آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

فكرة التقدم من منظور ثلاثة تساؤلات

الشيخ زكي الميلاد * أفق

في المجال العربي الحديث والمعاصر هناك ثلاثة تساؤلات مهمة، يمكن من خلالها مقاربة فكرة التقدم بمنظورات مختلفة، مع ما بين هذه التساؤلات الثلاثة من تفاوت من ناحية الشهرة وأفق التداول، وكذا من ناحية الفاصل الزمني الذي يتخطى العقود من الزمان.

هذه التساؤلات الثلاثة وبحسب تعاقبها الزمني هي:

أولا: التساؤل الذي طرحه الأديب اللبناني شكيب أرسلان «1286 - 1366 هـ /1869 - 1946م»، وتحدد بهذا النحو: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ واختاره عنوانا لكتابه الوجيز الصادر سنة 1930م.

ثانيا: التساؤل الذي طرحه العالم الهندي الشيخ أبو الحسن الندوي «1333 - 1420 هـ /1914 - 1999م»، وتحدد بهذا النحو: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ واختاره كذلك عنوانا لكتابه الشهير الصادر سنة 1950م.

ثالثا: التساؤل الذي طرحته حديثا وأنسبه لنفسي، وتحدد بهذا النحو: ماذا كسب المسلمون من تقدم العالم؟ واخترته ليكون عنوانا شارحا لكتاب ما زال في طور الصدور.

من يتأمل في هذه التساؤلات الثلاثة، يرى أن كل واحد منها له بلاغته البيانية، وبنيته الدلالية، وحكمته النظرية، وزاويته التحليلية، وشبكته التفاعلية، وهي العناصر والأبعاد التي لفتت الانتباه لهذه التساؤلات، وحفزت على العناية بها، وجعلتها في دائرة التذكر وبعيدة عن الخفاء والنسيان.

ولكي تتكشف صورة هذه التساؤلات، ويتضح ما بينها من فروقات ومفارقات قد تأتلف وقد تختلف، نحن بحاجة إلى التوقف عندها بطريقة تحليلية تشرح بنيتها وحكمتها وأفقها، وتقترب من حقلها الدلالي.

التساؤل الأول: لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟

جمع هذا السؤال ما بين بلاغة المبنى وقوة المعنى، ويعد من أكثر التساؤلات نجاحا في الأدب العربي الحديث والمعاصر، ويصلح من هذه الجهة أن يكون نموذجا للسؤال الناجح، ويحق أن يضرب به المثل على ذلك، فلو أردنا البحث عن الأسئلة التي عرف عنها النجاح والتفوق في المجال العربي الحديث والمعاصر، لكان هذا السؤال في المقدمة.

ومن أهم المقاييس الدالة على نجاح هذا التساؤل وتفوقه، كونه سؤالا لم يستنفد أو يستهلك، ولم يصبح سؤالا باليا وعتيقا وقديما، بل ما زال سؤالا حيا وحاضرا ومؤثرا، ويجري التعامل معه كما لو أنه سؤال اليوم وليس سؤال الأمس، وبوصفه سؤالا حديثا ومعاصرا وأكثر حداثة ومعاصرة من العديد من التساؤلات الأخرى التي طرحت وتطرح في وقتنا الراهن.

أما الذي جعل هذا السؤال يكون باقيا وحاضرا ومؤثرا، هو طبيعته المركبة، وطابعه المقارن، ولو لم يكن بهذه الطبيعة وبهذا الطابع لما اكتسب صفة البقاء والحضور والتأثير، ولو جاء السؤال مكتفيا بالمقطع الأول لماذا تأخر المسلمون؟ لكان سؤالا عاديا من جهة، وناقصا من جهة أخرى.

