أجعل يدك العليا
هناك أصناف من الناس، يمكن التمييز بينهم حيال مسألة الأخذ والعطاء، في علاقتهم بالآخرين، فهناك من يتساوى عنده ميزان الأخذ والعطاء، فهو يعطي الناس بمقدار ما يأخذ، وهناك الذين يسعون إلى الأخذ من الآخرين أكثر من عطائهم، وعلى النقيض من ذلك يأتي الصنف الثالث من الناس، وهم الذين يسعون إلى أن يكون عطاؤهم للناس أكثر من أخذهم منهم، والإسلام يربّي الإنسان على أن يكون معطاءً للآخرين على نحوٍ أكبر من أن يكون أخّاذًا منهم. ومردّ ذلك إلى أسباب عديدة، منها:
اعتبار ميل الإنسان للعطاء للناس على حساب الأخذ منهم، دفعًا له لتنمية طاقاته وقدراته، بغرض التوفر على الإمكانات التي تجعله في مقام من يعطي الآخرين ويتفضل عليهم، ويبذل المال في خدمة أهله ومجتمعه، بخلاف الآخر الذي بالكاد يفكّر في توفير احتياجاته الشخصية وحسب، والذي مهما بلغ فإن أُفق حركته يبقى محدودًا. ولا يقتصر العطاء على المسألة المالية، وإنما يتجاوزها إلى مجمل القدرات والإمكانات، إن لجهة العطاء العلمي، أو بذل الجاه والمكانة الاجتماعية، أم النشاط الثقافي، التي تبقى في مجملها حقلًا مفتوحًا للعطاء غير المحدود. وهكذا يشكّل الطموح إلى بلوغ محلّ العطاء، أكبر دافع إلى مضاعفة الإمكانات والقدرات الذاتية.
لما في ذلك من تنمية المشاعر الإيجابية، والنزعات الخيرة، في نفس الإنسان. تلك المشاعر والنزعات التي ستأخذ طريقها في تعامل الإنسان مع عائلته وأصدقائه وزملائه وعماله. وفي هذه الحالة، سيكون محور تفكير الإنسان في علاقته مع الآخرين، هو ما سيعطيهم ويقدم لهم، لا ما يريد أن ينتزع منهم.
ما في العطاء من ثواب إلهي كبير، فالإنسان الذي يريد ثواب الله ورضاه، ينبغي أن يدرك بأنّ ذلك غير منحصر في الصلاة والصيام، والالتزام بمختلف العبادات، وأداء المستحبات بقدر ما هو منوط أيضًا بالعطاء الذي يأتي على رأس الأعمال ذات الثواب المؤكد، والذي ينبغي ألّا يزهد فيه المؤمن، وإنما يبادر إليه على نحو مضاعف عمّا سواه.
ولطالما جاءت النصوص الدينية تترى في الحثّ على العطاء. فقد ورد عن رسول الله ﷺ أنه قال: «من أعان أخاه يومًا كان خيرًا له من اعتكاف شهر»، ولنا أن نتخيّل مقدار ثواب المعتكف في المسجد شهرًا من الزمان، صائمًا مصلّيًّا قارئًا للقرآن الكريم، يتعبّد الله ويدعوه ويتهجد إليه، ومع ذلك يجعل النبي ثواب إعانة إنسان بالمال أو الجاه أو الوقت أعظم من هذا الاعتكاف بكلّ ما فيه من الثواب.
إنّ التميز بالعطاء يبقى أمرًا منوطًا بأريحية الإنسان، سواء كان وسط جماعة في سفر، أو عضوا في مجلس إدارة لنشاط من الأنشطة، أو أيّ مكانٍ أو مجالٍ من المجالات، فسيكون كلّ همّه أن يجعل حضوره متميزًا بالعطاء للآخرين. والحال نفسه في العلاقة العائلية مع الزوجة، حيث ينبغي أن يكون محور تفكير الإنسان في مقدار ما يعطي زوجه لا ما يأخذ منها، والعكس بالعكس، وكذلك الحال بين الأصدقاء وزملاء العمل، ولنتذكر دائمًا الحديث النبوي «َقلِيلَ الْمؤُونَةِ كثِيرَ الْمَعُونَةِ»، وفي نصٍّ آخر عن الإمام الصادق أنه قال: «المؤمن حسن المعونة، خفيف المؤونة»، فالمؤمن أبعد ما يكون عن الإثقال على عائلته وأصدقائه وزملاء عمله، نتيجة كثرة متطلباته.