التي أنقذتهم وخلصتهم من هذا المأزق ووصلوا سالمين الى جنة العشق العلوي!!
الظروف المعيشية لطلبة العلوم الدينية هناك هي الأخرى غير ميسرة، فكان ما يصل الى الطالب من شهرية متواضعة من المرجعية الدينية التي كان يمثلها آنذاك السيد محسن الحكيم ”رضوان الله عليه“ بالكاد تكفي لسد الرمق فقط.
ألهمها الله يقيناً تمكنت معه من التكيف مع تلك الظروف، عاشتها بطمأنينة كبيرة وعشق لدفء المكان وروحانيته، وقامت بواجباتها الأسرية كزوجة وأم لطفلين، ابنتها البكر ”افتخار“ وطفلها الاول ”جعفر“..
أكسبتها الرحلة المباركة شموخا، وأشربتها عشقاً وولاء لنبيها وأهل بيته الكرام ”“ فكان بيتها في حي الدشة بتاروت ملتقى الخطباء يفدونه كل ليلة بعد ان ينتهوا من قراءة مجالسهم والتزاماتهم، يجتمعون هناك يتذاكرون ويتسامرون ويطالعون بعض الكتب للتحضير للمناسبات القادمة.
كان والدنا وكذلك والأستاذ الشيخ عبد الرسول البصارى ”رحمهما الله“ والخطيبان الملا احمد الوحيد والملا احمد العسكري وآخرون أبرز رواد المجلس المبارك.
وصول الضيوف يتزامن مع وصول صاحب الدار، وقد يتأخر عنهم بحكم ارتباطه بمجالس القراءة، المجلس معد لاستقبال ضيوفه، رحابة المكان ونظافته المشعة والترتيب وتوفر مستلزمات الضيافة في المكان، شاهدٌ على الدور والذوق المميزين لسيدة الدار وربة المنزل..
عشقها لأهل البيت ”“ جعلها تقترح على زوجها إقامة مأتم حسيني في محرم الحرام حيث موسم العزاء والحزن على سيد الشهداء ”“.
وقع الاختيار على الخطيب الحسيني الملا يعقوب الهاجري ”رحمه الله“ والمكان مسجد الدشة الذي عرف فيما بعد بمسجد الامام زين العابدين ”“
يسكن الملا يعقوب في سنابس، ويتعذر آنذاك الانتقال بسهولة بين البلدتين لعدم توفر وسائل المواصلات، كان لا بد من توفير مكان يأوي إليه الخطيب طيلة الموسم من اللية الأولى حتى الثالثة عشره من المحرم.
كانت السيدة المسكونة بعشق أميرها، صاحبة المبادرة، هي من اقترحت ان يكون بيتها مقر إقامة خادم الحسين ”“ لتتشرف بخدمته وتوفير كل ما يحتاجه خلال موسم العزاء..
روحها الولائية المُلهِمة لأبنائها وبناتها جعلتهم يتسابقون في خدمة الضيف واحترامه، خصوصا وأنه كان بصيراً من لدن أيام طفولته المبكرة، ويحتاج من يتولى خدمته في المنزل وكذلك اثناء خروجه وعودته من المسجد ”المأتم“.
تكفلت ابنتها الطفلة الصغيرة ”إفتخار“ بتحضير الكتب التي يحتاجها من مكتبة والدها، تقرأ له كل ليلة ما يحتاجه من قصائد وموضوعات، وربما كانت هذه المبادرة من الطفلة هو ما زرع فيها بعد ذلك عشق التعلق بالخدمة الحسينية والولع بالخطابة والكتابة ونظم الشعر الولائي، لتحلق بعد ذلك في سماء الخدمة الحسينية كواحدة من ألمع الخطيبات والشاعرات والناعيات الحسينيات..
كانت المبادرة باعثة على الإعجاب بذكاء الطفلة، ومعينا للملا يعقوب على أداء مهمته التبليغية، فكانت تسمعه يتمتم بالدعاء لها، ويردد ابيات والدها المسيري...
”جعفرٌ“ ”باسمٌ“ ”أمينٌ“ ”شفيقٌ“
و”إفتخارٌ“ لها الفخار يليق
وإذا الأمُ أنجبت بفتاة
او غُلامٍ فسمه ”صديقُ“
رزقها الله بعد ذلك ”صادق“ و”شاكر“ و”رمزي“ و”فخري“ و”حسين“ «حفظهم الله تعالى» إضافة إلى الخطيبة والناعية الحسينية ”فريال“..
تنوعت بعد ذلك نشاطات زوجها كما تجاوزت شهرته كخطيب حسيني بلدته الصغيرة ليطلب للقراءة في الأحساء والبحرين ودبي، إضافة الى اشتغاله بتأسيس حملة للحج والعمرة والزيارة كانت في طليعة حملات الحج على مستوى المنطقة تخدم حجاج الداخل والخارج، فكان كثير الترحال في مواسم القراءة والحج والعمرة والزيارة.
حملها غياب زوجها جهدا مضاعفا ومسئوليات كبيرة، جعلها تلعب دور الأب والأم في وقت واحد، ومع صعوبة الدور الذي يفرض عليها التوازن في استعمال الحزم والصرامة في مواقف الشدة واللين والرقة في مواقع العاطفة والحب، فقد نجحت في هذه المهمة نجاحاً باهراً بشهادة زوجها وعارفيها!!
قدمت الفقيدة تجربة تربوية وأسرية جديرة بالأقتداء والتأسي.. فمع أنها لم تنل نصيباً من التعليم النظامي ولم تحصل على شهادة مدرسية كبقية نساء جيلها، غير ان ذلك لم يؤثر سلباً في مستوى اللباقة واللياقة التي كانت تتمتع بها في مواجهة منعطفات وعقبات الحياة داخل الأسرة وخارجها..
أكثر من ستة عقود من الزمن استمرت علاقتها مع زوجها، تعايشت خلالها مع أنماط مختلفه من الناس ومواقف متباينة بين رخاء وشدة، وعسرٍ ويسر، وسراء وضراء... عبرتها بهدوء وسكينة، لم تؤثر في قناعاتها ولم يفارقها صبرها، او تفرط في وظيفتها بالمحافظة على بيتها وأسرتها في زمن نشهد فيه تفكك الأسر المتعلمة والمثقفة لأسباب تافهة!!
بعدٌ من أبعاد شخصيتها يتمثل في علاقتها بأهل البيت ”“ من خلال مأتمها الذي كانت تقيمه داخل بيتها المتواضع، حتى عندما ضعف جسدها ألزمت ابنتيها ”افتخار“ و”فريال“ بالاستمرار في إقامته مهما كانت الظروف... وكأن لسان حالها يقول..
ورثنا من الآباء حسن ولائكم
ونحن اذا متنا نورثه الأبناء
رحم الله المرأة المؤمنة أم جعفر الحاجة فاطمة بنت منصور المشيقري، بواسع رحمته ورضوانه... لروحك السلام والسكينة ولفاقديك الذخر وعظيم الأجر ..