آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

هذا لا يمثلنا!.. نظرة في سيكولوجية الإقصاء

محمد سليس

أرجو أن تتسع صدور المحافظين لهذا المقال وفي الوقت ذاته لا يطير به مخالفو الأعراف فرحاً. نريد أن ننظر سويةً لبعض لغات الإقصاء والتصنيفات المتبعة من قبل البعض بأن هذا يمثلنا وتلك لا تمثلنا. لا أظن أبتليت الإنسانية بداء مثلما أبتليت بالقوالب الفكرية والمجتمعية التي لو أختلف عنها شخصٌ ما لتعرض إلى جميع المسميات والتخوينات وقدّ يرمى البعض منهم بالعمالة. بل أكثر من ذلك قد تكون على مستوى الأسر، فقد يتعرض الإبن إلى التبري من أبويه إذا اتبع نهجاً مختلف. وهل كل مختلف خارج عن العادات؟

الجواب على هذا يتطلب مقالاً مستقلاً لأن علماء الإجتماع أفردو لها عناوين مستقلة بها ودرسو الحالات المتكونة للخروج عن العادات والتقاليد كما يسمونها «Deviant to the norms». بعبارة بسيطة، بعض من خرجوا عن القوالب المجتمعية كانو رحمة لمجتمعاتهم وأنا هنا لا أشير للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله مع أنه المثال الأوفى، لأن البعض قد يقول أنه مسدد من قبل السماء ولكن أشير إلى بعض الشخصيات البشرية مثل غاندي.

وعلى كل حال كنت أظن بأن التخلص من الأوزان الزائدة هو الحل. فكنت أنظر إلى بعض التصرفات من قبل أشخاص بأنها لا تمثل مجتمعي أو أن بعض الأفكار لا تمثل عقائدنا. إلى أن قرأت سيرة أهل بيت الطهارة فوجدت أن الإحتواء هو الأفضل. فمثلاً في مضمون هذه الرواية عن الإمام موسى بن جعفر في كتاب الإرشاد للشيخ المفيد: أن رجلاً يتعرض للإمام بما يؤذيه، فطلب أصحاب الإمام الإذن بالتصدي له لكن الإمام رفض. فذهب الإمام إليه وهو في مزرعته. ما إن رأى الرجل إلا وأسمعه كلاماً لا يليق. جلس معه الإمام ولاطفه وبارك له على مزرعته وأعانه في قضاء أمر المزرعة. فعاد الرجل بتقبيل الإمام. فقال الإمام لأصحابه أوليس هذا أجدر؟!

يقول الله عزّ وجلّ: ”أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ «181» وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ «182» وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ“ الشعراء. لابدّ أن يكون لكل شيئ مقياس ثابت. وهذا المقياس يكون أساس ثابت وأصل يبنى عليه، فمثلاً: تقاس درجة الحرارة بالدرجة المئوية. قد يقول قائل هنالك مقاييس لقياس الحرارة غير الدرجة المئوية، وذلك صحيح ولكنها كلها تعادل بعضها البعض.

الآن، ما هو مقياس الإنسان منطقياً؟ عندما تسأل عن ماهية الإنسان تجد أنّ للإنسان جوهر معين. في علم المنطق الإنسان هو الحيوان الناطق. فأصل الإنسان هي الحيوانية. فإذا سُلِبت من الإنسان الناطقية لا يظل إنساناً بل يبقى حيواناً. وكذا الحيوان في علم المنطق هو الحساس المتحرك بالإرادة. فإذا سُلِبتْ الإرادة لا يبقى حيواناً. وعلى هذا المعدل.

الأصل هو الإشتراك في الماهية - الإنسان - وإن كان الإختلاف في المحمول أو العرض. مثلاً: الإنسان هو الأصل والكتابية هي العرض. فالإنسان الكاتب هو إنسان بالأصل، فإذا سُلِبت الكتابية يبقى إنساناً.

