قصيدة الطلاسم
في منتصف ثمانينات القرن العشرين ومن خلال كتاب الأدب للثالث ثانوي وبعض المجلات مثل العربي والعربية والدوحة تعرفت على الأجناس الادبية والمدارس الشعرية مثل الأحياء والبعث والرومانسية وشعراء المهجر امثال جبران خليل جبران والشاعر إيليا ابوماضي صاحب ديوان الجداول الذي يتضمن قصيدة الطلاسم قرأنا مقاطع منها المُستنكرة دينيا التي تدل على اتجاه الحادي، اتذكر لما ذهبت، اسأل عن ”ديوان الجداول“ بأحد مكتبات الاحساء التي اتوقع أن اجده فيها لأنها تتضمن كتب دينية وشعرية وادبية وتاريخية وثقافية، سألته: عندك ديوان الجداول لأيليا ابوماضي؟ رد عليّ بنظرة شزر، قصدك إيليا ابوفاضي، بعد مدة حصلت عليه من أحد الأخوة.
لا انكر أني اقتنيت الديوان من أجل قصيدة الطلاسم التي تتضمن تساؤلات فكرية وفلسفية عن الحياة والكون الغير مقبولة في الوسط الديني المحافظ.
لكن ألا تعتبر بعض جوانب الحياة الخفية لدى الكثير في بداية تكوين ثقافتهم لغزا، وأسرار الكون العجيبة تعجز الشباب في طلاسمه إذا بدأوا يفكرون بعقولهم بعيدا عن إيمانهم وتسليمهم بالآيات والأحاديث والنصوص الدينية، حتى بعض النصوص الدينية
يصعب على بعض طلبة العلوم الدينية أن يفهموها ويفسروها للشباب.
أعجبتُ بالقصيدة ليس لأني مؤمن بمعانيها الفلسفية لكن بأسلوب التساؤلات المثيرة والجاذبة.
تساؤلات توحي بأن الشاعر يحمل فكر غير يقيني ومسيطر عليه الشك والارتياب عن الحياة والكون ومجهولية مصير الإنسان.
طرح ايليا ابوماضي اسئلة فلسفية تعبر عن حيرته أو عجزه عن فهم الوجود، ومن يفهم هذه الحياة إلا العارفون والراسخون بالعلم؟.
لكن هذه القصيدة دار حولها وعن شعر ايليا ابوماضي حديثا نقديا واتهامات مثل ما قاله ميخائيل نعيمة ”بشكل رمزي أن أبوماضي يقتبس فكرة ومعاني قصائده من الشعر العالمي“.
كما ذكر الشاعر عبدالله حسين جلاب أن ايليا ابوماضي أخذ فكرة قصيدة الطلاسم من قصيدة ”دعوة للنسيان“ للشاعر بوسيدو نيوس الذي عاش في دمشق عام 135 قبل الميلاد راسم أقدم خريطة للعالم:
" لماذا أنا ولدت
ومن أين أتيت
وكيف حدث أنني موجود حيث أنا الآن
لا أعلم أي شيئا
وكيف بوسعي أن أعلم أي شيء
انا كنت لا شيء
مع هذا ولدت
وقبل مضي مدة طويلة سأموت.. "
ما قاله أيليا ابوماضي في الطلاسم بديوان الجداول نفس المعنى تقريبا:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيت
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري...
البعض اعتبرها توارد خواطر وتناص أو اقتباس.
تبقى قصيدة الطلاسم جميلة في معانيها المعتمدة على تساؤلات التشكيك للوصول للإيمان
لكن أخذها البعض على أنها تشكيك والحاد مثل الشيخ الشاعر عبدالحميد السماوي الذي رد عليها بقصيدة فلسفية أروع من قصيدة الطلاسم، أول ما سمعتها من سماحة الشيخ الفاضل حبيب الهديبي على المنبر الحسيني.
