الثلاثون
تبدو الحياة في أيامي هذه كهرمٍ وقد بلغتُ قمته ببلوغي الربيع الثلاثين من عمري، وأراني انظر للأيام من خلفي وقد تسحبت مترفقة كغيمٍ أبيض مر في يوم صافٍ على صفحة السماء، وما لبثت رياح العمر أن أتت عليه وفرقته، ثم جائتني بأيامٍ جديدة على عمرٍ جديد من غير إرادةٍ مني أواختيار.
على أيامِ العشرين سلام رقيق كريح الربيع إذا هب متلطفاً على وجه الزهور، فبها كانت أول الخطى نحو ساحة الحياة الواسعة والتي ما خضتُ عباب موجها إلا حين أفلتني العمر من حضن أمي وكفلني يدُ الحياة تعلمني مالم أتعلمه في عشي الأول، ثم تبدت لي الدنيا بوجهها المشرق، صافحتني وذهبت تحلق بي في سماءها كحمامة بيضاء أغدو وأروح لايثقلني هم ولا يقعدني فوات مأرب من مآربي، إن غنمتها اغتبطت، وإن غرمتها فغداً يحتمل البشرى، وكانت نفسي أقلُّ تحملاً وأكثر اندفاعاً لفورة ماتحمل طلعة العشرين من انجذاب نحو كل بريق يعشي بصر الناظر عن زيفه، وكنت لا أرى في الدنيا هماً أثقل من ذهاب صديق، أو عتاب حبيب، أو نظرة شزرة يرميها حقود، أو كلمة فظة يلقيها ثقيل، فأباتُ ليلتي دامعة أن قد هويتُ من منزلتي في قلب أحدهم، وكان أهم أمري أن أفوز برضا الخلق فاشتغلتُ برضاهم أكثر من رضا خالقهم، وكانت الحياة البهيجة في نظري لاتليق إلا بالأحسن والأجمل والأجود، وحملتُ نفسي قسرةً من أجل الغنم بحاجيات لم تضف لحياتي شيئاً إلا كمن اختار أن يأكل بآنيةٍ من ذهب على أن يأكل مافيها بآنية من فخار، غير أني عشتُ كمن عاش مثل عمري حياة ذاتية ضمنية في حياة الغير، أخاف مخالفة ركبهم، أوالتغريد خارج سربهم فأُتهم في نفسي بغرورٍ أو كبرٍ أو فلسفةٍ فينفضوا من حولي ومن ثم لا أحظى منهم باستحسان أوقبول، وكان الموت بعيداً عن ذكري فقد خيل لي أن الحياة كزورقٍ استقللته في بحر هاديء لا مرسى له وأن ذلك الزورق الجميل لن يلوي طريقه يوماً أو يهوي في القاع ولن يتوقف عن اندفاعه، وأن الوقت في اتساع والأحلام تغفو بهدوء على عقارب الثواني والأيام من غير ضبط منبه لتحقيقها، لم آسف على أيام ٍقد خلت غير أني قمتُ بما تطلبه تلك الأيام من أبنائها وبما يقتضيه ذلك العمر، لكني حين مررتُ على مجامع فتيات العشرين الحافلة بالنشاط والمرح والسرور، فرأيتُ نفسي في منأىً عنهم لا صلة لي بعالمهم ولا شأن لي باهتماماتهم، وأن اللاتي كبرت معهن وصديقاتي اللاتي نشأت معهن جُلّنا أصبحنا أمهات واستقرت بنا مراكب الحياة فانتقلنا من النظر في شؤون أنفسنا ومستقبلنا إلى النظر في شؤون أولادنا ومستقبلهم، وتحولنا من الإهتمام باللقاءات والاجتماعات إلى الإهتمام في شؤون أسرنا ومنازلنا، فذهبتُ إلى أمي سعيدة وخائفة!، تماماً كيوم ألبستني الحجاب وهمست لي بانتقالي من عمرٍ إلى عمرٍ جديد حينها تمثلت لي المسؤولية في أولى وجوهها وكأنها ذلك اليوم!
حتى أدركتُ أن الأيام أتت مسرعة تسوق لي عقداً جديداً، فاحتجب عني ماكنت أبصره بالأمس، فرضيتُ بالجيد والحسن والجميل، وانصرفتُ عن الأجود والأحسن والأجمل، وأنستُ بصحبة قليلة، وبدا سيف الوقت يقطع الساعات والأيام بسرعة جنونية فرحتُ أسابقه حتى أحقق أحلامي، وكانت لي شهادة جامعية آثرتُ أمومتي عليها فكنت محط عتب المحبين وشماتة الباغضين، وداريتُ غصتي في نفسي من أجل أن أنعم بنعيم الأمومة كما أشتهي وأرضى، وأودعتُ شهادتي درجاً للذكريات في سبيل نظرة من عيني صغاري أودعهم بها في غدوهم واستقبلهم بها في رواحهم، وتذكرتُ جلستي في سكن الطالبات أذاكر دروساً في طلب العلم، واليوم أذاكر دروساً لتربية أطفالي وأبحث الحلول لمشكلاتهم الصغيرة، ووجدتُ في روحي رحابةً في العفو عن المسيء، والإدبار عن الجدل الذي لاغاية منه، وتقبل الآخرين على اختلاف آرائهم وأنماطهم، وانتقلتُ من السعي لكسب رضا الناس الى السعي لكسب رضا الله، فمددتُ يد العون والإحسان لا من أجل مكانة اكسبها بين الناس ولا من أجل نظرة اجلال تبوؤني منزلة شريفة بينهم بل كانت لوجه الله لايخالطها ماليس له، وقربت خطواتي من مجالس النفع والفائدة وباعدتها عن مجالس التسلية، وأدركتُ أن شاطيء الموت قد يكون وشيكاً من حيث لا احتسب ورحت اتزود من قيم الدنيا وألفظ قشورها، وتبدلت الأيام التي كنت أحتفي بها من احتفالات ضيقة بعيد ميلادٍ أو تخرج إلى احتفالات أوسع قدراً وأعلى مكانةً في يومٍ للمرأة ويومٍ للأم، وسألتُ الله أن أكون أهلاً لتلك المكانة الكريمة والرسالة العظيمة، وكلما دعتني الدنيا للإحتفاء بكياني وشقت لي الصفوف لأتبوءُ من المجتمع نصفه قبضتُ على حجابي وتذكرتُ وصية خير لرسولٍ كريم لمن وأدوا فتياتهم يوماً ورجوتُ أن لا يوأد حجابهن اليوم.
وحتى تتنصل الشعرة البيضاء من بين تصاريف الزمن وتعلن عن مشارف الأربعين سنة، أوزعني ربي أن أشكر نعمتك وأن أعمل صالحاً وأصلح لي ذريتي حتى انحدر إلى الجهة الأخرى من هرم الحياة وأصل السفح بسلام.
والعمرُ مدَّته كمثل دراهمٍ بيدِ الفتى يشري بها حاجاته