«الوطنيةُ» كيف نترجمها؟
لا تزال العديد من المجتمعات النامية التي لم تمر بمرحلة البناء المنتظم للدولة الحديثة فيها، تعيش لبسًا واضحًا في مفهوم الوطنية والتعبير عنها، حيث تنسحب الأعراف التقليدية المتوارثة على منظومة العلاقات المفترضة في الدولة الوطنية الحديثة. وهذا بطبيعة الحال يخلق حالةً من الخلط الواضح، ويجعل مفهوم «الوطنية» سائلًا وهشًا ورجراجًا، بحيث يمكن أن يكون مجال «أخذ ورد» واتهام بضعفه متبادل، وتضيع المعايير والقيم الحاكمة، وتنتج عن ذلك حالة من الازدواجية والاصطفافات والتصنيفات المربكة.
إذا سلمنا بأن الدولة الوطنية الحديثة تقوم أساسًا على مبدأ «المواطنة» الذي يعني - تحديدًا - الالتزام بالحقوق والواجبات المتبادلة بين الدولة والأفراد والالتفاف حول مصالح وغايات مشتركة بما يؤسس للعمل الجماعي المشترك في العناصر المدنية والسياسية والاجتماعية، فإن الوطنية تتبلور في التعلق بالجماعة الوطنية وأرضها ومصلحتها وتراثها والاندماج في مصيرها.
انطلاقًا من ذلك فإن تمظهرات الوطنية تبدأ من سلوك الفرد ذاته، تجاه من حوله من أفراد هم شركاء له في الوطن، مهما كان شكل الاختلاف بينهم، بإيجابية ومساواة وتقدير، واعتبار أن هذه الشراكة الجماعية هي مصدر قوة وثراء للجميع، دون أي استئثار أو استحواذ أو استبعاد، ويطلب ذلك أيضًا التحرر من نير الشعور بالتفاخر والاستعلاء وممارسة ذلك على الآخرين المختلفين عند التمكن في أي موقع أو منصب.
«الوطنيةُ» تعني - في أبسط صورها - أن أحترم آراء وأفكار المواطنين الآخرين، وألا أهوّن أو أضعّف منها بسبب الاختلاف معهم، والخروج عن السلوك الحضاري باستخدام أساليب التخوين والتجريح وإطلاق الاتهامات كي أبرر لذاتي أنني أكثر وطنية منهم. وتعني المشاركة الفعلية في إبداء الرأي وممارسة النقد البنّاء والمساهمة في الشأن العام بالصورة المتاحة والممكنة، وليس الانكفاء والانزواء وعدم تحمل المسؤولية.
أرى أيضًا أن من مظاهر الوطنية مساهمة كل فرد في تقديم أفضل ما لديه من خبرات وإمكانيات وتوظيف كفاءاته وقدراته بصورة جادة في خدمة وطنه، وأن يساهم من يملك في دعم المشروعات التي يحتاجها المجتمع وخاصة الفئات الضعيفة والمهمشة فيه.
البعض لا يعنيه شيءٌ من الممتلكات العامة والمال العام ويعتبره فرصةً ومجالًا للتلاعب والإهمال، بينما «الوطني» هو من يراعي القيم الوطنية ويقدم المصلحة العامة على مصالحه الخاصة.
«الوطنيةُ» أيها السادة هي مفهوم أخلاقي عميق، تعني التعلق العاطفي بالوطن ورموزه وقيمه، وتتطلب تضحية الفرد بفرديته لصالح المجموع، في ظل وجود «الحوكمة» والحرية المناسبة ضمن معايير محددة.