أول من نشر قصيدة «أنا ادري» للشيخ عبدالحميد السماوي صاحب مجلة العروبة محمد علي الحوماني بعدما ذهب إلى السماوة ونزل ضيفا على الشيخ السماوي ونقل بعض قصائد السماوي ومنها ملحمته «أنا ادري» التي رد فيها على الطلاسم.
نشرت في مجلة العروبة وفي كل عدد من المجلة تتضمن جزء من القصيدة «أنا أدري» يرسلها إلى أمريكا للشاعر أيليا ابوماضي الذي أعجب بها أيما اعجاب واستغرب من سعة خيال الشيخ السماوي وخصوبة شعره ومفرداته وبراعته في الرد بالعقل والمنطق والكلمة المعبرة، ومن شدة اعجاب الشاعر ابوماضي أرسل من نيويورك رسالة إلى الشيخ عبدالحميد السماوي يثني عليه ويسجل احترامه وتقديره لشاعرية السماوي وقوة حجته، وعندما زار الاستاذ محمد علي الحوماني الشاعر أيليا ابوماضي شكره لأنه السبب في التعرف على الشيخ عبدالحميد السماوي.
بعد انتشار القصيدة ارسل الشيخ والعلامة محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر رسالة شكر وتقدير إلى الشيخ الشاعر عبدالحميد السماوي يثني على فصاحته وبلاغته وعمق معاني شعره، ويُنقل أنه عرض عليه كرسي الفلسفة الاسلامية بالأزهر الشريف.
ينقل أيضا محمد علي الحوماني في لقائه مع أيليا ابوماضي أنه سأله: هل الشيخ السماوي درس الأدب الفرنسي الذي يعتبر أفضل أنواع الادب الأوروبي ذلك الوقت فرد عليه بالنفي، وسأله هل سافر السماوي إلى اوروبا فرد الحوماني بالنفي حتى وصل إلى سؤال، هل يمتلك مسكنا فخما تحيطه به أشجار وأنهار وطبيعة خلابة تلهمه هذا الخيال الخصب ودقة التصوير، فرد الحوماني بإيجاز ينزل في سكن لما تُطفأ الأسرجة تتسابق الجرذان في سقف المنزل ولم يدرس بجامعة حديثة، دراسته بالنجف الأشرف فقط، فرد ايليا ابوماضي بتعجب: ما هي إلا مواهب الهية وأردف
”اعلم يا أستاذ عندما وقفت على تلك الملحمة الفلسفية ادهشت فيها وأعدت قرائتها أكثر من مرة وتأملتها بأمعان وتدبر، ووقفت على ما فيها من عمق وجاذبية وفلسفة منطقية ودقة ورصانة، فأقول بكل صراحة ولا تثريب علي في ذلك قد كان عقلي سلبياً وأصبح إيجابياً، وقد تراجعت عن بعض آرائي والاعتراف بالواقع فضيلة“، هذا ما نقله الحوماني في مجلس الشيخ السماوي بزيارته الثانية للسماوة عام 1948.
هذا مقطع من قصيدة أنا أدري للشيخ العلامة عبدالحميد السماوي ردا على الطلاسم:
ليس يدري
أفكون فوق كون متوازي الحركات
شاسع الأبعاد رحب متداني الحلقات
مفعم بالنور مغمور بأسرار الحياة
صادر عن غير قصدٍ من مديرٍ
ليس يدري
حسبي الكون دليلاً كلما عزّ الدليل
وتخطيت بامكاني ضفاف المستحيل
إن لي، ألف سبيل في وجودي وسبيل
قد تغشيت به الكون إلى ما ليس يدري.
هناك من العلماء والشيوخ الذين جمعوا علما وأدبا وشعرا وثقافة، لو أنها وثقت ودونت ونشرت لأثرت الساحة الثقافية والفكرية لأن اشعارهم تضمنت أحداثا تاريخية مفصلية، لكن بسبب الخوف من المجتمع وحكومة العوام والعادات والتقاليد، ضاع الكثير من الشعر وأنواع الادب مثل القصة القصيرة والرواية والمسرحية.