سقطت النخبة!
بل على العكس تماماً، فلم تسقط النخبة* ولم تمت الحاجة لها، بل إن حاجة المجتمع لها بدأت تتعاضم وتتضخم في خضم هذا الطوفان الهائل من المعلومات التي تُضخ لنا عبر وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة وغيرها. فمثلاً، يرفع إلى اليوتيوب في الدقيقة الواحدة ما يقارب 300 ساعة من الفيديوهات و5 مليار فيديوهات يُشاهد في اليوم الواحد وعدد الزائرين للموقع ما يقارب 30 مليون لكل يوم، وأما عن العدد الكلي لمستخدمي اليوتيوب إلى هذه اللحظة فيقارب المليار و300 مليون. هذا ما يخص اليوتويوب فقط، فما بالك في الوسائل الأخرى المتزايدة بشكل دائم! فالمجتمع كان ولا يزال بحاجة إلى الطبيب كي يعالج أمراضه بشكل صحيح، وفي الوقت نفسه كي يصحح هذا الزخم من المعلومات الطبية التي اتخمت وسائل الإعلام من يوتيوب ومواقع إلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي من واتس أب وتويتر وسناب شات وأخواتها. فالأمور أصبحت كما يقول المثل الشعبي، ”لف صبعك بشاش وكل واحد ينعت لك دواء!“ أو كما يقول أحد أصحابي، ”دعني أفتي، فالجميع يفتي!“. فزمن ”لا يُفتى ومالك في المدينة.“ قد انقضى وأضحى في المدينة ألف شخص يزعم أنه مالك!
الحقيقة أن وسائل الإعلام أصبحت في متناول الجميع؛ ولذلك فقد أتاحت للكل أن يدلي بدلوه ويتحدث في أي شيئ وخاصة الأمور التي لا يفهم فيها شيئا! فالرقيب والحسيب، المتخصص أو النخبوي، غائب عن هذه الساحات لأنه مشغول بأمور أخرى من بحث وتنقيب عما يفيد المجتمع، ووقته لا يتسع لأن يلاحق ويتتبع أثر المعلومات التي تمطرنا بها وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في كل لحظة. وهو، على كل حال، يفترض بأن المجتمع سيأتيه وسيسأله عما اعتراه الشك فيه، ولن يأخذ بأمر دون أن يعرضه عليه. ولكن وللأسف فأن هذا ليس صحيحا دائماُ، وربما كان هذا السيناريو هو النادر وهو الشاذ. ومن هنا، فإن على المتخصص والنخبوي أن يبادر هو بنفسه وينزل من برجه العاجي إلى أرض الواقع، ولابد أن يبذل جهداً مضاعفاً ليستمر في كتابه أبحاثه الدقيقة التخصصية، وفي الوقت ذاته يكتب ويتحدث في وسائل الإعلام الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي الفتية. ولعل بعض أدبائنا ومفكرينا ومثقفينا الماضين الكبار وضع على عاتقه هذا الأمر وقام بهذا الدور، فتجد طه حسين، مثلاً، يدرِّس في الجامعة ويكتب في تخصصه للمتخصصين، ثم وفي الوقت نفسه يكتب للمجلات والصحف للقارئ غير المتخصص. وقريب من ذلك ما يفعله العقاد وأحمد أمين وغيرهما. بل إنك لا تعدم أن تجد مثل هذه النخبة في مجتمعنا، فذلك غازي القصيبي رحمه الله وهذا إبراهيم البليهي وتوفيق السيف والغذامي وفهد العرابي الحارثي وغيرهم كثير عملوا، ولا يزال بعضهم، في كل اتجاه وقسموا أوقاتهم وجهدهم بين الكتابة للنخبة والكتابة لغير النخبة وبين عملهم من تعليم وإدارة وغير ذلك. فالمتخصص والنخبوي الحالي لابد وأن يخوض غمار التجربة في تويتر إلى جانب عمله في أبحاثه وكتاباته التخصصية كي لا يعيش معزولاً عن مجتمعه الذي هو بحاجة إليه أكثر بكثير من السابق، فالشوائب والملوثات الفكرية والثقافية ملأت الآفاق وضحالة المعلومات أغرقت المجتمع.
ونتيجة لهذا الغرق المعرفي، كما بينَّا، برزت لنا قضية إخرى أيضا وهي الاختيار الذكي أو الاختيار المناسب من بين خيارات كلها أو جلها صحيحة. فالمسألة تعدت التمييز بين الخيارات البعيدة عن الصحة والقريبة منها، لتصبح المفاضلة بين خيارات كثيرة كلها قريبة من الصحة أو صحيحة. وكل هذا يتطلب من الشخص غير المتخصص أن يرتفع بمستوى وعيه ويبذل جهداً إضافياً في عمليتي التمميز والاختيار بين تلك الخيارات لا يستغني فيه عن مساعدة وتوجيهات ونصائح النخبوي وإلا ضاع في خضم هذا الزخم المعلوماتي الهائل. وهنا أتذكر كلمة لزكي نجيب محمود قال فيها بأن الهدف الذي على النخبة أن ينشدوه هو الارتقاء بالمجتمع وذلك بأن يكون حديث الناس غير النخبة وغير المتخصصين، وليس كتابة النخبة فقط، ”علمياً“ أو ”شبه علمي“، وذلك بأن يتبع المتحدث منهجاً علمياً كي لا يخلط غث الكلام بسمينه. وهذا الأمر لا يتأتى بكثرة أو بغزارة المعلومات، وإنما يتأتى بالممارسة والتطبيق ثم التصحيح والتعديل الدائم من ”الرقيب النخبوي“، إن صحت التسمية، الذي يوجه ويهذب ويقوِّم ويصحح بشكل مستمر ما يعتري المجتمع من إعوجاج في المنهج وزيغ في الفكر وزيف في المعلومات. وليس من السهولة بمكان أن تقوم الوسائل التقنية الحديثة بمثل هذا الدور كما يظن بعض الناس. فاليوتيوب لا يعلمك قيادة السيارة أبداً حتى لو شاهدت عشرات المشاهد والفيديوهات التي تزعم بأنها ستعلمك القيادة فضلاً عن تصحيحك وتوجيهك وتدريبك على ذلك. فهناك أمور كثيرة جداً لا تتعلمها بالمشاهدة أبداً حتى لو كررت ذلك مراراً كثيرة جداً، وإنما بالممارسة والتصحيح الدائم من قبل المتخصص فقط وفقط تستطيع التدرب عليه وتعلمها ومن ثم إتقانها.