فجرُ مكة
تمتد يدُ الكون في أطراف الشفق، لترخي ستار الليل على شرفات الطبيعة، فتعود الطيور إلى أعشاشها، والحيوانات إلى أوكارها، وتدلي الزهور أوراقها، ويمد البشر أجسادهم المنهكة على المضاجع، مشهدٌ خلت منه طبيعة الطوَّافون ببيت الله، فما سكن لهم ليل وماهنأ لهم مضجع وقلوبهم تتقلب مابين ليل ونهار على ذكرٍ واستغفار، فجر مكة كان على موعدةٍ مع الأرواح حين تمد حبال الرجاء نحو عنان السماء، تنسلُ جماعات البشر من قبضة سلطان النوم فجراً، كأنهم من الأجداث قد بعثوا، سراعاً تصطك الأقدام بالأقدام، وتمتزج الأنفاس بالأنفاس، وتترقب الأبصار لتخطف النظرة الأولى لبهاء ذاك البيت العتيق، خلا فجر مكة من كل صوت، وبقي صوت ذلك الكائن الترابي يتقطع باكياً قد حفا قدميه وحسر رأسه ولبس غلالة بيضاء لا تقيه حر الصيف ولا برد الشتاء، وعف شمه عن أطياب الدنيا إلا من ريح الكعبة، وبصره إلا عن النظر لهيبتها، ولسانه إلا عن الذكر، وأتى صاغراً قد انفض من مسارح الدنيا الحافلة بالسعادة الكاذبة، ونفض يده من موائد شهواتها الزائلة، وسكنت خطاه عن السعي وراء مطالبها الهالكة، فجاء يشيح بوجهه عنها ويغض بصره عن زخرفها وينشدُ تلك السعادة المغمورة مابين الركن والمقام، في مكان تنعصر فيه أكوام البشر كأنما هو البعث والناس قد هرعوا إلى صحائفهم لكنهم في موقف آمالٍ على الله، أن يمحو بالتوبة ما يشاء قبل تطاير الصحف والأعمال.
وحين يطلع النهار تموت بموت ليله الأحزان والأكدار، والمظالم والآلام، والأضغان والأحقاد، وتكون أستار الكعبة قد دثرتك من بردك وخوفك وأذاقتكَ صبابةً من كأس الآخرة فارتشفت روحك سعادةً لم تذقها في سعادات الدنيا جمعاء، وتكون في وقفة طويلة في ذكرياتك مع الله، أين كان من أعمالك، في سبحة نطقت لوجه الناس وسكتت عنها جوارحك!، أم في قرقرة بطنك في نهار قائظ صمت فيه عن الطعام حتى إذا أتممت ثلاثون يوماً أعجبتَ كل العجب بنفسك!، أم في حفنة من القروش حين تصدقتَ بها حرصتَ على نظرة الإمتنان في عيني الفقير فاغتبطت نفسك من حيث كان ذلك حقاً عليها!، أم في ركعات لم تتقاعس عنها طوال حياتك وانتشيت في نفسك حين رأيت خطى جارك ثقيلة نحوها، فأنزلتها منزلة أعلى من الخلائق ونسيت أن آفة العبادة العُجب، سترى عنوان الإخلاص يتجلى في سماء الحرم وسيبدد أعمالك لتكون لله لا يخالطها ماليس له، وستنصرف وكأنك قد أتيت للتوِّ إلى عالم الله، وأن وطنك الذي أتيت منه ليس على نفس الكوكب، وحين تسندُ رأسك إلى إحدى دكات الحرم المقدس ترقب ذاك الفلك الدائر حول الكعبة لايفتؤ عن الحركة ليله مع نهاره، فلكٌ كخالقه كل يوم هو في شأن، فترى أنك مغبون في نفسك حين تساوى يوماك وشكوت روتيناً ومللاً من غير أن تكسب في كل يوم جديد تربية جديدة تطوع عليها نفسك وتهذب بها طباعك، أو علماً جديداً تنتفع به، أو تكون في فكراً غير الذي بت عليه بالأمس، وستبدأ تتأرجح مابين دفتي الشك واليقين، الشك في كل جواذب الدنيا ومادياتها، واليقين بكل متحررات الدنيا ومعنوياتها، ثم تتفكر في عظمة الله الذي طوى هذا الكون العظيم في نفسك الصغيرة، فتشم رائحة أمنياتك في وجوه الزائرين، وتقرأ في قسماتهم قصتك نفسها بلغاتٍ مختلفة، فتعرف أن للبشر قصةٍ واحدة بدأت بالذنب وستنتهي بالتوبة، ثم وأنت في ذلك الموضع ينبتُ على جناحك المهيض ريشاً كثيفاً ناعماً يحلقُ بك كما حمائم الحرم، فلا يوجد هناك مايثقل الملائكة من أعمالك عن أن تحمل دعواتك للسماء السابعة، فتدعو لحكايات الطائفين والراكعين والساجدين بالخاتمة الحسنة، ولأولئك الذين عمروا الديار، وبنوا القصور، وزخرفوا الدور، فابتلعتهم الأرض في جوفها، وأودعتهم حفراً في بطنها، تختلط فيها الرؤوس بالأقدام، والأعزة بالأذلة، والتيجان بالأخفاف، يتألمون ولا تسمع لهم همساً، ويصرخون ولا يجدون من يسمع ندائهم، ويتمنون لو يعودوا ساعة من نهار يتعلقوا بأستار الكعبة يتوبون عما لم يمهلهم أجلهم أن يتوبوا عنه فتودعهم ركعتين في صحن الكعبة الشريفة علها تصل برداً وسلاماً على تربتهم، ثم تنصرف إلى حيث أتيت من دنياكَ متمنياً أن تطهر روحك كيوم ولدتك أمك، قد تبت عم هو فات وترجو أن يتوب الله عليك مم هو آت.
كانت ركعاتٌ معدودات في يومين، ورحلة قصيرة كغفوة عينٍ وانتباهتها، لكن شأنها شأن مايكون في قانون الأرواح لا يحدها زمن ولا مادة ولا مكان، كما الحالم في رقدته، كثرت مشاهد حلمه أو قلت هو لايعرف كم انصرف من الوقت في رؤياه، لكنني أغمضتُ عيني على آخر صورة للكعبة الشريفة وآثرتُ أن احتضنها في عمق ذاكرتي على أن التقط صورةً لها في ذاكرة هاتفي، حتى تكون مجردة من المواد كما علمني ذاك الموطئ الطاهر.