حينما أغمضَ «الحبُ» عينيه
يبدو «الخميسُ» أكثر سعادة بعد أسبوعٍ من الغياب في الرياض، هكذا تكون الأربعمائة كيلو التي أقطعها راجعًا لعائلتي مليئةً بالشوق والحبور، العمة «فتحية» - والدة زوجتي - هي الشعلة الأكثر نشاطًا في الغالب، مقدمة الضيافة حول حذرها في إعداد طبقٍ ما للأكل مهمة، فالقليلُ من السُّكَر والزيت هو ما ينبغي التأكيد عليه، كل ذلك كنتُ بمنأى عنه في «الويك إند» الأخير، فالعمةُ مريضةٌ، ليست وعكة صحية كتلك التي تزاورنا كل شتاء، بل هو المرض الذي لم يترك بيتًا من «بيوتات» الشرقية إلا ورمى فيه أسهمه القاتلة.
كان رجوعُها إلى البلاد بعد رحلة دراسية في الولايات المتحدة في السبعينيات بابنها البكر «صلاح» وبشهادة البكالوريوس، تلك الدرجة التي كانت كافية حينها لنيل أفضل الوظائف في مملكة مقبلة على ثورة اقتصادية مميزة، عادت لتعمل - أول الأمر - في كلية البنات بالدمام، لتنتقل بعدها كمديرة لمدارس جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وحينما انتقل زوجها الأديب محمد سعيد البريكي من عمله كأستاذ في مركز البحوث التابع لجامعة البترول إلى «سابك» كأحد تنفيذييها باختيار من الأخيرة، انتقلت كمديرة لرياض أطفال الهيئة الملكية في الجبيل، يصح وصف قرارها بترك العمل بعد ذلك ب «التضحية» من أجل زوجها وأولادها، هذه التضحية ما كانت لتكون لولا أدركت أنَّ منح الأسرة أعلى درجات العناية هو واجب يفوق - برأيها - كل شيء.
أثمرت هذه التضحية مع الحكمة والتنور الذي يحمله زوجها عن أبناء وبنات يصح وصفهم ب «الصفوة» ليست الصفوة بمعنى التميز في الجانب العلمي التحصيلي فقط، بل بمعناه الثقافي والأخلاقي الذي يعني إدراك أن حب الناس والعطاء دون مقابل ومنح الآخر العذر أولى من الفضول وتتبع العثرات والخوض فيما لا يعني.
«الأم» عنوانٌ لكل جميل، عنوانٌ للتضحية، للإيثار وللحب، كانت «العمة» تمني النفس برؤية أولادها يقطفون ثمرة تعبها بتخرجهم ورؤية أطفالهم يلعبون حولها، وبعد أن «شطت بهم غربة النوى» في نيوزيلندا وأيرلندا، كان سيف القدر للأسف أسرع من أن تدرك ما تمنته، كانت في لحظاتها الأخيرة تكره أن تُزعج أولادها بمكالمة مرئية يلاحظون فيها ملامح المرض التي كانت واضحة عليها، هكذا عاد الأبناء ليدركوا اليوم الأخير لها في هذه الدنيا، هناك كانت أنابيب المغذي، وهناك تعزف الأجهزة الطبية بكل إبداع سيمفونية حزينة لواقعها الأليم، كان الألم قادرًا على اغتيال بسمتها، غير أنه أضعف بكثير من أن يوقف قلبها الحاني عن عطفه على المحيطين بها، ليس ثمة أحد يُدرك ما يجري، الأحداث تتسارع بشكل غير مفهوم.
الأربعاء وعند السابعة ليلا كانت المحطة الأخيرة، صمتت تلك الأجهزة واستقامت الخطوط، ولم يعد يُسمع في تلك الغرفة إلا بكاء المثكولين وعويل الفاقدين.
«إنا لله وإنا إليه راجعون» رحم الله العمة الحاجة فتحية عبدالله منصور أبو السعود.