في اللاذقية ضجة
كان زميلي متحمساً جداً وهو يحاول جاهداً إقناع ذلك المسيحي كي يتخلى عن مسيحيته ويعتنق الإسلام، راجياً بذلك الثواب العظيم والأجر الكبير. في النهاية، لم يقتنع المسيحي كثيراً بما جاء به زميلي رغم أنه لم يترك دليلاً عقلياً أو نقلياً يعرفه إلا وساقه كي يثبت صحة كلامه. وكل ما ظفر به زميلي من ذلك المسيحي هو قوله، ”سأفكِّر في كلامك“. ثم غادر المكان.
وقتها، التفت إليَّ زميلي قائلاً: لست أدري لماذا لا يرى بعض الناس الحقيقة رغم وضوحها ورغم ما تُدعم به من براهين وأدلة واضحة! هل كانت أدلتي وحديثي بعيديْن عن المنطق والعقل؟ أو أنَّه العناد والجحود الذي يملأ صدور وعقول الكثير من الناس؟ فقلت له بأن الأمر ربما يكون ليس كما تتصوره أنت، فكما أن لديك أدلة - تراها أنت كافية - على صحة دينك ومعتقدك، فإن الآخرين الذين يعتنقون ديناً أو مذهباً أو حتى فكراً مختلفاً يمتلكون من الأدلة ما يجدونها كافيةً ودامغةً على صحة ما يعتنقون من دينٍ أو مذهبٍ أو فكر. ولا تستطيع أنتَ - بحالٍ - أن تنكر عليهم ذلك، لأنهم يرونها - تلك الأدلة - واضحةً وصريحةً تماماً كما تعتقد أنت ذلك في أدلتك وبراهينك. فقال لي: ولكن الحقيقة واحدة يا صديقي. فقلت له: صدقت! هي واحدة ولكن الطرق إليها ليست واحدة، وكذلك فإن إدراكنا لها يكون بشكل نسبي، وإلا لما اختلف الناس كل هذا الاختلاف في الأديان والمذاهب والأفكار. فقال: ولكن، ألا يمكن أن يكون ذلك الاختلاف ناتجاً من خطأٍ في طريقة الاستدلال والاستنتاج أو أنه سقم وضعف في الدليل نفسه؟ قلت: ذلك جزءٌ من القضية؛ ولذلك فإننا نتحاور ونناقش تلك الأدلة وطرق الاستدلال بها بعد أن نتفق على بعض الحيثيات التي تكون قاعدة انطلاق لتلك المناقشة وذلك الحوار. ولكنك - في الحقيقة - لا تستطيع بحال من الأحوال أن تدعي بأنك تمتلك الحقيقة المطلقة، وأن أدلتك هي وحدها - فقط ودون غيرها - الصحيحة والواضحة والمقنعة. وقد تكون الحقيقة التي تمتلكها والتي تعتقد أنها مطلقة وفريدة هي نسبية كما عند الآخرين، وأن أدلتك التي لا تشك أبداً في سلامتها وصراحتها هي التي تحتاج إلى تقويم وتعديل. أضف إلى ذلك، أنه ربما تكون أنت ومن يخالفك تختلفون في الطرق والتفاصيل، ولكنكما تلتقيان في النتيجة والنهاية. وهذا يدل - في كثير من الأحيان - على أن أدلتكما صحيحة وسليمة ولكن طريقكما ومنهجكما مختلف، والطرق والمناهج - كما تعلم - كثيرة جداً!
ومن هنا أرى أنه - إضافةً إلى الأدلة والبراهين والمنطق والعقل - لابد نستخدم أساليب مختلفة تخاطب القلب والأحاسيس والمشاعر أو أن نسلك طرقاً مختلفة ومغايرة نخاطب بها العقل من زوايا جديدة. ولابد أيضاً أن نذلل جميع الوسائل التكنولوجية وكل أساليب العصر الأخرى التي تبرز مظاهر الجمال والإيجابيات فيما نعتنق من دينِ أو فكرٍ بثوب جديد ومظهر جذاب كي نكون أكثر إقناعاً وقبولاً. أما لو اقصرنا في إثبات ما نعتقد على الأدلة المنطقية والعقلية البحتة والجافة فقط، ربما لا نصل إلى ما نرجوه من النتائج، ولربما ينتهي بنا المطاف إلى ما انتهى بأبي العلاء المعري حينما قال:
في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والمسيحُ
هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيحُ
كلٌ يعظِّم دينه يا ليت شعري ما الصحيحُ؟