عاديا، لكون أن التساؤل عن: لماذا تأخر المسلمون؟ من السهل التنبه له، ومن البساطة الحديث عنه، ولكونه أيضا تساؤلا مطروحا ومتداولا بهذه الصيغة التي تفتقد إلى عنصر الإثارة والدهشة، العنصر الذي يرفع من قيمة السؤال، ويدفع به نحو المجال التداولي، وبه تتحدد حيوية السؤال وديناميته.

وناقصا، لكون لا يكفي معرفة لماذا تأخر المسلمون؟ فالإجابة عن هذا السؤال تكون ناقصة ومبتورة من دون معرفة ولماذا تقدم غيرهم؟ وذلك راجع إلى أمرين متلازمين، الأمر الأول له طبيعة سننية، والأمر الثاني له طبيعة موضوعية.

بشأن الأمر الأول ذي الطبيعة السننية، فمن الواضح أن قوانين التأخر هي غير قوانين التقدم، بمعنى أن التأخر يكون محكوما بقوانين بسببها يحصل التأخر، وعند حصوله لا بد من النظر إليه على أساس هذه القوانين. وهكذا التقدم يكون محكوما كذلك بقوانين بسببها يتحقق التقدم، وعند تحققه لا بد من النظر إليه على أساس هذه القوانين.

فلا يكفي معرفة قوانين التأخر، بل لا بد من معرفة قوانين التقدم أيضا، وبحسب هذه القاعدة، لا يكفي معرفة لماذا تأخر المسلمون؟ السؤال الذي ينطبق عليه قوانين التأخر، بل لا بد كذلك من معرفة لماذا تقدم غيرهم؟ السؤال الذي ينطبق عليه قوانين التقدم.

وبشأن الأمر الثاني ذي الطبيعة الموضوعية، فإن التأخر والتقدم لهما واقع وموضوع متحقق على الأرض في داخل عالمنا، وينبغي النظر لهما في داخل عالمنا، وليس خارجه أو بعيدا عنه.

وأن التأخر والتقدم الذي نقصده هو ما نراه حاصلا في واقعنا اليوم، الواقع الذي يجعلنا نتنبه دائما وباستمرار إلى حالة الشعور بالتأخر من جهة، والحاجة إلى التقدم من جهة أخرى، وتقدم الغير هو الذي ينبهنا إلى تأخرنا، ولولا تقدم الغير لما تنبهنا نحن إلى تأخرنا.

التساؤل الثاني: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟

اختار الشيخ الندوي هذا التساؤل عنوانا لباكورة مؤلفاته، وهو الكتاب الذي عرف واشتهر به في المجال العربي، خاصة وأنه أصدره في القاهرة عن طريق لجنة التأليف والترجمة والنشر، وأشرف على طباعته في وقتها الكاتب المصري أحمد أمين «1295 - 1373 هـ /1887 - 1954م».

وفي سنة 1981م عند كتابة مقدمة الطبعة الثالثة عشرة من الكتاب، أي بعد ما يزيد على ثلاثة عقود، وعند النظر من جديد في موضوع الكتاب اعتبر الشيخ الندوي أن موضوعه كان طريفا ومبتكرا، وهذا في نظره من أسباب انتباه كثير من الناس له، وإثارته لدهشة الكثير منهم.

وأراد الندوي من هذا التساؤل، تجاوز الإطار التقليدي الذي فرض حسب قوله، على الكتاب والمؤلفين العرب والعجم، الذين اعتادوا النظر إلى المسلمين من خلال العالم، في حين أنه أراد النظر إلى العالم من خلال المسلمين، بخلاف ما سماه المنهج الفكري العام، وأسلوب البحث الدائم والمتبع.

ولهذا يرى الندوي أن بدل التساؤل عن: ماذا خسر المسلمون بسبب نهضة الغرب الحديثة؟ وماذا خسر المسلمون بسبب الثورة الصناعية الكبرى التي حصلت في الغرب؟ وغيرها من التساؤلات التي تتصل بهذا المنهج، بدلا عن ذلك تساءل الندوي متقصدا: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ منطلقا من خلفية أن المسلمين هم الفاعل العالمي المؤثر في مجاري الأمور في العالم كله.