بالنسبة لعلم التطور فإن وظيفة القدمين هي المشي، وما عدى ذلك فإنه تحصيل حاصل من قبيل لعب كرة القدم. فَلَو لم يلعب الإنسان كرة القدم تظل وظيفة القدمين هي المشي. ويجب أن لا يتم الخلط بين المقدرة والآلية، لأن عدم القدرة على المشي مع وجود القدمان لا يلغي الآلية.

أما بالنسبة لأصول الدين على المشهور للإمامية هي الخمسة: التوحيد - العدل - النبوة - الإمامة - المعاد. هذا هو الحدّ الأدنى الذي يجعل الشخص شيعياً إذا آمن بهذه الأصول كلها في آن واحد ”و أما فروع الدين فعند الشيعة هي كثيرة أشهرها: 1 - الصلاة 2 - الزكاة 3 - الصوم 4 - الحج 5 - الخمس 6 - الجهاد 7 - الامر بالمعروف 8 - النهي عن المنكر 9 - الولاية 10 - البرائة من أعداء الدين.“ فلسفة الأخلاق الإسلامية. ماذا لو أن شخصاً لإجتهاد لم يؤمن بإحدى الفروع كالخمس مثلاً؟ يبقى على تشيعه لإيمانه بالأصول الأساسية ولا يخرجه ذلك المعتقد الفاسد في نظر الأعم الأغلب من دائرة التشيع. فلا يحق لأي شخص أن يقصي أي طرف يختلف معه على جزئية من فروع القضايا بذريعة الإختلاف.

مع الأسف الشديد يتزايد القول بالقوالب الفكرية والمجتمعية والذي يخرج عن هذا القالب - وإن خرج بالدليل - فهو ليس مني وخارجي لا ينتسب لي. ليت شعري إن كان ذلك وحسب لقلنا بأنه رأي، ولكن تعدى ذلك من القوة للحركة فصرنا نسمع بقضايا القتل بدم بارد. ينسى الكثير بأن الحقيقة لا يملكها أحد فضلاً عن مجتمع وهذا صريح القرآن إذّ يقول: ”وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ“ هود «118». من الخظأ أن نقول عن تلك الفتاة غير المحجبة هي ليست من مجتمعي ولا تمثلنا. أو أن ذلك الشاب ذو الفكر «التحرري زعماً» ليس من بلدي.

في الواقع لا تعتبر المشكلة مشكلتاً ولكن المشكلة هي ردة فعلك لها. الإختلاف في الفروع المتفق عليها تبدو «المشكلة» - عياً فكرياً في الشخص المختلف - ولكن سعة الصدر مع ذلك الإختلاف أول خطوات حلّ المشكلة. لأن الإحتواء وإرجاع من شذّ إلى قلب الفكر أو قلب المجتمع هو ما يشكل الرقي في المجتمعات. وذلك ما يدعو له النبي الأعظم صلى الله عليه وآله ”أستوسع رحمة الله“. فعندما تكون هنالك قضية بحاجة لعلاج لا بدّ من الإعتراف بها ومن ثم تحليل جذور المشكلة. ففي حالة الإختلاف في فروع المعرفة قدّ يكون الأساس داخلي أو خارجي.

يقول علماء التربية لا يمكنك عقاب الإبن إذا أخطأ في شيئ لم تبيه له من قبل. قدّ ترى ذلك من المسلمات البديهية لخلفيته المعرفية وللبيئة التي نشأت فيها. وذلك لا ينطبق على الكلّ لأن ما علمته قد جهله أو أغفله غيرك. ولعل ذلك هو سبب الإختلاف الرئيسي في فروع المعرفة حيث أنك لم تصل إلى ذلك المختلف ولم تجلس معه بحيث يسمعك. وأحياناً قد تكون المعلومة قد وصلت ولكن بطريق الخطأ أو بالشخص الخطأ في الوقت الخطأ. أصحاب الفكر السليم إذا اتبعو أسلوب الإفحام والغلظة في القول يكون سبباً مانعاً لتقبل الكلام. وكما أن سلب الأمل يكون مانعاً من العودة إلى القالب الفكري فمثلاً قول الواعظ لمن أكل الحرام أن لقمة الحرام تحجب الدعاء ولو أنقطع العنق من طول السجود. فهذا أسلوب يقطع الأمل.

