كُنْ في موقع العطاء
ترتبط حياة الإنسان في هذه الدنيا ارتباطًا وثيقًا بأبناء جنسه ومحيطه. فهو جزء منهم، يعيش معهم، وتتداخل حياته مع حياتهم، فلا يستطيع أن ينفصل عن أبناء نوعه من البشر، ويعيش منقطعًا عنهم، فلا بُدّ له إذًا من العيش مع الناس؛ لارتباط مختلف شؤونه بشؤونهم.
غير أنّ هناك تفاوتًا ملحوظًا بين الناس، حيال مدى ارتباطهم بالآخرين والعلاقة معهم، فهناك من يعمد إلى تقليص ارتباطه بالآخرين إلى أدنى الحدود الممكنة، فيكتفي بالمقدار الضروري من العلاقة بالناس، ولا يسعى إلى توسيع شبكة علاقاته الاجتماعية، وهذا أمر غير محبّذ، إذْ من الخير للإنسان أن يتوسّع في علاقته مع أبناء جنسه، وإن شاب تلك العلاقة بعض المشاكل أحيانًا، حيث ورد في الحديث «إنّ المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على آذاهم». في مقابل ذلك، هناك من يسعى إلى توسيع رقعة ارتباطاته مع الآخرين، إلى أقصى حدٍّ ممكن.
إنّ علاقة الإنسان بالآخرين قائمة على أساس مبدأ الأخذ والعطاء، فهو يأخذ منهم ويعطيهم، غير أنّ مربط الفرس هنا، هو في الموازنة بين الأخذ والعطاء، والمدى الذي يعطي المرء الناس أو يأخذ منهم.
@@الأخذ والعطاء في العلاقة مع الناس
إنّ هناك أصنافًا من الناس، يمكن التمييز بينهم حيال مسألة الأخذ والعطاء، في علاقتهم بالآخرين. فهناك من يتساوى عنده ميزان الأخذ والعطاء، فهو يعطي الناس بمقدار ما يأخذ منهم، فالأمر بالنسبة لهذه الفئة أشبه بكفّتي ميزان، على صعيد العلاقة بالآخرين، لجهة الأخذ منهم وتقديم العطاء لهم.
أمّا الصنف الثاني من الناس، فهم أولئك الذين يسعون إلى الأخذ من الآخرين أكثر من عطائهم لهم، وهذا الصنف تتعزز فيه حالة النهم نحو الاستحواذ على كلّ ما تقع عليه يده من المكاسب والمصالح، التي يستطيع الاستحواذ عليها من الآخرين، من أفراد عائلته وأصدقائه وزملائه ومعارفه، في مقابل محدودية العطاء الذي يقدّمه لهم، عادًّا هذا السلوك نوعًا من الحذاقة والذكاء.
وعلى النقيض من ذلك يأتي الصنف الثالث من الناس، وهم الذين يسعون إلى أن يكون عطاؤهم للناس أكثر من أخذهم منهم، بحيث تكون السمة الرئيسة في علاقتهم العائلية والاجتماعية هي سمة العطاء، فلا يعود المعيار قائمًا على مقدار ما يأخذون من الناس، وإنّما التفكير دومًا في مدى ما يعطونه لهم.
ترجيح كفّة العطاء
ويدفع العقل السليم، إلى جانب النصوص الدينية، نحو التحلي بصفة العطاء في العلاقة بالآخرين، أكثر من الأخذ منهم. حيث تشجّع الإنسان المؤمن على التخلق بصفة البذل والعطاء، فقد ورد عن رسول الله ﷺ، أنه قال: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، فَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ».
وجاء في نصٍّ آخر عنه ﷺ أنه قال: «اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول»، وفي ذلك حثّ على السعي نحو احتلال موقع العطاء للآخرين، وهذا هو معنى اليد العليا، كما ورد في حديث عنه أنه قال في صفة المؤمن: «.. َقلِيلَ الْمؤُونَةِ كثِيرَ الْمَعُونَةِ»، فالإنسان المؤمن إن اضطر للأخذ من الآخرين بحكم العلاقة الطبيعية بين الناس، فسيكون ذلك ضمن الحدود الدنيا، في مقابل كثرة المعونة التي يقدّمها للآخرين.
وورد عن الإمام الباقر أنه قال: «من خالطت فإن استطعت أن تكون يدك العليا عليهم فافعل»، ومضمون ذلك أن يحرص الإنسان على أن يكون في موقع العطاء والإحسان للآخرين أنّى كان معهم، في حضرٍ أو سفرٍ أو تجارةٍ أو عمل. وجاء عن الإمام الكاظم في وصيته لهشام أنه قال: «إن خالطت الناس فإن استطعت أن لا تخالط أحدًا منهم إلّا من كانت يدك عليه العليا فافعل».
إنّ التعاليم الدينية تفيض بالتوجيهات الحاضّة على التفكير في العطاء للآخرين، على نحو يفوق الأخذ منهم. فقد ورد في المسائل الفقهية حول البيع والشراء «استحباب أن يأخذ الإنسان ناقصًا وأن يعطي زائدا»، وذلك بأن يشتري الشيء ناقصًا ـ باختياره ـ، خلافًا لاستيفاء الحقّ مضاعفًا كما يفعل البعض. وينسحب ذلك على أمر اقتراض المال من الآخرين، فالأفضل إرجاع الدين مع الزيادة، ما لم تشترط الزيادة ابتداءً. وكذلك تندرج الحقوق الزوجية في هذا السياق، إذْ إنّ تمام المروءة أن يعطي الزوج زوجه الحقّ مضاعفًا، وإن نال حقّه منها منقوصًا. والحال نفسه ينطبق مع العاملين في المؤسسات التجارية، فإن استطاع المالك إنقاص ساعات العمل تفضّلًا فليفعل، فهذه هي اليد العليا، عوضًا عن محاسبة العامل على واجباته حسابًا عسيرًا، أو التراخي في إعطاء حقوقه.