الوعظ بالأسلوب القصصي،، بعيدا عن الخرافات والأساطير
يعتبر الأسلوب القصصي من الأساليب الفاعلة والمؤثرة جداً على النفوس في أي مجال من مجالات التوعية، لما يمتاز به من عنصر التشويق وجذب الانتباه والتفاعل مع المتحدث، إضافة لفاعليته في تبسيط نقل الفكرة أو التجربة إلى ذهن المستهدف.
وهو أسلوب اعتمده الخطاب القرآني في عرض الكثير من التعاليم والتوجيهات التي تخاطب عقل الإنسان، من خلال أحداث السرد القصصي، لتصبح منهاجا حركيا للإنسان في مختلف مجالات حياته.
وتبرز الإشكالية عندما يعمد الكثير من الخطباء إلى الاتكاء على قصص يتم نسجها وتوظيفها لخدمة الخطاب المنبري ولكن من خلال استثارة العاطفة الدينية واستغلال جوانب الضعف المعرفي الإنساني بملئهِ بالخرافات والأساطير، لأسباب مختلفة، ربما أكثرها يأتي من منطلق الغاية تبرر الوسيلة، وأنه لصالح التدين، والواقع أن ذلك أسلوب عقيم وخاطئ ولامبرر له لما فيه من استهانة بعقول الناس وتزييف الواقع من خلال أسطرة الخطاب الديني وجعله خرافياً لا يمت للواقع بصلة ولا سند.
فالخرافات والأساطير عندما تسيطر على عقل الفرد وفكره فإنها تتحول في الغالب إلى نمط ذهني وثقافي حاكم، ومنظومة ثقافية سائدة يتم التعامل معها كواقع ومسلمات ثابتة لا تقبل الجدل، لاسيما عندما تكتسي بكساء الدين، مع أن الديانات السماوية جاءت لتزيح الجهل والتخلف من العقول، ولتكرس التفكير الحر واعتماد العقل في التدبر والتأمل والوصول للحقائق والمعارف بعيداً عن الخرافة والأسطرة.
كما أكد الله سبحانه وتعالى على مركزية العقل ومحوريته في كتابه الكريم بتقديم أعظم ترجمة عملية، جاءت بأقوى المعطيات والمناهج في احترام العقل
من ”تفكر، وتدبر، وتعقل، وتأمل، وتبصر...“ ونبذ للتبعية والتقليد الأعمى في التفكير.
من هنا تأتي أهمية حضور العقل الواعي والمفكر الحر، الناقد والمحلل، والمقيّم لكل ما يطرح عليه من أفكار وقصص، بعيداً عن المؤثرات العاطفية.
في هذا الصدد يحضرني أحد المواقف الحوارية التي شاركت فيها في العراق وللأسف لم أكن أتوقع أن الواقع الثقافي والاجتماعي، أصبح بيئةً خصبة ومناسبة لتنامي الخرافة واللاعقلانية، إذ كان لي حوار مع أحد المشائخ الأجلاء في النجف الأشرف، عندما تحدث عن أهمية الصلاة وعقوبة تاركها بعد صلاة الجمعة، مستشهداً بقصة غريبة، قال فيها: "توفيت شابة فتغير وضع رأسها بشكل منعكس وتحول لونها للأسود....... وغيرها من تفاصيل الرعب والخيال، كما ذكر أن جنازة الفتاة، تعطلت بسبب فزع وهرب كل من شاهدها، ولا مجال هنا للوقوف على كل التفاصيل اللاعقلانية التي جاءت بها تلك القصة، ثم ختم القصة بقوله أن هذا كله كان عقاباً للفتاة المتوفاة بسبب تركها للصلاة...!!
في بداية الحوار، أبدى الشيخ استغرابه لعدم اقتناعي وقبولي لهذه القصة التي أوردها ورفضي لها منطقياً وعقلانياً، موجها ضربة استباقية هادئة فهمت منها وصفاً أو حكماً بأنني لا أؤمن بالمعجزات، مشبهاً القصة بمعجزة النبي نوح .
ولكن عندما سألته عن صاحب معجزة الفتاة، وبرهانها، ووسيلة الإخبار عن أمرها من رب العالمين، وكيف يعاقب الله عباده بتأكيد العنصرية..!! وفضح أسرارهم..!! وهو الإله المنزه عن كل هذه الصفات التي لا تليق بجلاله!! كما اعتبرت القصة إهانة لعقلي ولعقول المستمعين، وأنها لا تتماهى مع دوره الرسالي ولا تخدم الدين والتدين بل تضرهما وتُسيئ للخطاب الديني ككل، أصبح أكثر تقبلاً وانفتاحاً في الحوار بكل رحابة وخُلق رفيع، موجهاً شكره لي على تلك الالتفاتة التي اعتبرها مهمة وتستحق الوقوف عليها، وأنا بدوري شكرته على تفهمه وتقبله للنقد وإعادة التفكير في مثل هذه القصص الخرافية.
إذا نحن مسؤولون عن نعمة العقل التي كرمنا الله بها، أي ينبغي الرجوع للعقل واعتماده كمعيار للتفكير والتوقف عند كل ما يطرح على عقولنا، من روايات وأحاديث وأفكار من خطابنا الديني الراهن والمتداول، سواء على المنابر، أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
فالخرافات والأساطير من أكبر معوقات الوعي والبناء الفكري والمعرفي للإنسان في أي مجتمع، وخاصةً إذا ما توفرت العوامل التي تساعد على تبلورها وانتشارها والتي من أهمها:
- المبالغات في الانسياق وراء العواطف والغيبيات التي تقود لا شعوريا لتقديس الأشخاص على حساب الأفكار والمبادئ.
- كما أن الخرافات تتعزز بالعلاقات الفكرية بين الفرد والجماعة. فكثيرا من الناس لا يشعر بالأمان والاطمئنان إلا بالانقياد للجماعة بما يسمى ”التفكير أو العقل الجمعي“ وفي كثير من الأحيان تجد الخرافات مناخها المناسب، عندما ينأى الواعون وأصحاب الفكر المستنير بأنفسهم عن أي نقد أو حوار موضوعي لتفكيك وغربلة هذا الكم المتراكم من المرويات والقصص التي يحفل بها خطابنا الديني والمنبري الراهن، لأسباب مختلفة وواضحة من أهمها تجنب الاصطدام مع المتعصبين والمتشنجين، اصحاب الرأي الواحد.
لذا نحن بحاجة لحضور قوي من أصحاب الفكر الناقد والأقلام الحرة الواعية لنتمكن من الخروج من إشكالية تغييب العقل ومن تبعات الانسياق الأعمى والتعصب الفكري إلى الانفتاح والنقد الموضوعي الهادف بالحوار الهادئ بعيدا عن التشنج والجمود الفكري الذي لا يؤدي إلا إلى خلق أزمات فكرية وثقافية بما تحدثه في المجتمع من نزاعات وتمزقات تهدد النسيج الاجتماعي ولا تخدم قضاياه الرئيسية.