أبعد وأعمق من ”صح“ أم ”خطأ“
لازلنا كعرب نخضع كل شيئ في حياتنا النظرية والعملية للثنائيات المتضادة أو، بالأصح، التي نعتقد أنها متضادة. فهناك ال ”صح“ في مقابل ال ”خطأ“، وهناك ”المؤمن“ في مقابل ”الملحد“، وهناك ”السيد“ في مقابل ”العبد“، والأسود في مقابل الأبيض، والسني في مقابل الشيعي والبدوي في مقابل الحضري، وحتى الهلالي والزملكاوي جعلناهما في قبالة النصراوي والأهلاوي على التوالي، وهكذا.
ونحن عندما نعتنق ال ”صح“، فهذا بالضرورة يلزمنا، كما نظن، أن نعتقد ونتعامل مع كل شيئ آخر ومختلف على أنه خطأ محض ولا سبيل إلى قبوله أو إصلاحه وتعديله أبداً. وذلك يلزمنا أيضاً أن نكنَّ كل العداء وأن نرمي بكل التهم السيئة على عاتق ذلك الطرف الذي لا نعتقد به ولا نعتنقه من تلك الثنائية. فكل مؤمن هو ند وعدو لكل ملحد والعكس، وكل مؤمن هو ند لكل ملحد، وكل سيد هو عدو لكل عبد وكل شيعي هو عدو لكل سني، وأخيراً كل هلالي هو عدو لكل
نصراوي!
وفي هذا المقام يقول عبدالسلام المسدي، بأن ”الفكر العربي يجنح إلى صياغة الثنائيات في ظاهرة تبدو كالبدعة، خصوصاً إذا ساغ لنا أن نصوغ تعقيدات الأفكار في“ بساطة الثنائيات ”. ثم يكمل قائلاً،“ هناك ظاهرة في ثقافتنا العربية تتمثل في الانسياق إلى ”شعرية اللغة“، و”نغمية الايقاع“، فيما قد أسميه - إذا سمحتم لي - ”اقتفاء النغمة الظالمة“. انظروا معي إلى ثنائيات ”النقل والعقل“، ”الاتباع والابتداع“، ”المقدس والمدنس“، وأراهن على أن خمس دقائق فقط من التأمل من كل واحد منا ستفضي به إلى إدراك أن طرفي المعادلة ليسا متضادين تماماً كما درجنا على صياغتها بهذه اللغة الشعرية. ”عالم الفكر الكويتية العدد: 174 «إبريل - يونيو 2018» ص 297. والحقيقة أن العالم المتحضر تجاوز كثيراً من هذه الأمور والثنائيات التي باتت في متاحف الأفكار الإنسانية البالية. وبدلا منها، بدأ العالم باستعمال كلمات من قبيل“ صحيح ”و“ أصح ”و“ دقيق ”و“ أدق ”. بل إنه تجاوز حتى ذلك ليصل إلى استعمال كلمات“ صحيح من هذه الزاوية بالذات ”و“ ذاك أنسب لي أنا ”و“ ربما تكون تلك أكثر ملائمة لي ”وغير ذلك من الكلمات والعبارات التي توحي بأن الأمور ليس من الضروري أن تقاس بمقاييس أحادية من مثل“ صح ”و“ خطأ ”أو“ صالح ”و“ طالح ”أو“ خير محض ”و“ شر محض"وغير ذلك من الثنائيات المتقابلة التي لا تحتمل أمراً أخر غيرها.
ولعل بعض هذه الثنائيات خلقت بعض الإشكالات في تراثنا القديم. فحديث، إن ثبت صحة ذلك، ”الفرقة الناجية“ حاول تأويله بعض من ثبت عنده سنده آخذين تعدد الفرق والتيارات الإسلامية في الداخل السني والشيعي على حد سواء. وربما جاء بيت أبي فراس الحمداني:
”وَنَحْنُ أُنَاسٌ، لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا، لَنَا الصّدرُ، دُونَ العالَمينَ، أو القبرُ“ بمثل هذه العقيدة أيضاً.
وتابعه في ذلك، أيضاُ، نزار قباني حينما قال: ”لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار“.
وبذلك، فقد الغى الحمداني كل المنازل والدرجات الوسطى الواقعة بين طبقة ومنزلة ”الصدر“ و”القبر“. وبالمثل؛ فإن نزار قباني اختزل كل منازل الجنة والنار أو منازل الآخرة في منزلتين. وهما، الحمدانيّ وقبانيّ، بذلك أنكرا الطبقة الوسطى والمنازل المتباينة التي يرى بعض علماء الاجتماع والاقتصاد بأن تلك الطبقات هي التي تشير إلى أن المجتمع والاقتصاد على التوالي في حالة جيدة.
هذا والمتمعن في تراثنا كله وبشكل شمولي يتبين لديه أنه لا يغفل كل الطرق الأخرى المختلفة ليختصرها في أحد طريقين لا ثالث لهما. فهذا قائل يقول، ”لكل شيخ طريقة“ وآخر يقول، ”أهل مكة أدرى بشعابها“ وأخير يقول، ”الطريق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق“. فليس بالضرورة أن يكون هناك طريقاً واحداً صحيحاً، وليس هناك طريقاً بعينه أنسب من الآخر بشكل مطلق. بالإضافة إلى ذلك فإن الطريق الأقصر والأسهل ليس هو، دائماً، الأنسب والأفضل لكل الناس. فمن الناس من يحب الطريق الوعرة ومن الناس من يحب ”التطعيس“ في البر وتسلق الجبال وركوب الأمواج فهي أمتع له وأكثر جاذبية مع أنها خطرة وصعبة ومضنية. وبنفس المنوال، فإن الجو المعتدل ليس هو الأفضل لكل البشر، فقد تجد من يفضل الشتاء على كل الفصول ويفضل رياضاته كالتزلج وغيرها على جميع الرياضات الأخرى وهكذا. فزمن الخط الأوحد والتيار الوحيد والمقياس الفريد قد انقضى. حتى في مقياس الحرارة والبرودة دخلت عوامل أخرى تجعل من قوقل مثلاً يعطيك درجة الحرارة بحسب المقاييس التقليدية ثم يرفقها بدرجة الحرارة التي يشعر بها الإنسان حقيقةً، والتي تكون متأثرة بعوامل كثيرة أضيفت مؤخراً كسرعة الريح ورطوبة الجو وغيرهما. وليس قارئ القرآن الفلاني هو الأحسن والأفضل في كل الحالات، ولا ذلك الخطيب بعينه ولا ذلك المغني ولا ذلك اللاعب ولا ذلك البطل ولا ذلك القائد كذلك.
إن هذا الزمن زمن التنوع وزمن الألوان المختلفة والمتباينة والأمور المركبة والمعقدة الذي أزاح عن وجهه لثام الثنائيات البسيطة. فلابد لنا، كي نعيش هذا الزمن ونفهمه ونتحدث بلغته، أن نؤمن وندين بما يعتقد ويدين به. ولابد أن نخرج من قوقعة المقارنات الثنائية التي ليس لها واقع في أغلب الأحيان، والتي تحد من انطلاقة وحركة تلك الأمور وتلك الأشياء التي جمدناها بغية المقارنة بينها.