آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 3:17 م

شاهد عيان على عقل مهاجر!

بسام المسلمي *

عندما كنت أدرس في مرحلة الماجستير في جامعة اليرموك بالأردن، تعرفت على زميل اسمه فهد. كان مستوى فهد عالياً جداً وكان الأول على دفعتنا. وقد قال عنه أستاذنا عرسان الراميني، الذي تخرج في جامعة كيمبرج وكرس جهده ووقته للتأليف في ”الكتابة العملية“ وطرائق البحث العلمي، ”إن فهداً يكتب بطريقة علمية تفوق كثيراً طريقة بعض أساتذة جامعة اليرموك!“. وهذا في رأيي هو سر تفوق زميلنا فهد. فلم تكن كمية المعلومات هي التي تميزه، وإن كان غزيراً في ذلك، ولكن تعاطيه وتداوله وتعامله مع المعلومة ومن ثم طريقة توظيفها في كتابته هي سر تميزه.

وما إن فرغ زميلنا فهد من مرحلة الماجستير إلا وكان قد حصل على منحة دراسية مدفوعة بالكامل من الحكومة الألمانية لإكمال دراسته. وفوراً حمل فهد حقيبته وغادر الأردن متجهاً إلى ألمانيا التي أنهى فيها رسالتي دكتوراه إحداهما باللغة الألمانية والأخرى باللغة الإنجليزية. بعد ذلك، انتظره أهله ومحبوه كي يعود إليهم، ولكن فهداً لم يعد إليهم أبداً. الحقيقة، إنني كنت أعلم سلفاً بأنه لن يعود. فقد كان حديثه يضج دائما بالشكوى من أوضاع دولنا العربية التي لا ينتمي لها روحاً أبداً.

وفي ألمانيا، توارى فهد رويداً رويداً عن الساحة الأكاديمية الإنتاجية وخاصة في مجال الكتابة، فلم نقرأ له أي بحث أو كتابة منذ أن أنهى الدكتوراه. وعندما ذهبت إلى ألمانيا بعد ما يزيد على العشر سنوات من زمالتنا في الماجستير، تواصلت معه بالهاتف لأسمع منه الرأي نفسه والموقف نفسه عن الدول العربية والعرب! ولا تزال كلمته من خلال الهاتف ترن في أذني، ”ما تعلمناه ولا نزال نتعلمه في جامعاتنا العربية أقرب إلى العبث! وأساتذتنا كانوا ولا يزالون يكذبون علينا بذلك الهراء الذي يلقنوننا صباح مساء!“. نعم، إنه المنطق نفسه الذي كان يتحدث به عن بعض أساتذتنا وعن نظام التعليم في جامعتنا العربية عندما كان في الأردن. وعندما نذكر في حضرته أحد الأساتذة الذين يغدقون ويحابون في ”العلامة“ ويشحُّون ويبخلون في ”العلم“، إن كان عنده وفرة من العلم، يقول، ”الله ياخذه ويريِّح الجامعة والطلاب منه!“. كنا وقتها نعتبره قاسياً، ولكنه كان دائما يقول، ”لا مجاملة في العلم والفكر! ثم إن هذا الأستاذ يشكِّل خطراً على الأجيال!“. الغريب في الأمر أن ذلك الأستاذ مات بعد دعاء فهد بمدة ليست بالطويلة مع أنه لم يبلغ الستين سنة من العمر!

في كل مرة أقرأ بيت نزار قباني، ”قررت يا وطني اغتيالك بالسفر!“ أو يرد في ذهني عنوان كتاب محمد الماغوط ”سأخون وطني“ أتذكر فهداً وأتساءل، ألهذه الدرجة أوضاعنا التعليمية مزرية؟ ألهذا المستوى المتدني وصلت بنا الحال حتى جعلت زميلي فهداً، وكثير غيره، يترك أهله وداره ويهاجر إلى ألمانيا بل وجعلته قبل أن يهاجر وعندما كان لايزال في الأردن يردد مع المتنبي، ”أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّهُ غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ“

لست أدري إن كان زميلي فهد مغرقاً في ”التشاؤم“ أو موغلاً في ”الواقع“! الحاصل، إنه تركنا ليكون من ضمن مئات، وربما الآلاف أو حتى مئات الآلاف، من ”العقول العربية المهاجرة“ التي تركت بلدانها وأوطانها بعد أن ضاقت بها أوطانها أو أنها هي التي ضاقت بأوطانها! المحزن في الأمر هنا هو أنه عندما هجر زميلنا فهد بلده، فإنه هجر الإنتاج الكتابيّ أيضاً، وبذلك خسرناً قلماً ربما كنّا سنفيد منه الكثير.

وقد ترك لنا فهد كتاباً واحداً عندما كان في الأردن ليكون بذلك الذكرى العلمية الوحيدة التي تذكرنا به، وكان عنوان كتابه، ”التكرار في شعر محمود درويش“ والذي ستجد فوق هذا العنوان اسم زميلنا، ”فهد ناصر عاشور“.