أما السبب الخارجي فيكون في نفس الشخص المختلف. أي أن ذاك الشخص المختلف يكون فاقداً لعنصر أو عناصر تقبل الفكر. الحالة الوحيدة التي يكون فيها الإختلاف الفكري في فروع المعرفة مقبولاً هو أن يكون عن إجتهاد في الرأي. أما إذا كان الشخص يختلف عن عناد فهي مشكلة ذاتية متعلقة بالشخص نفسه. وفي الواقع يكون العناد في قبول شيئ ناشئ عن ترسبات لإضطرابات نفسية وسلوكية منذ المنشأ، فنجد كثيراَ ممن يرفضون الدين قدّ تعرضو لخيبة أمل أو صدمة أو إعتداء من ممثلي الدين. فهذه الفئة تحتاج لمتخصصين في علم النفس لمواجهتهم فقط. ومن موانع تقبل فروع المعرفة هي البيئة الفاسدة التي قد تتكون من: أهل - زوجة - صديق - ابن - مال.

الحلّ الأمثل لمواجهة من إتفقنا معهم في الأصل وأختلفنا معهم في الفروع هو العمل المؤسسي. عندما يكون كل شخص يلتزم بدوره يكون العمل منظماً ويخرج بأجمل صورة ويعطيه طابع الإنسيابية. بينما يكون العمل الفردي فالعشوائية تحكم عليه وإن كان كلّ فرد يحمل حماسة عالية لإن بعض الحماسة تكون سلبية كمن يدفع في إتجاهين مختلفين. تأمل في مشهد تشييع الجنائز. أفضل صورة معبرة للعمل المجتمعي المنظم ترى كل فرد يلتزم بدوره وهو أن يستلم النعش ممن يسبقه ويسلمه لمن يليه ويغض طرفه عمّا سوى ذلك.

النقطة الثانية معرفة المقدرة الشخصية في مراتب الدعوة الثلاث القرآنية. قال تعالى: ”ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ“ النحل «125». الخطوة الأولي: الحكمة. الخطوة الثانية: الموعظة الحسنة. الخطوة الثالثة: المجادلة بالأحسن. فتقييم الذات مهم جداً لأنه قد يكون ناجحاً على مستوى الحكمة، ضعيف في الخطوة التي تليها فيفسد ما بنى عليه. فهنا يجب الإرشاد للمتخصص.

وأخيراً، المطلوب منا هو الأخذ بيد من هو أقل منا وإحتوائه ورفعه لمستوانا لا إسقاطه. لأن وإن كنا أعلى منهم درجة فبالنتيجة هناك من هو أعلى منا درجة فقد يسقطنا هو الآخر كما روي عن الإمام الصادق : ”يا عبد العزيز إن الايمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست علي شئ حتى ينتهي إلى العاشر، فلا تسقط من هو دونك فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه جبره.“ فتحمل أن تكسر مؤمناً.

الخلاصة، إن قانون الثواب والعقاب قانون إنساني وضع لأجل صلاح المجتمع وتقويم الفرد فيه. فطبيعة النفس البشرية تحب جلب المنفعة لذاتها وتبعد الأذى والضرر عنها. فيكون الإقصاء عن منظومة المجتمع الخيار الأخير إذا كان فيه تخالف في أصل من أصل الفكر وهذا ما ضمنه القرآن الكريم في قضية ابن نبي الله نوح إذ قال: ”قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ“ هود «46». ولكن هذا لابد أن يتحقق وفق شروط ومعايير دقيقة وحساسة وأن لا يكون الإقصاء ممّن ليس لهم علم وقدرة على تشخيص أصول المعرفة من فروعها. فعلى الفرد الإلتزام بدوره ومحاولة إحتواء من اختلف معه في فروع المعرفة وأن يتسع الصدر لهم وإن لم نقبل فساد الفكر. إن لم نكن قادرين على إنارة دربهم ورفع منزلتهم فلا أقل جبر كسورهم. وأختم بهذا القول الشريف للصادق : ”ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّي يَأْتِيَكَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُكَ، وَ لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ سُوءاً، وَ أَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمِلًا.“ الكافي.