وفي وقت لاحق، ومن منظور نقدي وتقويمي مقارن وجد الدكتور رضوان السيد في كتابه «سياسيات الإسلام المعاصر.. مراجعات ومتابعات» أن تساؤل الندوي جاء معبرا عن تحول وصفه بالانكماشي في طريقة فهم المسألة الحضارية الكبرى، جعلت من تساؤل الندوي يتقدم على تساؤل شكيب أرسلان لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟

إذا صح هذا التقدم الذي يقول به الدكتور السيد، فإنه لم يحصل بالتأكيد نتيجة تفوق تساؤل الندوي، لا من الناحية البلاغية، ولا من الناحية الدلالية، كما لم يحصل نتيجة الفارق الزمني الذي يفصل بينهما، وكون تساؤل الندوي أكثر حداثة من هذه الناحية الزمنية، ولا حتى نتيجة اعتبار أن تساؤل أرسلان قد فقد بريقه واستنفد أغراضه وانخفضت قيمته، وإنما حصل نتيجة تغير في الروح العامة التي جعلت الفكر العربي والإسلامي ينفصل ويتباعد عن روح عصر الإصلاح العربي والإسلامي.

وهنا نقف على الفارق الجوهري والبنيوي ما بين التساؤلين، فتساؤل أرسلان ينتمي إلى روح عصر الإصلاح العربي والإسلامي الذي كان قريبا منه، ومتصلا به، ومنخرطا فيه، والمسكون بهاجس التأخر والتقدم، في حين أن تساؤل الندوي ينتمي إلى روح ما بعد عصر الإصلاح الذي كان قريبا منه، ومتصلا به، ومنخرطا فيه، والمسكون بهاجس الهوية والتراث.

التساؤل الثالث: ماذا كسب المسلمون من تقدم العالم؟

تقوم فلسفة هذا التساؤل على أساس استعادة العلاقة مع فكرة التقدم، وتغليب هذه الفكرة، واعطائها صفة الأفضلية، وتحريكها وإدماجها في مجالنا التداولي، والعمل على تحويلها إلى أن تصبح فكرة مركزية في خطابنا الفكري والثقافي، وذلك بعد أن تراجعت هذه الفكرة وانكمشت وكادت تغيب وتتلاشى.

وفي هذا النطاق كذلك، يحاول هذا التساؤل أن يكون التقدم هو منظورنا إلى العالم، نريد تحصيل التقدم من العالم، ونواكب العالم في تقدمه، فالعالم يتقدم من حولنا ويشهد ثورات كبرى ومتلاحقة تثير الدهشة والإعجاب، ونحن في مكان آخر، كنا وما زلنا على هذا الحال منذ أن مرت علينا الثورة الصناعية الكبرى في أوروبا مطلع القرن العشرين، إلى هذا الوقت الذي تمر علينا فيه الثورة الصناعية الرابعة.

الثورة التي من شأنها كما يقول مؤسس منتدى دافوس الدولي كلاوس شواب في كتابه «الثورة الصناعية الرابعة» الصادر سنة 2016م، أن تغير ليس فقط شكل الصناعات وطرق الإنتاج، ولكن أيضا المنظور المعرفي للبشر تجاه الأشياء بصورة عامة.

والمفارقة المهمة في هذا التساؤل هو أنه من ناحية الروح العامة يتقارب مع تساؤل أرسلان من جهة، ويتفارق مع تساؤل الندوي من جهة أخرى، يتقارب مع تساؤل أرسلان في تغليب فكرة التقدم، ويتفارق مع تساؤل الندوي في طريقة النظر إلى الذات، وطريقة النظر إلى العالم.

نشرة شهرية تصدر عن مؤسسة الفكر العربي، ديسمبر 2018م، العدد 87
كاتب وباحث سعودي «القطيف»